"كانت جدتي رحمها الله، يوم الاحتفال بحلول رأس السنة الأمازيغية، توقظ نساء العائلة وشبابها مباشرة بعد أدائها لصلاة الفجر، للشروع في طهى مجموعة من الأكلات التقليدية الشعبية قبل أن تسدل الشمس خيوطها، فهذا اليوم مميز، وله نفس ملامح عيد الفطر أو الأضحى عند الأمازيغ في الجزائر"، تقول السيدة فتيحة لرصيف22.
أما عن طريقة الاحتفال اليوم برأس السنة الأمازيغية، توضح فتيحة (60 عاماً): "عشية حلول يناير لا يكاد يخلو بيت في قرية ثيزة (الواقعة في أعالي محافظة بومرداس شرق الجزائر) من الدجاج البلدي، أو ما يسمى بالمحلية أيازيط أوحشاد، يشترى عادة من الأسواق الشعبية، والطرقات المؤدية إلى المداشر، تعد به النساء طبق الكسكس، الذي يسقى من مرق مكون من لحم الديك الرومي، وخضار متنوعة، كما نحضر البركوكس، وهو طبق تقليدي جزائري يُطهى بشكل كبير في موسم الشتاء".
"الكسكس" سيد الأطباق بلا منافس
تقول فتيحة شارحة التجمعات العائلية في هذا اليوم: "بمجرد حلول منتصف النهار، تلتف العائلة حول مائدة كبيرة يكون طبق الكسكس سيدها دون منافس، وعلى مقربة منها طاولة أخرى صغيرة وسط الصالون، توضع عليها مأكولات تقليدية أخرى، مثل المسمن والبغرير والخفاف والرفيس المصنوع بالسميد المحمص والتمر".
وتتذكر فتيحة جدتها، وتستلهمها في كل رأس سنة أمازيغية، تقول: "كانت جدتي ملهمة الشعراء وصاحبة الروايات والقصص، تجمع حولها الأطفال الصغار في هذه الليلة، وتضع قصعة (إناء واسع) بين رجليها، في داخلها طفل صغير لا يتجاوز عمره أربع أو خمس سنوات، وتلقي فوقه الحلويات والسكر والبيض، أو ما يُسمى بالتراز أو القشقشة، وهي عبارة عن أنواع من المُكسرات على غرار الجوز واللوز والفستق والبيض، وبعض الفواكه الموسمية، كالتين والبرتقال والفول السوداني والتمر، وحبات حلوى، ليقوم هذا الطفل بتوزيع كل ما في ذلك الإناء على الأطفال الصغار، والكبار أيضاً، حتى تكون السنة الجديدة فأل خير عليه وعلى جميع من أكل من القصعة".
وعادة ما تُنظَّم مأدبة فطور جماعية، تكون شبيهة بـ"الوزيعة" أو "ثمشرط" باللغة الأمازيغية، وتقوم النسوة بطهي طبق "المسفوف"، وهو عبارة عن كسكس يقدم مع الفول أو "القرنينة" (نوع من أنواع الحشائش التي تنمو في الربيع، وتنتشر بكثرة في منطقة القبائل الصغرى بين مُحافظتي بجاية وسطيف شرق البلاد)، ويُدهن هذا الطبق بزيت الزيتون.
تصنع الجدة عقد "الصخاب" من القمح وحبات الحلوى، ثم تضعه على طول رقبة أحد الأطفال، ليقوم بعدها أصدقاؤه بقطفها، ليكون العام الجديد فأل خير على الجميع
"اليوم يكون فرصة لتجسيد الهوية الأمازيغية، من خلال الطقوس التي يمارسها أمازيغ الجزائر، كتبادل الأطباق التقليدية المعروفة، وعبارات التهاني، أبرزها 'أسقاس أمقاز' والتي تعني سنة سعيدة"
تضيف فتيحة: "بعد انتهاء النسوة من إعداد الطعام، يتجهن نحو المسجد الواقع في قرية إيصوحان، المعروفة بطابعها الجبلي، ومناظرها الخلابة، ووفرة الأشجار المثمرة، خاصة غراسة الزيتون".
تقول فتيحة إن الهدف من هذه "اللَمّة" هو تأكيد اللحمة والترابط بين الناس، ومن أجل الحفاظ على النسيج الاجتماعي بينهم.
ثيزة… عرس شعبي مفتوح
يشكل الاحتفال برأس السنة الأمازيغية في منطقة "ثيزة"، التي يعتبرها كل من حظي بزيارتها قرية ليست ككل قرى الجزائر، نظراً لجمال مناظرها، عُرساً شعبياً مفتوحاً، وفقا لرئيس جمعية "ثيزة" مختار بولجنت.
يقول بولجنت لرصيف22: "يحاولون جمع كل ما له علاقة بهذا العيد انطلاقاً من الأرض والإنسان، ويقيمون معرضاً للحرف التقليدية على اختلافها، كما تكون الفرق الموسيقية والاستعراضات الفولكلورية حاضرة بقوة، دون إغفال اللباس التقليدي والحلي الفضية".
وفي قرية "ومداشر"، في مُحافظة سطيف شرق البلاد، تقول جميلة، في الخمسينيات من العمر، وهي أم لأربعة أطفال، لرصيف22: "عشية حلول رأس السنة الأمازيغية يقوم أعيان القرية بالطواف على بيوتها بيتاً بيتاً لجمع مبلغ مالي معتبر، وكل واحد من أفراد القرية يتطوع حسب مقدرته، ثم يقومون باقتناء عجول وكباش، ويذبحونها في ساحة القرية بحضور الكبار والصغار، ثم يقسم اللحم بحسب عدد أسر القرية، فتطهو النسوة ليلة رأس السنة الأمازيغية أطباقاً تقليدية متنوعة، مثل شخشوخة الرقاق أو المفرمسة، والتي تُطهى عادة بكثرة في موسم الشتاء لمواجهة الثلج و البرد القارص، أو طبق الكسكس التقليدي".
وفي محافظة بسكرة، جنوب شرق الجزائر، وتبعد عن عاصمة البلاد حوالي 400 كلم، تخبرنا فطيمة، وهي أم لأربعة أطفال، في الأربعينيات من العمر، إن جدتها، التي تستلهم ممارساتها في هذا اليوم، كانت تعد في صبيحة "يناير" طبق "الشرشم" التقليدي، حيث تغلي جميع أنواع الحبوب الموسمية في الماء والملح، كالقمح والحمص والفول، وتوزعها للكبار والصغار، كذلك، تقول فطيمة، كانت الجدة تصنع عقد "الصخاب" من القمح وحبات الحلوى، ثم تضعه على طول رقبة أحد الأطفال، ليقوم بعدها أصدقاؤه بقطفها، ليكون العام الجديد فأل خير على الجميع.
يناير وأسطورة العجوز
يتداول الناس في قرى الأمازيغ حكايات وأساطير مرتبطة برأس السنة الأمازيغية، تتذكر فتيحة وصديقاتها حكاية العجوز التي تحدثت إلى شهر يناير.
تحكي فتيحة: "منع هذا الشهر الناس من الخروج من البيت وإخراج الغنم، غير أن عجوزاً طاعنة في السن تحدته وخرجت، وأخرجت ماعزها في يوم مشمس، وقالت ليناير: 'لقد خرجت وأخرجت معيزاتي'، ولم يجد ما يفعل، واستنجد في نهاية المطاف بفورار أو فبراير، وطلب منه إعارته ليلة ونهار فقبل هذا الأخير، وأعاره سبعة أيام وسبعة ليالي، حينها بدأ رذاذ الثلج ينهمر بقوة على العجوز وماعزها، وأصرت على البقاء في الخارج لتكمل جمع الحطب إلى أن توفيت".
تثمّن فتيحة، مثل سائر الناس في قرى الأمازيغ، تلك الحكايات والتقاليد الاحتفالية، تقول: "هذه الاحتفالات في إطار سياسة العائلة الأمازيغية القائمة على تنشئة طفلها منذ نعومة أظافره حتى يُحافظ على العادات والتقاليد".
وتنهي فتيحة حديثها، معبرة عن التأثير النفسي لتلك الاحتفالات: "اليوم يكون فرصة لتجسيد الهوية الأمازيغية، من خلال الطقوس التي يمارسها أمازيغ الجزائر، كتبادل الأطباق التقليدية المعروفة وعبارات التهاني التي يتبادلونها وأبرزها 'أسقاس أمقاز' والتي تعني سنة سعيدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...