نفسُ المنظُومة الأمْنيَّة المغْربيَّة التي تزعم حمايتها لحقوق النِّساء والأقلِّيات، وتُفاخر بذلك بعناوين عريضة في الصَّحافة الموالية لها، هي ذاتها التي تقوم بالتَّعامل بازدراءٍ مع مزاعم الاعتداء الجنسي والتَّحَرُّش في صفوفها.
في مجتمعٍ لا تزال فيه ثقافة الاغتصاب، وإلقاء اللوم على الضَّحية مُتفشِّيين بشكلٍ فاضحٍ، تتحمَّل الضحايا الحقيقيات والناجيات في نهاية المطاف التَّـكلفةَ الأكْبر لاستغلال الدّوْلة لأجساد النساء لتصفية حساباتها السياسية، أو بشكل أكثر وضوحاً: حينما يحدِّد النظام السياسي من يجب أن تكون ضحيةََ ومتى تصبح بعض المزاعم إداناتِِ مطلقةً، أَو تصبح ادعاءات مشابهةٌٌ محضَ افتراءاتٍ أو اختلاقاََ.
مسار استثنائيٌ
الحكاية الجديدة التي فَجَّرتها شرطية مغربية سابقة من منفاها الاختياريِّ في الولايات المتحدة الأمريكية، تُعَرِّي بوضوح ازدواجية خطاب الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، التي توظف "إستراتيجية جنسية" لتصفية الصحافيين والمعارضين، مع الانتقام من النساء اللواتي رفضن أن يكنّ جزءاً من هذه اللُّعبة، في مقابل تجاهُل شكاوى جدِّيةٍ عن تحرُّشاتٍ واعتداءاتٍ جنسيةٍ داخل الجهاز نفسه.
وهيبة خرشش
القِصَّةُ التي كشفت عنها مجلة " نيولاينز" الأمريكية قبيل أيام، وأَغْمضتْ مُعْظَمُ وسائل الإعلام المحلية في المغرب أعينَهَا عليها، تتعلق بالشرطية المغربية الشابة وهيبة خرشش التي اضْطرت إلى الهرب خارج البلاد بعد تعرضها للتحرش من قبل رئيسها في العمل، وللتضييق والتهديد بعد تقديمها شكوى ضده.
وَلَجَتْ وهيبة خرشش أسلاك الشُّرْطةِ سنة 2003 ضابطةٍ في مدينة الجديدة، وتسلَّقَت الرُّتَبَ سريعاً لتصبح رئيسةً للوحدة المكلَّفة محاربة العنف ضدّالنساء سنة 2009، وستقوم وهيبة بعملٍ جّبارٍ في قضايا العنف الزوجي وعاملات الجنس الناجيات من الاعتداء.
عانت وهيبة خرشش من تبعات الأزمات النفسية التي أدخلتها في حالة هيسترية إلى المستشفى، في الوقت ذاته كان رئيسها في العمل ينظم حفلاً لتكريم نساء سلك الشرطة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
الجحيمُ على مصراعيه
غير أن حياة وهيبة ستنقلب رأساً على عقب ابتداء من سنة 2014، حينما سيجري تعيين عزيز بومهدي رئيساً جديداً للأمن الإقليمي التابع للدائرة التي تشتغل فيها، حيث بدأ الأخير بِترصُّدِهَا ومُطَارَدَتِهَا والتَّحَرُّشِ بها، ولم يكن أمام الشرطية سوى تقديم شكوى ضده لإدارتها، لكنها بذلك لم تفعل سوى فتح أبواب الجحيم، فرئيسها في العمل لم يكن نكرة، يتعلق الأمر بأمني نافذ تقلد مناصب حساسة في مدن مركزية مثل فاس والرباط. الأكثر أهمّية من ذلك إنَّهُ مقرب من عبد اللطيف الحموشي الرجل القويِّ في مربع القرار الذي يجمع بين إدارة جهازي الأمن الوطني والاستخبارات الداخلية، فعوضاً من عقابه، صدر قرار ترقيته فيما عوقبت وهيبة خرشش بنقلها إلى منطقة أمنية أخرى أَقَلَّ أهَمِّيَةً، قبل تجميد راتبها ومنعها من السفر لاحقاً.
عزيز بومهدي
أمام هذه الضغوط والمضايقات المستمرة، قررت وهيبة خرشش الفرار من المغرب، وقد تمكنت بطريقة ما من اللجوء إلى إسبانيا قبل أن تنتقل بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال هذا الوقت الذي كانت فيه وهيبة تعاني من تبعات الأزمات النفسية التي أدخلتها في حالة هيسترية إلى المستشفى، كان رئيسها في العمل ينظم حفلاً لتكريم نساء سلك الشرطة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
"كان يوقف سيارته أمام منزلي ، ويراقب كل تحركاتي"، تصرح الشرطية لمجلة "نيو لاينز" الأمريكية، مُشيرةً إلى أنَّ كون زوجها مقيماً بالولايات المتحدة الأمريكية على بعد آلاف الأميال، كان يُشْعِرُ رئيسها بالأمان ويجعل سلوكه أكثر تصاعداً.
عن الشرطية المغربية الشابة وهيبة خرشش التي اضْطرت إلى الهرب خارج البلاد بعد تعرضها للتحرش من قبل رئيسها في العمل، وللتضييق والتهديد بعد تقديمها شكوى ضده
تعَقُّبٌ وقضاءٌ مُتَحَيِّزٌ
لاحقاَ، قرَّرَتْ وهيبة خرشش خوض معركةٍ قانونيةٍ بشكل رسمي ضد رئيسها، ومتابعته قضائياً، كانت تعرف أنها تدخل مساراً قاسياً وشاقّاً، لذلك اختارت محامياً استثنائياً على درايةٍ واسعةٍ بدواليبِ وكواليسِ المنظومة الأمنية. شَخْصٌ يعرف "المخزن" جيداً، هو محمد زيان، وهو وزير ونقيب سابق.
كان زيان واحداَ من الوجوه البارزة المدافعة عن النِّظام لسنواتٍ طويلةٍ، غَيْرَ أنَّهُ يمثل وجهة نظر الحرس القديم الذي لا يبدي رضاه عن طريقة إدارة الأمور في المرحلة الراهنة، فلم يفتأ النقيب السابق أن انتقد صراحةً وعلناً الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والدور السياسي الذي أصبحت تلعبه، بل وقف في مواجهة الدولة عبر تنصيب نفسه مدافعاً عن معتقلي احتجاجات الريف وعن الصحافي توفيق بوعشرين.
كان تعيين زيان محامياً بمثابة تَحَدٍّ للجناح القوي داخل الدولة، كانت الشرطية تدرك ذلك جيداً، لذلك توقعت انتقاماً جديداً.
وبالفعل، ابتداءً من تشرين الثاني/أكتوبر من سنة 2018 بدأ زوجها المقيم في كاليفورنيا يتلقى مكالماتٍ غريبةً من أرقامٍ مغربيةٍ وأمريكيةٍ، من بينها اتصال من امرأة تقول له ما مفاده: "إننا على علم بجميع التفاصيل الحميمية لحياتك الخاصة، من الأفضل أن تقنع زوجتك بالتنازل عن قضيتها وطرد محاميها"، واتصال آخر يزعم أن ابنته المقيمة في المغرب مهددة بالاختطاف.
"بينما كانت الدولة تتظاهر بأنها مهتمة بضحايا الاعتداءات الجنسية، كنت قلقة بخصوص حياتي وعائلتي"، تصرح خرشش.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي سنة 2019 وبينما كانت الضابطة تقضي إجازة رأس السنة مع أسرتها في كاليفورنيا، تصل إلى زوجها رسائل تحتوي على صور لها مع ابنتها التقطت خفية في مكان خاص، كانت الرسالةُ واضحةً: إننا نراقبك ونعرف عنك كل شيء، " لم ترد هذه الاتصالات جميعها من شخص واحد فحسب، بل من مؤسسة حكومية كاملة"، تشرح خرشش للمجلة الأمريكية.
محمد زيان
بتاريخ 26 من شباط/فبراير من سنة 2019، أصدر قاضي التحقيق قراراً بعدم متابعة المسؤول الأمني البارز موضوع شكاية الشرطية، وهو القرار الذي قام المحامي محمد زيان باستئنافه، لكن المحكمة قضت مجدداً بتأييد القرار الأول لقاضي التحقيق.
قبل شهرين، كانت الشُّرطيَّةُ ومُحاميها ضحيَّة حملة تشهير على موقع "شوف تي في" أبرز منصة إعلامية مقربة من الأجهزة الأمنية في البلاد، والتي تَعوَّدَتْ استهداف الحياة الخاصة للصَّحافيين المستقلين والمعارضين، حيث لَمَّحَ الكاتب "أبو الريفي" (اسم مستعار) إلى ارتباط الشرطية ومحاميها بعلاقة عاطفية خارج مؤسسة الزواج.
اليوم، تتقبَّل خرشش على مضض فكرة إمكانية عدم عودتها إلى المغرب، ولن تكون الشرطية الهاربة هي المرأة المغربية الوحيدة التي يتم إجبارها على مغادرة البلاد، فقد سبقتها إلى ذلك هاجر الريسوني التي تقيم حالياً في السودان، والتي جرى اتهامها سابقاً بتهمة "الإجهاض غير الشرعي" وما رافق ذلك من حملة هجوم إعلامي مُسْتَمِرٍّ حتى الآن، وكذلك عفاف برناني التي تقيم حالياً في تونس، وكانت قَدْ أنكرت تعرضها لاعتداء جنسي من قبل الصحافي توفيق بوعشرين، وحكم عليها بستة أشهر سجناً بعد طعنها في تزوير محضر شهادتها من قبل الأجهزة الأمنية، فيما تعرَّضتْ نساء أخريات رفضْنَ الإدلاء بشهاداتٍ تدين الصحافي بوعشرين لحملات تشهيرية على المواقع المقربة من أجهزة الاستخبارات، أو تسريب صور خاصة وحميميَّةٍ يتم إرسالها إلى أفراد من عائلاتهنَّ.
تَكْشِفُ مأساة الشرطية المغربية السابقة وهيبة خرشش التي تُضاف إلى قائمةٍ طويلةٍ من النساء المغربيات، تهافت وتناقضات خطاب الدولة المغربية بخصوص الدفاع عن حقوق النساء، والتَّوْظيف السياسيَّ الواضح لحملة "مي تو " لتصفية الحساب مع الأصوات المُغرِّدة خارج الصندوق، إذ نجد مثلاً الملك محمد السادس يُوَّجه محاميهِ الخاص للدفاع عن المغني سعد المجرد المتهم بالاغتصاب في فرنسا، في حين تسجن هاجر الريسوني وتتعرض للتشهير، أو تتعرض امرأة أخرى لضغوط للإدلاء بادِّعاءاتٍ كاذبةٍ ضد صحافي أو معارض .
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 ساعاتمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم