أسمع صوت والدتي على الطرف الآخر من بقايا الوطن، تسألني كيف الأحوال، فأقول بامتنان: "أمورنا عادية، لا تقلقي"، فتجيبني: "الحمدلله... الله يديم نعمة اليوم العادي". مكالمة معتادة نجريها كل يوم عبر شبكة الإنترنت ونكرر فيها أمنيتنا المشتركة بيوم طبيعي إلى حد الملل.
فكل ما تبقى لنا هو التطلع لحياة عادية أو أقل بقليل، وبات كل ما يهم هو ألا نصاب بفاجعة فنفقد عزيزاً أو يُصاب أحباؤنا بالمرض. أما خسارة عمل أو المعاناة من ضيقٍ مادي أو شتات وانتظار أوراق تثبت أننا كائنات بشرية يحق لنا ما يحق لغيرنا، وغيرها من الظروف التي اعتاد سكان الأرض على تصنيفها كظروفٍ قاهرة، فلا يعنينا من أمرها أكثر من اعتبارها هموماً روتينية اعتيادية. فدوماً عندما نصاب نؤمن بأن هناك مصيبة أكبر نحمد الله أننا لم نصب بها، فعتبة الألم المعنوي لدى السوريين مرتفعة ومتلازمة الجدار العاطفي باتت مألوفة.
نراقب الهموم العادية للجنسيات الأخرى ونضحك في سرنا متمتمين: كم هم مدللون لا يُدركون النعم.
نراقب الهموم العادية للجنسيات الأخرى ونضحك في سرنا متمتمين: كم هم مدللون لا يُدركون النعم.
أفشل دوماً في إحصاء البيوت التي عشت فيها والمدارس التي التحق بها أولادي، وفي حديثٍ مكرر، يسألني الأولاد دوماً عن موعد رحلتنا القادمة، وأدرك أن هذا هو الأثر الناجم عن الترحال، خصوصاً عندما أجد ولدي يتنقل بين ثنايا البيت وينام كل ليلةٍ في زاوية مختلفة، وأشعر أني ممتنة لسقوفٍ كثيرة سمحت لي بوضع أبنائي تحتها وامتنعت بحزم عن ضمها إلى قائمة ذكرياتي، في حين أن الكثيرين لم يجدوا سوى القماش أو أسقف التوتياء الصدئة لتواريهم.
وأتذكر أنني في صغري كنت أحلم بحياة السفراء لكثرة تنقلاتهم. واليوم أصبح السوريون جميعاً سفراء للحزن والقصص التراجيدية والندب.
نغلق، نحن المُبعَدون، منافذ الأخبار لمتابعة عملية التأقلم الشاقة، ونسترق السمع بين الحين والآخر على خبر شح المازوت وقلة الكهرباء وطوابير البنزين والحرائق، فنتألم دون جدوى، ونحن نحمل ذنباً لهروبنا خارج الدوامة، مثقلين بعذاب الضمير لأننا ننعم بالكهرباء وبسقفٍ يظلّ رؤوسنا. ونستغل كل متعةٍ وكل فرحٍ بسيطٍ لنخزنه كوقودٍ أبيض ليومٍ أسود، ونتابع الأمل في الحصول على حياة عادية من دون مبالغة أو طموح، ممتنين لكلّ نعمة ندركها من حولنا، ونعيش في النهار هنا وفي الليل نعيش هناك عند من تركنا خلفنا من أحبةٍ وذكرياتٍ وأحلامٍ وقبور.
يعيش جيلنا، جيل الثورة المكلومة وضحية الأزمة الأخلاقية والعاطفية، شتاتاً نفسياً وجغرافياً بالغاً، فلم تعد هناك عائلة لم تترام أطرافها في منحنيات الأرض، فأكبر النعم وأجملها عندما تغترب عائلةٌ بكاملها ويحطّ بها الرحال في بقعةٍ واحدة محققةً أقصى درجات الحلم
نطوي الأيام ونحن نحلم بوطنٍ يجمعنا مع من نحب، ونتطلع للخلف بحسرةٍ ونحن نعد السنوات التي لم نقضها مع أعزائنا.
يعيش جيلنا، جيل الثورة المكلومة وضحية الأزمة الأخلاقية والعاطفية، شتاتاً نفسياً وجغرافياً بالغاً، فلم تعد هناك عائلة لم تترام أطرافها في منحنيات الأرض، فأكبر النعم وأجملها عندما تغترب عائلةٌ بكاملها ويحطّ بها الرحال في بقعةٍ واحدة محققةً أقصى درجات الحلم.
كل ما أرغب فيه اليوم هو الاحتفاظ برصيدٍ إضافي لأيام أقضيها مع أهلي وأحبتي، وبضع نظراتٍ مسترقة إلى السماء أتذكر فيها كم كنت أحلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...