شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الموت الأسود والهلع الشامل... كيف تعاملنا في الماضي مع الوباء؟

الموت الأسود والهلع الشامل... كيف تعاملنا في الماضي مع الوباء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 14 مارس 202005:14 م

"اكتسب هذا الوباء قوة هائلة؛ فالمرضى ينقلونه إلى الأصحّاء حين يتصلون بهم، مثلما تنتقل النار إلى الحطب الجاف حين تكون قريبة منه. وواصل المرض انتشاره باطراد إلى حد لم يعد معه التحدث أو التعامل مع المرضى وحده ينقل عدوى المرض، وإنما كذلك ملامسة ملابس المرضى أو أي شيء استعمله المصابون أو لمسوه".

ليست هذه الكلمات من بيان مدير منظمة الصحة العالمية الذي أعلن فيه أن فايروس كورونا قد غدا جائحة عالمية، يوم الأربعاء 11 آذار / مارس، بل هي ما خطّه جيوفاني بوكاتشيو في كتاب الديكاميرون (ترجمة صالح علماني)، قبل أكثر من 650 عاماً، في وصف الطاعون.

لكن الإعلام اليوم يستحضر جائحات تاريخية، غيّر بعضها وجه البشرية، لمقارنتها مع فايروس كورونا، مثلما قدّم لنا التاريخ والأدب والسينما، نظرة على أوجه الشبه والخلاف بين فايروس كورونا وأوبئة سابقة، أو أخرى نسجها الخيال.

من تويتر الدكتورة كاميليا أتاناسوفا، "دعاء الطاعون من القران الرابع عشر من مصر 

الموت الأسود

يستخدم بعض الصحفيين اليوم كلمة الطاعون للحديث عن فايروس كورونا، رغم الفارق الكبير بين الجائحتين، فالأولى، التي أصابت أوروبا والعالم في منتصف القرن الرابع عشر، وعُرفت بـ "الموت الأسود"، كانت أقسى جائحة سجلها تاريخ البشرية، إذ حصدت أرواح ما يُقدّر بثلث سكان أوروبا آنذاك، فيما يقدّر معدّل الإماتة الوسطي لفايروس كورونا حتى لحظة كتابة هذا المقال، بـ3.4% ممن يصابون به.

لم تتمكن مدن مثل فلورنسا من التعافي من آثار الموت الأسود إلا بعد خمسة قرون، والمدينة نفسها اليوم، كما كل مدن إيطاليا، أكبر حاضنة للفايروس في أوروبا، تخضع للحجر الصحي نتيجة كورونا فايروس. ومصطلح الحجر الصحي بالإنكليزية Quarantine يأتي من اللغة البندقية، المنسوبة للمدينة الإيطالية ذات الاسم نفسه، بمعنى "أربعين يوماً"، وهي فترة تطبيق العزل الصحي التي اتّبعت هناك أثناء الموت الأسود.

وربما شابه كورونا فايروس الطاعون بأوجه أخرى، مثل كون الاثنين سريعي الانتشار، آسيويي المنشأ، ولهما آثار متشابهة نسبياً على السلوك العام.

في وصفه لردّ فعل الناس إثر انتشار الطاعون في أوروبا، كتب بوكاتشيو في مطلع كتابه، أن "جميعهم تقريباً يتطلعون إلى هدف وحيد وقاس: تجنّب المرضى والهرب منهم ومن أشيائهم، معتقدين أنهم بعمل ذلك يحفظون حياتهم".

"يقولون إنه ليس هناك دواء أفضل من الهرب من الداء"، يضيف بوكاتشيو، "لقد ملأ الرعب قلوب الرجال والنساء".

لعل عدداً كبيراً من قرّاء هذا المقال يمكثون اليوم في بيوتهم ضمن نوعٍ من الحجر الصحي الاحتياطي، "هرباً من الداء" الناتج عن فايروس كورونا الذي اجتاح 114 دولة حتى اللحظة.

من المسؤول عن الطاعون؟ الأعداء، الغرباء، بائعات الهوى، اليهود، أم الفقراء؟ 

الإنفلونزا الإسبانية

يحكي مسلسل الدراما التاريخية الإنكليزي، داونتون آبي (2010- 2015) - أحد المسلسلات الأكثر مشاهدة في التاريخ- كيف غيّرت ظروف الحرب العالمية الأولى وحقبة ما بين الحربين، نمط حياة عائلة كرولي الارستقراطية والخدم العاملين في منزلهم بريف إنكلترا.

مع نهاية الحرب، في الجزء الثاني من المسلسل، تدخل الإنفلونزا الإسبانية منزل العائلة، وتصيب السيد كارسون، رئيس الخدم، الليدي غرانثام، زوجة بطريرك الأسرة ولافينيا خطيبة وريثه.

الإنفلونزا الإسبانية قتلت حوالي 50 مليون شخص حول العالم، بحسب التقديرات، أي ما يعادل 200 مليون شخص اليوم، بهذا تكون الإنفلونزا قد أودت بحياة أناس أكثر مما فعلت الحرب العالمية الأولى نفسها (20 مليوناً).

وكان أبرز ضحايا الإنفلونزا الإسبانية صغار الراشدين ذوي الصحة الجيدة، الذين تتراوح أعمارهم بين العشرينات والأربعينات، بعكس فايروس كورونا الذي يفتك بالأكبر سناً والأضعف صحة. في داونتون آبي، بالفعل، توفّيت لافينيا الشابة رغم أن الليدي غرانثام والسيد كارسون يكبرانها بكثير.

من كتاب حنّا دياب يتحدث فيها عن حالة حجر صحي خضع لها في القرن الـ18. ترجم الكتاب وحرره الباحثان يوهانس شتيفان وإلياس مهنا، والذي سيصدر عن المكتبة العربية للأدب LAL 

شارك هذا المقتطف إلياس مهنا في حسابه على تويتر

الحمّى القرمزية

كتبت لويزا ماي ألكوت، روايتها نساء صغيرات، المبنية على حياة ألكوت وأفراد أسرتها، بعد عشر سنوات من جائحة الحمى القرمزية، في ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأميركية عام 1858. أودت تلك الحمى بحياة 2089 شخصاً، 95% منهم أطفال دون عمر الـ 15، بينهم ليزي آلكوت، أخت لويزا الصغرى.

وفي "نساء صغيرات" تفطر آلكوت قلوب قرّائها حين تؤدي الحمى القرمزية لموت بيث مارتش، إحدى الأخوات الأربع اللاتي تدور أحداث الرواية حول حياتهن، وأكثرهم طيبة، فرغم مساعدة الأخوات وأمهم للنازحين الألمان الفقراء من عائلة هَمل، وقعت بيث، ذات الـ13 عاماً، ضحية العدوى من صغير عائلة هَمل وحدها.

في حالة فايروس كورونا، أغلب الحالات التي تم تسجيلها حتى الآن هي من الراشدين، ولا دليل على أن الفايروس يشكّل خطراً أكبر على الأطفال الصغار، بل تشي الإحصائيات المتوفرة حالياً بالعكس.

الخيال العلمي ونظريات المؤامرة

"ما سرّ الإقبال على قصة يمرض فيها الجميع تقريباً ويموتون؟"، سألت مراسلة الإذاعة الوطنية العامة الأميركية (إن بي آر)، ندى علبي، الروائي تشاك وينبي، الذي قال بأن الحديث عن هذه الأزمات في الكتب يشبه استحضار الأرواح، "فبهذه الطريقة، يمكنك قتال (تلك الأرواح)".

"أنت تتعاملين مع ما بعد العولمة، وأعتقد أنك بدأتِ برؤية الناس وهم يربطون بين الطريقة التي نعامل بها البيئة والطريقة التي تعاملنا هي بها"، قال الكاتب وصانع الأفلام جيف بارنابي لعلبي. أعدّ بارنابي فيلماً، العام الماضي، عن فايروس يحوّل الناس إلى زومبيز، لكن لدى السكان الأصليين في أميركا مناعة منه.

لعلّ أحد أشهر الأمثلة الأدبية التي روجت لفكر نظريات المؤامرة فيما يخص الجوائح كان كتاب ستيفن كينغ الأكثر طولاً، ذا ستاند (1978)، حيث يقود تسريب فايروس، صنعه مركز أبحاث عسكري مختص بالحروب البيولوجية، إلى جائحة تقتل 99% من سكان العالم. كينغ تطرّق لهذا النوع من الكتابة في قصة قصيرة نشرها عام 1969، اسمها نايت سرف، يحكي فيها عن مجموعة من خريجي الجامعة في أميركا، ممن كانوا بين الناجين القلائل، بعد أن قتل فايروس اسمه A6 معظم سكان الأرض.

"جميهم تقريباً يتطلعون إلى هدفٍ وحيدٍ وقاس: تجنّب المرضى والهرب منهم ومن أشيائهم؛ معتقدين أنهم بعمل ذلك يحفظون حياتهم،" بوكاتشيو قبل سبعة قرون أم نشرة أخبار الأمس؟

أما في كتاب "الجحيم" للروائي الأميركي دان براون (2013)، يصمّم أحد عباقرة علم الجينات فايروس قادراً على إجراء تعديل جيني لدى الناس، بغرض إصابة ثلث سكان الكرة الأرضية بالعقم. العالم المذكور، والمهووس بكتاب الجحيم لدانتي، ولوحة بوتيتشيلي التي تصوّر ذلك الجحيم، صمّم الفيروس من منطلق بحثه عن حل لأزمة تفاقم عدد سكان الأرض.

لا يقتصر خلط العلم بالخيال فيما يخصّ الأوبئة على الأدب والسينما، إذ تنتشر نظريات مؤامرة حول منشأ كورونا فايروس في كافة دول العالم، بين من يقول إنه صمم في مركز عسكري صيني لاستخدامه في الحرب، لكن تم تسريبه (في سيناريو مشابه لرواية كينغ)، إلى من يقول إن ترامب أمر بتصميمه ونشره في الصين لإضعاف تجارتها.

هلع وعنصرية ونظريات مؤامرة ... أين تلتقي الجوائح التاريخية والمعاصرة؟  

وكما هو الحال مع باقي الآثار الاجتماعية للأوبئة، لم تبدأ نظرية المؤامرة النابعة عنها مع فايروس كورونا، "إحدى نتائج الطاعون الاجتماعية الأكثر توثيقاً في أوروبا أواخر العصور الوسطى، كان العنف الذي تعرّض له غالباً اليهود، الذين اتُّهموا بتسبيب الطاعون عبر تسميمهم للآبار،" تقول البروفسور المساعد في تاريخ العلم بجامعة هارفارد، هانا ماركوس، في جريدة نيويورك تايمز.

كما شك الناس بدور اليهود في الطاعون نتيجة قلة إصابتهم به، وهو ما يمكن تعليله بتركيز الدين اليهودي على النظافة الشخصية، والعزل العنصري لليهود منذ ما قبل انتشار الطاعون، ما أدى لانخفاض الانتشار بينهم.

وفي عهد الإنفلونزا الإسبانية، قبل حوالي مئة عام، لم يعرف سببها، ما قاد الكثيرين للإيمان بأن ألمانيا ابتكرت الفايروس كسلاح لتستخدمه في الحرب.

العنصرية والاضطهاد

خلا العديد من المطاعم والمحلات الصينية، والشرق آسيوية بشكل عام، من الزبائن، منذ بدء الانتشار الواسع لفايروس كورونا. يتعرض الكثير من الصينيين، أو ذوي الأصول الصينية اليوم حول العالم لمواقف عنصرية، فقط بسبب شكلهم. تقول طالبة فرنسية من أصل صيني لرصيف22: "زرت الصين مرتين في حياتي، الأولى في صِغري، والثانية منذ خمس سنوات، اليوم إذا عطست في مكان عام أو حتى إذا مشيت في الشارع، أرى أن نظرات الناس إلي باتت مشحونة بالعنصرية، أشعر، في مدينتي (باريس)، كأنني جرثومة متحركة".

"ينبغي أن نحترس من الطرق التي يمكن أن يؤدي انتشار الأمراض من خلالها إلى اضطهاد الناس المهمّشين"، تقول د. ماركوس في مقالها، "منذ اندلاع فايروس كورونا، شهدنا انتشاراً واسعاً للتمييز العرقي وأعمال العنف ضد الآسيويّين … وفي إيطاليا، تختلط المشاعر المعادية للمهاجرين بالقلق الناتج عن الفايروس الجديد".

" انزلاق مشابه من المرض إلى اتّهام فئات مجتمعية مستضعفة هو نتاج رأيناه عبر التاريخ، حيث تمّ إلقاء اللوم على الأجانب، بائعات الهوى، اليهود والفقراء على أنهم سبب الطاعون".

وفي حين أقلق بوكاتشيو في الديكاميرون كيف أن "سلطة القانون، سواء الإلهي أو البشري، قد انهارت واختفت تماماً"، لأن أحبار المدينة والقائمين عليها "ماتوا أو أصيبوا بالمرض ... أو أنهم ابتعدوا بأسرهم، بحيث لم يعد بإمكانهم ممارسة مهامهم"، تقلق ماركوس من "انهيار قوانين مجتمعنا وقيمنا الأخلاقية في وجه الخوف والمرض"، وتنصح بالاحتراس ليس فقط من العدوى، "ولكن أن نحترس أيضاً من غرائزنا البشرية".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard