تتطاير شذرات الألم والقهر من صوتها المنكسر، وهي تتحدث عبر الهاتف فاقدة كل أمل في الخروج من العنف الذي يجتر حياتها، هي لا تستجدي الشفقة بقدر ما تريد أن يصغي إنسان ما في هذا العالم لبوحها، مبدياً الاهتمام بما يحدث معها.
رغبتها عارمة برفض العنف، وتريد من العالم بأسره أن يعلم ذلك، ولكنها عاجزة تماماً عن إيجاد باب تطرقه، فيفتح لها وتجد مساحة آمنة، وجداراً تستند عليه، تثق بأنه لن يسقط عليها. إنها قصة كل امرأة تعيش العنف في هذا العالم البائس.
"جين" شابة كردية في بداية العقد الثالث من عمرها، تعيش في مدينة كوباني التابعة لمحافظة حلب السورية.
متزوجة منذ عشر سنوات، كانت طفلة حينها لم تتجاوز الثامنة عشرة بعد، تعرضت طوال سنوات زواجها للضرب المبرح والإهانة على يد زوجها، على مرأى أهله والجيران ومسامعهم، تعرضت ثلاث مرات للإجهاض وكادت تفقد حياتها جراء ذلك، بالطبع كانت في كل مرة تفقد جنينها، كأنها تفقد قطعة من جسدها، يهجرها زوجها شهوراً دون أن يقترب منها أو يمارس معها الجنس، لا تجد أحداً تلجأ إليه، والدها متزوج أخرى، أمها متوفاة، لا تملك أي مردود مادي يمكنها من العيش باستقلالية، ولم يتمكن أي قانون بحمايتها من العنف الذي مورس عليها، لا قوانين المجتمع، ولا قوانين الدولة السورية، ولا قوانين الإدارة الذاتية. لا ملاذ آمناً لها ولأطفالها.
أكثر ما يراودها هو فكرة الانتحار، ولكن قلب الأم وحده عاجزاً عن إعطائها الضوء الأخضر لتمرير قرارها.
إنه العنف، هذه الآفة البشرية التي لم تستطع الثورات والقوانين والشرائع بكل أشكالها من القضاء عليه، بل زادت من شرعنته في ظل الفوضى الحاصلة في سوريا. وخاصة في مجتمعاتنا المتخلفة المقهورة التي لا تزال تمارس العنف تحت شعار السلطة الذكورية بامتياز.
تقول نوال السعداوي في كتابها المرأة والجنس"إن إفراغ المرأة من مسؤوليتها، إفراغ لشخصيتها من لب الإنسان وجوهره وتميزه عن سائر المخلوقات. بهذا الإفراغ لم يعد للمرأة إلا قشرتها الخارجية، الظاهرة أمام الأعين، لم يعد للمرأة إلا غلافها الجسدي الخارجي. ويؤكد لها المجتمع من حولها هذه الحقيقة".
قد يناقشنا البعض بمكر، موجهاً لنا تهمة النسوية، أو التأثر بالفكر الغربي الذي يعتبروه دخيلاً على قيم مجتمعاتنا المتهالكة، وبأننا نحن النساء في سوريا عموماً، والكرديات خصوصاً كسرنا الكثير من الحواجز والصور النمطية، وأحدثنا ثورة بعد الثورة، بالانخراط في كل المجالات والساحات السياسية والمدنية والعسكرية، وهذا واقع شهده العالم بأسره، ولم يعد خافياً وضعهن في عصر تتحكم فيه التكنولوجيا التي ساهمت في تسليط الضوء على أكثر القضايا حساسية فيما يخص النساء وغيرهن. بل تتسابق المنابر الإعلامية في رصد كل حركة ونشاط وحادثة لعرضها على شاشاتها أو مواقعها الإلكترونية.
ولكن هذا لا يعني أبداً أن لا نتحدث ونكتب وننشط في كل مناسبة، وفي كل لحظة هناك آلاف من النساء السوريات يقضين حياتهن في معاناة العنف والإرهاب الذي يمارس عليهن من مجتمعاتهن، ومن الأقرباء قبل الغرباء.
إنه العنف، هذه الآفة البشرية التي لم تستطع الثورات والقوانين والشرائع بكل أشكالها من القضاء عليه، بل زادت من شرعنته في ظل الفوضى الحاصلة في سوريا. وخاصة في مجتمعاتنا المتخلفة المقهورة التي لا تزال تمارس العنف تحت شعار السلطة الذكورية بامتياز
أقف مذهولة وأنا اقرأ وأشاهد كما الكثيرات كل يوم حوادث قتل النساء في صفحات ومواقع تتابع وتترصد حياة المرأة السورية، أي دماء تسري في هذه الأجساد اللعينة؟ وكم حقبة زمنية احتاجت لتكوّن هذه العقلية الذكورية الغرائبية التي تفكر بمنطق فظيع حتى يمكنه من ممارسة قطع أنف أو فقء عين أو نحر أو تقطيع أوصال، والتمادي في العنف بكل أشكاله.
من هذه الصفحات، صفحة "توليب لدعم الطفل والمرأة-Tswk" التي تسلط الضوء على أشكال العنف الممارسة على النساء وخاصة في محافظة السويداء من جرائم قتل النساء التي تشهدها المنطقة، ومنظمة "سارا لمناهضة العنف ضد النساء" في مناطق الإدارة الذاتية الكردية (كوباني وقامشلو) التي ترصد وتوثق بعض حالات العنف التي يتم التبليغ عنها، ويبقى الكثير منها طي الكتمان.
ناهيك بالعنف وهو واقع الحال على الجميع، السلطات الرسمية وقوانينها الشخصية القمعية والفوضى التي تعيشها البلد، الإدارة الذاتية المؤقتة التي لم تتمكن للآن من أن تكون شرعية أو مقبولة من قبل الجميع، والجماعات المسلحة التي تبث الرعب أينما حلت، والجماعات الإرهابية كما فعلت داعش التي أعادت المنطقة قروناً للوراء بما فعلته من إرهاب وقطع رؤوس وسبي النساء تحت شعار الله أكبر في مناطق سيطرتها، وكأن الله ينتظر أفعال هذا التنظيم ليكبر. فضلاً عن الاعتداءات اليومية من قبل الفصائل العسكرية التابعة لأردوغان في مناطق عفرين الكوردية من خطف ونهب وقتل، وقمع حريات كفرض الحجاب والمناهج وكلها تطال النساء.
شهدت السوريات التهجير والنزوح والقتل والتجويع والاعتقال والأمراض والتشرد كلها كانت كفيلة بزيادة أعباء النساء أكثر وأكثر، ولم تجد المرأة ذاك الباب أو الحائط أو الرجل الذي يحميها من كل هذا الدمار والانتهاكات، وهو مرة ضحية مثلها في المعاناة، ومرة أخرى يشارك في تعنيفها وتفريغ قهره عليها وكأنها السبب وراء كل مايحدث.
تعيش غالبية النساء السوريات أسوأ مراحل العنف بما تعنيه الكلمة من معنى: العنف الاجتماعي والاقتصادي والجنسي، وجميعها ساهمت بتشويه الحالة النفسية للنساء سواء في المجتمع المحلي أو في مخيمات اللجوء، أو في مناطق النزوح، وحتى في البلدان التي لجأن إليها لم تسلم الكثيرات من السوريات وقد طالهن العنف بالرغم من القوانين الصارمة التي تحدّ منه.
وثقت منظمة "سارا لمناهضة العنف ضد المرأة" مئات حالات العنف التي استهدفت المناطق الكردية خلال عام 2019 وخصصت إذاعة آرتا حلقة ضمن برنامج "ملف اليوم" في إطار الحملة الدولية edia4Women" في الثالث من آذار/ مارس 2020 من أجل دعم المرأة في الإعلام.
تقول المرشدة النفسية روجين شاويش التي تعمل في منظمة Jizan foundation for human rights: "العنف يُحدث صدمة في حياة المعنفات تترافق مع آثار نفسية أهمها القلق والخوف والنسيان وعدم التركيز، والغضب والاكتئاب والشعور بالدونية، واضطرابات النوم، واضطراب الشهية، والشعور بالوصمة والعار، وخدر عاطفي والرغبة بالانتحار، وكل الآثار تنعكس سلباً على الأسرة وتفككها وبالتالي على حياة الأطفال التي تكون في خطر بوجود الأم التي تتلقى العنف دون دعم، وهناك يقين تام لدى غالبيتهن بأنهن مخلوقات ضعيفة في المجتمع، لهذا فهن معنفات".
شبكة آسو ASO أيضاً قامت بإنتاج انفوغرافيك عن الانتهاكات والعنف بحق المرأة في إقليم الفرات وفي مناطق سوريا.
علينا نحن الحديث عن أوجاعنا، إذ نمتلك خاصيته ببساطة وشجاعة، لذا يجب أن نتحدث كثيراً عن أنفسنا وهمومنا ومشاعرنا وأجسادنا، وعن كل ما يثير شجوننا، يجب أن نتكلم كنشطاء/ات بدلاً من الحناجر الخرساء ونكون صدى الأصوات المخنوقة والمهمشة
أعتقد بأن الخطورة تكمن في الاستلاب التام الذي تعيشه غالبية النساء بدءاً من الجنس، حين يُختزل كيانها داخل نطاق الجسد الذي يصبح شيئاً مملوكاً وبالقانون الذي يفرض عليها الوصاية التامة من الأب أو الأخوة ثم الزوج الذي يؤمن إيماناً مطلقاً بالسيطرة على كيانها الجسدي لأقصى درجة، فيجد من حقه أن يمارس عليها جريمة الاغتصاب أو حتى القتل تحت مسمى لا أُحبذ تكراره كمصطلح رائج.
أما الأكثر خطورة ويمثل الحالة البائسة التي تعيشها النساء في مجتمعاتنا هو الاعتقاد الذي زرعه العقل الأبوي في أعماق المرأة بأن من واجبها الطاعة والرضوخ للأب وللزوج من بعده، لأنه يعيلها ويسترها ويحميها " ظل راجل ولا ظل حيط" فتصبح بذلك وكيلة الرجل نفسه على نفسها ويزداد الرضوخ ويصبح متوارثاً في غياب دور التوعية أو رفض أي محاولة للتغيير.
لذلك على الجميع، وخاصة الإعلام، الاستمرار بالعمل، وعلينا نحن الحديث عن أوجاعنا، إذ نمتلك خاصيته ببساطة وشجاعة، لذا يجب أن نتحدث كثيراً عن أنفسنا وهمومنا ومشاعرنا وأجسادنا، وعن كل ما يثير شجوننا، يجب أن نتكلم كنشطاء/ات بدلاً من الحناجر الخرساء ونكون صدى الأصوات المخنوقة والمهمشة. ليس من صفتنا الثرثرة كما يُشاع عن النساء، ولكن سيكولوجية القهر الحياة تفرض علينا أن نتحدث ألماً ونرقص ألماً حتى بين حقول الألغام، ونحول أحلامنا وأوجاعنا لأغانٍ، ونسرد ما يجري لنا عبر قصصنا الكثيرة التي لا تنتهي طلباً للتعاطف والمناصرة وليس استجداءً للشفقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون