للشعوب عادات وتقاليد غريبة وغير معقولة، لكنها تظل راسخة في وجدان المؤمنين بها، وتنهزم أمامها كل الأصوات الرافضة لوجودها، بما في ذلك صوت العلم أو حتى فتاوى رجال الدين.
وبما أن دورة الحياة تتجدد بوصول مواليد جدد، فإن الأمهات تحرصن على فعل كل شيء يحمى أطفالهن، ويعتقد البعض في مصر أنّ رحلة تأمين مستقبل الضيف الجديد، المادي والوظيفي وحتى الأخلاقي، تبدأ بعد أسبوع من ولادته، برمي الجزء المتبقي من الحبل السري بعد الولادة، في أماكن بعينها، ليكون سعيداً في حياته، لذا يحرص الوالدان على إلقائها في مكان له قدسيته، كالمسجد والكنيسة، أو في أماكن العلم، كالجامعات المرموقة والمدارس.
مباراة بين العلم والخرافة في ظلّ الاتجاه العالمي لإنشاء بنوك يتم فيها تخزين الحبل السري، بهدف استخدام خلاياه الجذعية في علاج العديد من الأمراض التي قد تصيب الأطفال في المستقبل، لكن ذلك لم يثن بعض الآباء والأمهات عن يقينهم الكامل بأن الحبل السري أو قطعة مصران جافة تحمل شفرة مستقبل أبنائهم.
المسجد والكنيسة وكليات القمة والمدارس والبنوك، تأتي على رأس قائمة الأماكن التي يفضل المصريون دفن الحبل السري، أو "سرّة" مواليدهم فيها، فتعلقه بالمدرسة يضمن تفوقه الدراسي، والتحاقه بكليات مثل الطب والشرطة والحربية، يضمن له مستوى وظيفياً مرموقاً، أما البنوك فتجعله مؤهلاً لامتلاك أموال طائلة.
بعض الآباء والأمهات يخشون التفريط بـ"سرة" المولود، ويحفظونها داخل حافظات نقودهم، حتى يكون الطفل ثرياً، والبعض يضعها داخل كتاب ليكون محباً للقراءة.
"أسرارهم في الجامع"
موسى عبدون (40 عاماً) يعمل في بازار سياحي، يقول كلّما مررت على مدرستي الابتدائية، خاصة برفقة والدتي، تضحك وتقصّ عليّ حكاية إلقاء سرّتي داخلها، وأنها كانت سر تفوقي.
"مرت السنون، تزوجتُ وأنجبتُ طفلي الأول، فوجدت نفسي أمارس نفس العادة، ووضعت سرة طفلي في منديل، وذهبت لألقيها داخل إحدى المدارس الأزهرية، مبرراً ذلك بأن غالبية الأشخاص المتدينين وذوي الخلق الذين أعرفهم، أسمع الناس يقولون عنهم إن أسرارهم مدفونة في الجامع"، يحكي عبدون.
تسترجع دنيا سعيد ضاحكة، (38 عاماً) ربة منزل تسكن في محافظة بورسعيد، بين الحين والآخر، حكايات أبيها عن مغامراته من أجل أن يلقي سرتها هي وشقيقتها التوأم في مياه البحر، كان يقول، حسب حديثها لرصيف22، أنّ إلقاء "سرة" المولود في البحر تجعل رزقه واسعاً ويسيراً.
"لم يكن الأمر مجرد سلوك متوارث بالنسبة له، ولكنه كان يؤمن بذلك، لأن والدي، ألقت عائلته بسرته داخل مديرية الأمن بالمحافظة عقب ولادته، والمدهش أن والدي أصبح بالفعل ضابط شرطة، وكان يحب مهنته بشكل جنوني، واستطاع أن يحقق فيها الكثير من الإنجازات في سن صغيرة".
وعن رأي دنيا في قناعة والدها تلك، تقول: "لا أعرف، هل ما جرى كان سبباً في تحقيق حلم أسرة والدي، أم أنها الصدفة؟".
وتستطرد دنيا في حكاياتها عن "سرة" المولود، قائلة: "حكت لي صديقتي أن إلقاء السرة في البحر له طقوس، وينبغي على الشخص أن يبتسم وهو يلقى بالسرة في البحر، حتى يكون المولود سعيداً في حياته".
"سرة ابني في الزبالة"
طارق أبو جبل، منسق إعلامي لإحدى الشركات، وهو من إحدى محافظات الصعيد، يروي قصة والدته التي طلبت منه أثناء مرحلة الدراسة الابتدائية، أن يلقي بـ"سرة" أخيه في حديقة المدرسة، يقول لرصيف22: "وضعت لي السرة في جيبي، بعد أن لفتها في قطعة قماش بيضاء، وطلبت مني أن ألقيها في المدرسة، كنت خائفاً من أن يراني زملائي أو أحد المدرسين، كنت في الصف الرابع وقتها، وفى الفسحة تسللت إلى حديقة المدرسة، ودفنتها في أرضيتها".
يشدد أبو جبل على عدم إيمانه الآن بهذه المفاهيم، خاصة بعد أن رأى بعينيه أخيه الأصغر غير متفوق في الدراسة، ويقضي معظم وقته في لعب الكرة، وكذلك أكثر إخوته ينفرون من المدرسة.
"عندما أنجبت طفلي الأول، اقترحت عليّ زوجتي أن ألقي بسرته داخل أسوار القصر الجمهوري، ليصبح رئيساً، شككتُ أنها تريد التخلص مني، فدفنتها في حديقة منزلنا"
يضيف طارق ساخراً: "عندما أنجبت طفلي الأول، اقترحت عليّ زوجتي أن ألقي بسرته داخل أسوار القصر الجمهوري، في حي مصر الجديدة، ليصبح رئيساً لمصر في المستقبل، اعترضتُ بالطبع خوفاً من رجال الأمن هناك. اقترحتُ أن ألقي "السرة" داخل قصر عابدين، فهو قريب من بيتنا وأمامه حديقة عامة، ولو فعلت ذلك لن يلحق بي ضرر، لكنها أصرت على قصر الاتحادية في مصر الجديدة، ساورني شك وقتها أنها تريد التخلص منى، وفى نهاية الأمر قمت بدفن السرة في حديقة بيتنا".
أما محمد السيد، موظف في شركة خاصة، يقول إنه رمى "سرة" ابنه في حاوية الزبالة، وبعدها بأيام جلس مع رفاقه على المقهى، وسمع لأول مرة عن عادة إلقائها في أماكن بعينها، مثل المسجد أو المدرسة، ورغم ذلك لم يشعر بالذنب.
يقول محمد لرصيف22: "أحسست بأن الأمر غير عقلاني، لكن كنت أصاب بنوبات ضحك عندما أتخيل أني حكمت على طفلي بأنه سيكون عامل نظافة".
"ابني تائه والسبب سرته"
تشير نيفين أبانوب، مديرة صالون تجميل، تعود جذورها إلى الصعيد، وتسكن في مصر الجديدة، أن هذه العادة لا تقتصر على المسلمين فقط في مصر، ولكنها موجودة أيضاً بين المسيحيين، ويتجلى ذلك بحرص الآباء والأمهات على إلقاء "سرة" المولود داخل الكنيسة، ليصبح الطفل تقياً ومحافظاً على الصلاة، حسب وصفها، وهو ما فعلته مع ابنها الأصغر، وروت قصت والدة زوجها التي أمرت إحدى بناتها بأن تلقى "سرة" حفيدها داخل أحد محلات الذهب الشهيرة، ليصبح ثرياً في المستقبل.
وتحكى نيفين قصة صديقتها التي ضاعت منها "سرة" ابنها منذ سنوات، وأن الأمر وقتها سبّب لها حالة من الضيق والحزن الشديدين، وظلت بعد ذلك تؤكد أن ابنها أصبح مشتت الانتباه، ودائماً ما يبحث عن أشياء لا يجدها في المنزل، مرجعة ذلك لما حدث له بعد ولادته، وضياع سرته.
ورغم أن بعض المؤمنين بقدرة "السرّة" على ضمان ارتباط أبنائهم في المستقبل بدور العبادة والحرص على الصلوات، لكن الشيخ أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف في القاهرة، يصف تلك العادة بـ"المرذولة"، وأنها خرافة ينبغي معالجتها دعوياً وتعليمياً وإعلامياً، وأن "كل الأمور في حياتنا وحياة أبنائنا تجري بقدر الله وحده".
وأوضح أستاذ الشريعة في تصريح لرصيف22: "السنّة أوضحت كيفية التعامل مع أي جزء آدمي، عن طريق دفنه في التراب".
طقوس العبور
ترى نهلة إمام، باحثة الفولكلور والمعتقدات الشعبية، وعضو لجنة التراث الثقافي بالمجلس الأعلى للثقافة، أنه مع ولادة كل طفل تنتهج الأسر المصرية بعض المعتقدات التي يطلق عليها طقوس العبور، لدمج هذا العضو الجديد في المجتمع، وفقاً لثقافتها.
وتضيف باحثة الفلكلور في حديث لرصيف22: "مثل هذه المعتقدات الشعبية تعكس آمال وأحلام الآباء والأمهات لأولادهم وبناتهم، ورغبتهم بأن يعيشوا حياة أفضل، مؤكدة أن مثل هذه الممارسات لا تضر الدين ولا تتعارض معه في شيء، ولا تشكل ضرراً على الإنسان أو المجتمع".
واستنكرت إمام وصف هذه الممارسات بأنها خزعبلات، ورفض علماء الدين لها وكأنها شرك بالله، واصفة الأمر بأنه أبسط من كل هذه التأويلات، وأنها لو كانت شركاً لما سعت العائلات لرمي "سرة" أطفالهم في أماكن العبادة.
موضحة أن لكل مجتمع، حتى وإن بلغ قمة التحضر، بعض الطقوس الخاصة، التفاؤل ببعض الأمور والرغبة بمعرفة المستقبل، وهذه طبيعة إنسانية، ولا يتم تحليلها باعتبارها ظاهرة سلبية أو عاكسة للتخلف، مطالبةً الناس ورجال الدين بضرورة احترام مثل هذه الممارسات، بوصفها وسيلة للإشباع النفسي وطمأنة النفس البشرية، وهذه هي إحدى وظائف التراث الشعبي.
رمى "سرة" ابنه في حاوية الزبالة، وبعدها بأيام جلس مع رفاقه على المقهى، وسمع لأول مرة عن عادة إلقائها في أماكن بعينها، وتأثير تلك الأماكن، فتخيل ابنه عامل نظافة
ويعلق الباحث الاجتماعي، إيهاب إسماعيل الضبع، على طقوس رمي "السرة"، قائلاً: "البعض ينظر إلى هذه العادة نظرة مكانية، بمعنى أن يصبح الطفل محباً للمكان الذي تدفن فيه سرته، كبيت جده أو أحد أقاربه، أو مكان له قيمة رمزية، سواء اقتصادية، دينية أو سياسية".
وتابع: "دفن السرة أو رميها في أماكن بعينها، هي عادة موروثة ضمن تمني حياة أفضل للمولود، ولا علاقة لها بالمستوي الثقافي للأشخاص. ويعتقد غالبية الناس حتى الآن أن المولود سيرتبط بالمكان الذي ستدفن فيه سرته، وتحذّر القصص الشعبية من إلقاء سرة المولود في القمامة مع النفايات، حتى لا يصيب الطفل أي مكروه".
"الطريف أن قائمة الأماكن المفضلة للوالدين في السنوات الأخيرة، أضيفت لها ملاعب كرة القدم، ليصبح الطفل لاعباً مشهوراً".
وأرجع الباحث الاجتماعي الظاهرة للفينيقيين، الذين اعتقدوا أن هناك كائناً يخطف الأطفال من ذويهم ويقتلهم، ما دفعهم لتقديم القرابين له، وهو "سرة" المولود. وبعد ظهور الأديان، اعتاد الناس على دفن "السرة" في المساجد والكنائس بدلاً من المعابد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 13 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت