قبل الثورة، كانت السيدة بيضاء تعيش حياة بسيطة ومستقرة وآمنة مع عائلتها، في منزلها بتاورغاء. كانت تعمل في مصنع للخياطة والتطريز، ومثل غيرها، طموحة وتخطط لإنشاء مشروعها الخاص في الحياكة، كي تؤمّن حياة كريمة لها ولعائلتها. لكن الثورة والحرب حوّلتا حياتها وحياة عائلتها إلى كابوس طويل الأمد.
لتجربة التشرد والفاقة، خاصة لفترات طويلة، أضرار نفسية واجتماعية فادحة على البشر والمجتمعات. السيدة بيضاء مصباح عمر، وهي ربة بيت وأم لبنتين وتمتهن الخياطة والتطريز وتبلغ من العمر 47 عاماً، هي إحدى ضحاياها.
السيدة بيضاء تتجوّل في تاورغاء
عندما أُجبر أبناء منطقة تاورغاء على ترك منازلهم، انتقلت السيدة بيضاء رفقة عائلتها إلى ثاني أكبر المدن الليبية، بنغازي.
وخلال أحداث الربيع العربي، قامت الثورة الليبية في 17 شباط/ فبراير 2011 ضد نظام معمر القذافي، واندلعت حروب المقاومة في عدة مناطق ومدن بين كتائب النظام والثوار.
شهدت مدينة مصراتة الواقعة في المنطقة الوسطى من شمال ليبيا أعنف المواجهات الدامية طيلة ثمانية أشهر، إلى أن انتصر الثوار على كتائب النظام وبلغوا العاصمة طرابلس.
خلال هذه الأحداث، استغلت كتائب النظام منطقة تاورغاء، التي كان يقطنها قرابة 30 ألف نسمة وتبعد عن مصراتة 40 كيلومتراً، والمناطق المجاورة لها، كمواقع تمركز لقواتها العسكرية، ونقطة إطلاق لقصف المدينة بالصواريخ، كما جنّدت شباب المنطقة ضد ثوار مصراتة واعتدت على المدنيين العزل، إضافة إلى اعتقال وتصفية معارضين لنظام القذافي.
خلّفت هذه الأحداث الشنيعة جرحاً غائراً بين المنطقتين، أساسه كراهية وحقد عميقان لدى أهالي مصراتة ضد سكان منطقة تاورغاء. ولذلك، بعد هزيمة القذافي، كانت ردة فعل أهالي مصراتة طرد جميع أهالي تاورغاء من منازلهم، ليعيشوا مهجرين داخلياً في جميع مناطق ليبيا وفي المخيمات.
مخيّم في طرابلس للمهجرين من تاورغاء
بعد سنتين قضتهما في بنغازي، عاشت خلالهما على المساعدات المقدَّمة للنازحين، انتقلت السيدة بيضاء إلى العاصمة طرابلس، بسبب عدم قدرة زوجها على استلام راتبه في بنغازي، وعاشت في أحد المخيمات المخصصة للنازحين من تاورغاء.
كان المخيم في طرابلس عبارة عن مباني مهجورة كانت تحتضن سابقاً الأكاديمية البحرية في طرابلس، أي أنها ليست مكاناً مخصصاً للسكن العائلي.
وُضعت السيدة بيضاء مع عائلتها في مكتب إداري تحوّل إلى غرفة لإيوائهم. لم يكن فيه باب يمكن غلقه، ولا نوافذ تصدّ الرياح وتحميهم من البرد، رغم أن المخيم يقع على البحر. وكانت دائمة القلق من أن يصيب أي مكروه بناتها بسبب كثرة الاعتداءات في تلك المنطقة.
"عشت أنا وأسرتي حياة صعبة جداً خلال فترة النزوح، لم أشعر فيها بالاستقرار أو الاطمئنان أبداً رغم المحاولات، فالحياة في المخيمات مزرية جداً. كانت المياه تملأ الغرفة عند هطول الأمطار، وكان البرد شديداً لعدم وجود نوافذ، حتى باب الغرفة كان عبارة عن قطعة خشب موضوعة هنالك. كنّا نخاف باستمرار من أن يتم الاعتداء علينا من قبل المسلحين وسرقتنا، ونتوقع في أي لحظة أن يخرجوننا من المكان. كنت أخاف كثيراً على بناتي بما أنهنّ لا يعرفن المنطقة، فهنّ لا يذهبن إلا إلى المدرسة".
السيدة بيضاء رفقة بناتها
لم تعرف السيدة بيضاء وأسرتها حياة كريمة ومطمئنة طيلة فترة النزوح، ولم تنته معاناتها في المخيم. أصيبت بشظية في تموز/ يوليو 2016، إثر اندلاع شجار بالقرب من مصرف كانت تحاول سحب راتب زوجها منه. ارتدّت الشظية على وجهها، إلا أنها نجت من الموت، لكن وجهها تشوه، فاحتاجت إلى عناية طبية خاصة ومكلفة جداً، زادت في صعوبة وضعها المالي، واضطرتها إلى العمل كعاملة نظافة في إحدى الشركات الخاصة لسد الرمق.
آثار الشظية على وجه السيدة بيضاء
"كانت لديّ رغبة في أن أعمل في الحياكة والتطريز، ولكن لم أحصل على وظيفة في هذا المجال، ولا على المال الكافي لأشتري آلة خياطة، فأجبرت على العمل في أدنى الوظائف حتى أساعد عائلتي في الحصول على مدخول نعيش منه. كان همي الوحيد هو ألا تنام بناتي جائعات"، تروي.
رغم محاولات السيدة بيضاء خلق حياة مستقرة لها ولعائلتها، كانت أوضاعهم تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. فعندما أصيبت بالشظية، انهارت كل قدراتها على الاستمرار، وكرهت الحياة التي كتبها الله لها وأصابها اليأس والقنوط. كانت فترة مأساوية عرفت خلالها اضطرابات نفسية ونوبات اكتئاب، ولم تجد حلاً إلا بالصبر حتى يكتب الله لها حياة أفضل.
"العمل على تنفيذ السلام المجتمعي الإيجابي أصعب من إشعال الحروب. إعادة الأمور إلى ما كانت عليه مثل التبادل الاقتصادي والارتباط الاجتماعي وغيرها أمر صعب جداً، لهذا ندعو دائماً لإيقاف الحرب"
ميثاق الصلح وصانعات السلام
مع نهاية عام 2015، بدأت الضغوط المحلية والدولية والوساطات لخلق سلام وصلح بين المنطقتين المتصارعتين، مصراتة وتاورغاء. باءت بالفشل في البداية إلى أن تمكنت المنطقتان من تكوين لجان مصالحة منبثقة عن مجالسها المحلية، تمثل الأطراف المتنازعة، للجلوس والتفاوض.
وجرى التوصل إلى ميثاق الصلح الذي أُعلن عنه في مدينة مصراتة في الثالث من حزيران/ يونيو 2018. نص الميثاق على تمكين أهالي تاورغاء من الرجوع إلى منطقتهم حتى يتمكنوا من نسيان الماضي الأليم، لأن وحدة ليبيا هي الأهم وهي المخرج الوحيد لاستقرار الوطن.
لحظة توقيع ميثاق الصلح بين تاورغاء ومصراتة
تقول السيدة بيضاء: "عندما أُعلن عن المصالحة، فرحنا كثيراً، وقررت الرجوع إلى بلدي. كانت عائلتي و14 عائلة أخرى من أولى العائلات التي عادت للاستقرار من جديد في تاورغاء. في البداية كان منزلي وكل المنازل في المدينة مدمرة ومحترقة وغير صالحة للسكن. أقمنا في إحدى المدارس لفترة مؤقتة حتى يُعاد تأهيل المدينة، مثل إرجاع المياه والكهرباء والخدمات كالمراكز الصحية، المتاجر، المدارس وغيرها. كنّا نخاف من أن يُعتدى علينا، فالمدينة كانت مثل مدن الأشباح في الليل. كانت فترة صعبة أرهقتني نفسياً أكثر مما مضى".
بجانب عمل لجان المصالحة، نشط تيار مكوّن من نساء ناشطات في سبيل نشر السلام المجتمعي بين الأطراف المتنازعة، وعملن بشكل خاص على مساندة النساء. من بين هؤلاء الناشطات السيدة آسيا الشويهدي من مصراتة، والسيدة آمال بركة من تاورغاء. أسسن "فريق السلام النسائي تاورغاء-مصراتة".
آمال بركة وآسيا الشويهدي أثناء إحدى المبادرات
جمعت الصدفة والصداقة كل من الناشطتين عندما كانت كل منهما تبحث عن شخصية أخرى تمتلك نفس طموحاتها وأهدافها، وتكون قد تضررت من الصراعات ومؤمنة بقضية تحقيق السلام فعلياً بين المنطقتين المتنازعتين في السابق، مصراتة وتاورغاء، وإرجاع المياه بين أبنائهما إلى مجاريها، لتعملا معاً لتحقيق الأهداف المشتركة.
كان منزل السيدة آسيا يقع في الخط الأمامي أثناء الحرب علی مصراتة وأجبرت على النزوح حتى تحرير المدينة من كتائب القذافي. أما السيدة آمال، فقد عاشت مهجرة في طرابلس منذ الثورة إلى أن تحققت المصالحة.
منذ بداية الأحداث، عرفت كلتاهما أن ما يحدث من انقسام بين المجتمعات في ليبيا خطأ ويجب إصلاحه، فانطلقن على هذا الأساس في السعي إلى إصلاح ما يمكنهما إصلاحه ومساعدة مجتمعاتهما.
آمال بركة تبلغ من العمر 48 عاماً، ونزحت إثر الثورة، بعد أن كان طموحها أن تكون سيدة أعمال وتاجرة في تاورغاء تملك متاجر مثل والدها الذي كان يشجعها على ذلك، ولكن الأحداث غيّرت كل طموحاتها.
أما آسيا الشويهدي، ابنة مصراتة التي تبلغ من العمر 45 عاماً، وأم لصبيين، فكانت تهوى الرياضة وتطمح إلى أن تكون مدربة رياضة وأن تؤسس نادياً خاصاً بها. ولكن في شباط/ فبراير 2011، تغيّر كل شيء، فقد كان منزلها الذي تعيش فيه مع أسرتها على الخط الأمامي لمعارك المقاومة، وعند اقتحام كتائب القذافي لمدينة مصراتة، دُمّر بيتها وأجبرت على العيش مهجرة.
تأسس "فريق السلام النسائي تاورغاء-مصراتة"، في أيار/ مايو 2018، في مكتب وزير الدولة للنازحين والمهجرين السيد يوسف جلالة، وتكونت نواته الأولى من هاتين السيدتين.
تروي السيدة بركة: "عندما كنت في أحد الأيام في المطار للذهاب في رحلة عمل، كنت أبحث عن شريكة من الطرف الآخر لنعمل معاً لخلق السلام بجميع أنواعه. كان الشرط أن تكون متضررة بأي طريقة من الحرب لتكون مؤمنة بما نريد فعله. وبالرغم من أن هذا كان صعباً بعض الشيء، إلا أن الصدفة جمعتني بالسيدة الشويهدي. تحدثنا كثيراً وانطلقنا بعد أن اعتُمدنا من قبل وزارة المهجرين والنازحين في الداخل والخارج كفريق السلام النسائي تاورغاء-مصراتة".
"كنت مترددة في البداية وخائفة ومنعزلة عن المشارِكات من مصراتة. لم أتقبل فكرة الجلوس معهنّ ومشاركتهنّ الحديث بسبب ما حدث سابقاً بين المنطقتين. لكن شيئاً فشيئاً، اكتشفت أنني كنت مخطئة في ظني بهنّ. كانوا طيبات جداً، وكلنا ليبيون في النهاية"
من جانبها، تروي السيدة الشويهدي أنه "بالرغم من أن 3 حزيران/ يونيو 2018 كان يوم إعلان ميثاق المصالحة، إلا أن كل الحضور كانوا من الرجال ولم تكن المرأة موجودة".
لكن منذ ذلك اليوم، تتابع، "صار للمرأة صوت ودور مهم لاستكمال تحقيق السلام"، وتضيف: "عملنا سوياً من خلال جلسات حوارية على دعم العودة مع باقي النساء من الطرفين لزرع الثقة والشعور بالأمان"، معلّقة: "فريقنا يُعتبر مثل روافد مجرى المياه، فقد كنا داعمات ودافعات لعملية المصالحة التي يقودها الرجال".
تطمح الشويهدي وبركة إلى مساعدة مجتمعاتهما لإحلال السلام بين الطرفين، وتمكين أهالي تاورغاء من الاستقرار من جديد في موطنهم. قمن بالعديد من المبادرات لتمتين العلاقات بين أهالي المدينتين، كان أبرزها زيارة أول طفل يولد في تاورغاء بعد العودة، وتسليم عائلته هدايا مقدَّمة من أهالي مصراتة، إضافة إلى المساهمة في تخفيف حكم السجن المؤبد أو الحكم بالإعدام على بعض السجناء، ومنهم مَن سعيتا إلى إطلاق سراحه.
السلام المجتمعي الإيجابي
ضمن بنود ميثاق الصلح بين المنطقتين، ورد تعهد بإنشاء مراكز للدعم النفسي والأسري في مصراتة وتاورغاء، تعمل على إعادة تأهيل المتضررين من الحرب الذين عانوا نفسياً خلال حياة التشرد أو نتيجة للاعتقال والاعتداء، من جميع فئات المجتمع.
تأسس مركز طمينة للدعم النفسي والأسري أولاً، واختير أن يكون مقرّه في قرية طمينة التي تربط بين المنطقتين حتی يخدم أبناء كل من تاورغاء ومصراتة إلى حين يتم تأسيس مركز تاورغاء، ولأن أغلبية المتضررين من أبناء مصراتة يعيشون بالقرب من هذه المنطقة.
قُدِّم للمركز دعم محلي ودولي. دعمه المجلس المحلي لمدينة مصراتة بتخصيص مبنى يكون مقراً له، وقامت لجنة المصالحة في مصراتة بتعيين نخبة من الكوادر النسائية التي تعمل في مجال عمله لتتولى مسؤولية قيادته، بما أن المرأة تشعر أكثر بمعاناة غيرها من فئات المجتمع، خاصة لو مرت بنفس الظروف التي عاشها المحتاجون للدعم. كما تلقّى دعماً من السفارة الإيطالية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عبر صندوق تحقيق الاستقرار في ليبيا الممول من الدول الصديقة لليبيا.
أعيد تأهيل المركز وجُدّد بشكل كامل، وجُهّز ليكون بيئة مناسبة لأداء مهماته، كما جرى تدريب إطارات في ثلاثة تخصصات هي علم الاجتماع، علم النفس والصحة النفسية.
السيد جيراردو نوتو، ممثل منظمة UNDP في ليبيا، أثناء حفل تخرّج أول مجموعة متدربة في مركز طمينة
كانت السيدة الشويهدي عضوة في إدارة المركز وزميلتها السيدة آمال صافار مديرته، وكلتاهما عضوتان في لجنة الحوار والمصالحة عن مصراتة.
السيدة صافار بدورها هي إحدى المتضررات من الحرب، وكانت تدعو للجلوس مع الطرف الآخر للحوار وتحقيق السلام، وتمتلك خبرة في الشؤون الاجتماعية، بما أنها عملت في عدة مجالات تعنى بالشؤون الاجتماعية وشؤون المرأة في مؤسسات العهد السابق، حتى وصلت إلى منصب "أمينة شؤون المرأة بأمانة مؤتمر الشعب العام" الذي يعادل وزيرة.
وبسبب عملها قبل الثورة مع نظام القذافي، اتُّهمت بالخيانة من قبل الطرفين المتنازعين. في البداية، اتهمها أهل مدينتها بموالاة النظام، ثم عندما رفضت أن تدلي ببيان تأييد لحكم القذافي، اتهمها أنصاره بالخيانة، وتعرّضت لاعتداء واعتُقلت مع كامل أسرتها من بيتها في منطقة طمينة في مصراتة، وعوملت بقسوة شديدة ولم يشفع لها لدى جلاديها أنها كانت حاملاً بطفل.
جذور معاناة السيدة بيضاء قديمة وعميقة، تعود إلى الطفولة. عندما كانت في المدرسة، كان زملاؤها يسخرون منها، زاعمين أنه لا يمكن أن يكون اسمها بيضاء وهي ذات بشرة سمراء. أخيراً، أعلنت اسمها الحقيقي على الملأ، بعد سنوات من التخفي وراء اسم ليلى
عام 2016، قام صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة بتدريب مجموعة من النساء من خلال ورش العمل لكتابة وثيقة المرأة للسلم المجتمعي التي تدعو للسلام وتغيير خطاب العنف. انتُخبت مجموعة من النساء للتكفل بنشر أهداف هذه الوثيقة في جميع مناطق ليبيا وكانت السيدة الشويهدي من ضمن المنتخبات على المنطقة الوسطى.
تقول الشويهدي: "عندما علم السيد يوسف زرزاح، رئيس لجنة الحوار والمصالحة عن مصراتة، بوجود نساء يعملن في مجال بناء السلام، وبأني منتخبة عن وثيقة المرأة للسلم المجتمعي عن المنطقة الوسطى، استدعاني لأجتمع مع السيدة صافار لأول مرة، لنمثل المرأة في الحوار والصلح مع تاورغاء. كان يجب أن يكون معي شخص يدعو للسلام رغم تأثير ضرر الحرب فيه، لتكون رسالتنا أقوى تأثيراً لدى الطرف الآخر".
وتشير إلى أن "العمل على تنفيذ السلام المجتمعي الإيجابي أصعب من إشعال الحروب. إعادة الأمور إلى ما كانت عليه مثل التبادل الاقتصادي والارتباط الاجتماعي وغيرها أمر صعب جداً، لهذا ندعو دائماً لإيقاف الحرب".
وتضيف: "لا يمكن أن يكون للحرب وجه جميل أبداً، فهي دائماً بشعة ومدمرة للمجتمعات. من هذا المنطلق جاءت فكرة تأسيس مراكز للدعم النفسي والأسري للمدينتين، لمساعدة الأشخاص الذين عانوا من اضطرابات نفسية واجتماعية، سواء بسبب فترة التهجير التي عاشها أهالي تاورغاء مثل السيدة بيضاء، أو بسبب الاعتقال أثناء فترة الاشتباكات والحروب مثل السيدة صافار".
تهتم بنات تاورغاء بالمشاركة في برامج الدعم النفسي الاجتماعي والاقتصادي، سواء في تاورغاء أو في مركز طمينة. وكانت السيدة بيضاء إحدى المشاركات في برامج الدعم التي يقدمها مركز طمينة.
تروي بيضاء: "تعرفت على مركز طمينة عن طريق ضغط وإصرار من إخوتي، فقد رأوا أنني بحاجة ماسة للمساعدة، وفعلاً ذهبت للمركز وقلت لنفسي أنني لن أخسر شيئاً".
عن مهمة المركز الأساسية، تشرح السيدة الشويهدي: "نساعد أهالي مصراتة على التفكير بشكل سليم في ما يعتبرونه ظلماً لهم، ونساعد أهالي تاورغاء على تجاوز مخاوفهم من أهالي مصراتة"، مضيفةً: "شيئاً فشيئاً، ستعود المياه الى مجاريها ويعود الرابط الاجتماعي بين المنطقتين ويتحقق السلام المجتمعي".
وتروي السيدة بيضاء: "كنت مترددة في البداية وخائفة ومنعزلة عن الآخرين، خاصة عن المشاركات من مصراتة. لم أتقبل فكرة الجلوس معهنّ ومشاركتهنّ الحديث بسبب ما حدث سابقاً بين المنطقتين. لكن شيئاً فشيئاً، بدأت أنسجم معهنّ بفضل الأنشطة التي كسرت الجليد الذي كان بيننا، واكتشفت أنني كنت مخطئة في ظني بهنّ. كانوا طيبات جداً. الدنيا فانية، وكلنا ليبيون في نهاية المطاف. يجب أن نكون إخوة وأن نساعد بعضنا البعض".
وتضيف: "استمرت التدريبات التي شاركت فيها لمدة شهرين، وتمحورت حول الدعم النفسي ومكافحة خطاب الكراهية. كانت جميعها مفيدة جداً بالنسبة لي ولغيري وأضافت لنا الكثير، إضافة إلى أن أجواء المركز كانت مريحة جداً ومليئة بالمحبة، فشعرت أني ضمن أسرة".
تؤكد السيدة الشويهدي أن "باب المركز مفتوح دائماً لتنفيذ شراكات مع مؤسسات أخرى سواء دولية أو محلية، للعمل معاً لتحقيق نفس الأهداف. فلولا الدعم الذي قُدّم لنا من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والسفارة الإيطالية في ليبيا لكانت المهمة أصعب".
وتتابع: "عملنا أيضاً مع مؤسسات محلية مثل منظمة أطوار ومؤسسات دولية مثل منظمة الإغاثة الدولية، وبفضل ذلك استطعنا تحقيق نتائج رائعة، رغم قلة اهتمام الدولة بالمبادرات المشابهة. فقد تم تقديم الدعم النفسي لـ200 طفل تقريباً إلى حد الآن، من جميع المناطق المجاورة، وكان الهدف تعزيز شعورهم بالأمان وخلق الود والمحبة بينهم. كما تم تدريب 80 سيدة من مختلف المناطق، لكسر الجليد بينهن وإعادة السلام المجتمعي الإيجابي وخلق شركات في ريادة الأعمال وغيرها".
وداعاً ليلى...
بفضل التدريبات التي شاركت فيها بيضاء في مركز طمينة وإصرارها على تأمين حياة أفضل لها ولعائلتها، بدأت تستعيد ثقتها بنفسها تدريجياً وتتعافى من الاضطرابات النفسية التي كانت تعاني منها.
لم تبدأ معاناة السيدة بيضاء مع الثورة الليبية، بل كانت جذورها قديمة وعميقة، تعود إلى الطفولة. فعندما كانت في المدرسة، كان زملاؤها يسخرون منها، زاعمين أنه لا يمكن أن يكون اسمها بيضاء وهي ذات بشرة سمراء. "تألمت جداً من هذا الموقف، وصرت أطلب من الناس أن يدعوني ليلى بدلاً من بيضاء"، تقول.
ولكنها أخيراً، تمكنت من إعلان اسمها الحقيقي على الملأ، بعد أن عاشت لسنوات باسم مستعار، يجنّبها الوصم والتعليقات العنصرية.
لم تعد هنالك حاجة للتخفي وراء اسم "ليلى". صارحت الناس بأن اسمها الحقيقي بيضاء، وأن عليهم أن يخاطبوها به من الآن فصاعداً.
كذلك، تمكنت أخيراً من تأسيس مشروعها الخاص الذي لطالما حلمت به، والاندماج في المجتمع من جديد، ما منحها طاقة إضافية توظفها لمساعدة غيرها من النساء المتضررات.
"مع انتهاء التدريبات شعرت أنني إنسانة جديدة كلياً وقوية. قمنا نحن المتدربات بخلق شراكات مع بعضنا البعض، حتى أن إحدى السيدات من مصراتة أعطتني آلة خياطة لأعمل عليها، وأنا أساعدها في تسويق منتجاتها من الحلويات في تاورغاء".
السيدة بيضاء بعد الانتهاء من التدريبات في مركز طمينة
مكّنت آلة الخياطة بيضاء من إنشاء مشروعها الخاص في الحياكة والتطريز، بعد سنوات من التمني والانتظار، وتحقيق حد أدنى من الاستقلالية المالية والتوازن النفسي.
السيدة بيضاء وهي تعمل على ماكينة الخياطة
"مكنني العمل من ادّخار بعض المال لأساعد به زوجي في توفير حاجيات أسرتنا الأساسية، ومع مرور الوقت استطعنا الانتقال للعيش في مكان خاص بنا خارج المدرسة التي كنّا نقيم فيها. بنينا منزلاً صغيراً جداً ومتواضعاً على أرض يمتلكها زوجي. رغم أن سقفه مصنوع من صفائح الحديد وكان مرآباً للسيارات، إلا أننا كنا مرتاحين فيه، ولأول مرة منذ زمن طويل شعرنا بالاستقرار والاطمئنان… أنشأنا أيضاً مزرعة صغيرة للخضروات بجانب المنزل، توفّر لنا أساسيات الطعام".
السيدة بيضاء تقطف الخضار من مزرعتها الصغيرة
منذ عودة أهالي تاورغاء إلى منطقتهم، لم تسجَّل أي حالة اعتداء أو جريمة، ويعيش الناس في أمان في المنطقة المحيطة بهم.
"الآن بعد أن استقرّت حياتي من خلال مشروع الحياكة الصغير، أطمح إلى جعل المشروع أكبر، وإنشاء معمل خياطة، إضافة إلى بناء منزل لائق لعائلتي"، تقول بيضاء.
تحقيق الاستقرار صعب
خلال نفس الفترة، ورغم عدم تأسيس مركز للدعم النفسي والأسري في تاورغاء، بسبب قلة الدعم والاهتمام، كانت السيدة بركة بصفتها منسقة فريق الدعم النفسي الاجتماعي في المجلس المحلي لتاورغاء تعمل مع فريق على تنفيذ أنشطة مشابهة لبرامج مركز طمينة وبأهداف أخرى مثل المساعدة في إعادة توطين الناس الذين قرروا العودة للعيش من جديد في المنطقة ودعمهم للتأقلم والاستقرار، إضافة إلى تحفيز باقي الأهالي للعودة بدل العيش كلاجئين في المخيمات.
منذ بداية الأزمة التي مرّت على أهالي تاورغاء، لم تتوقف السيدة بركة عن مساعدة ودعم أبناء المدينة. كانت البداية عن طريق مبادرة مؤسسة الأسرة المنتجة التي تهدف إلى دعم اقتصاد العائلات التاورغية من خلال بيع وتسويق منتجات الحرف اليدوية التي تشتهر بها تاورغاء.
وقالت السيدة بركة: "مهمة تحقيق الاستقرار من جديد صعبة جداً وتحتاج إلى وقت ودعم كبير خاصة من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية، فنسبة الأشخاص المضطربين نفسياً مرتفعة جداً، خاصة بين النساء والأطفال، بسبب ما مرّوا به خلال النزوح وفترة الحرب، ويحتاج الضحايا إلى الكثير من العمل لاستعادة توازنهم. يتم هذا من خلال جلسات الدعم النفسي، أو عن طريق محاضرات وأنشطة وبرامج اجتماعية نقوم بها داخلياً وبمجهود ذاتي، رغم عدم وجود مكان مخصص وبيئة تلائم البرامج التي نريد تقديمها"، مضيفةً: "لو توفّر هذا سيساعدنا كثيراً".
تهتم السيدة بركة بنساء تاورغاء من خلال مساعدتهن على خلق فرص عمل أو إنشاء مشاريع ريادية أو صقل المواهب والحرف، مثل الصناعات التقليدية والحياكة والتطريز وغيرها، لرفع مدخولهن وتمكينهن من تأمين حياة كريمة لهن ولعائلاتهن.
ومؤخراً، اختارت السيدة بيضاء ضمن عدة نساء أخريات للمشاركة في مخيم تدريب مكثف في مجال الحياكة والتطريز، يقدّمه مختصون في تطوير القطاع الخاص وريادة الأعمال.
وقالت السيدة بركة: "كنت ولا زلت أتابع حياة بيضاء، فهي وأسرتها من أولى العائلات التي عادت إلى تاورغاء لتكافح وتستقر وتربّي أطفالها في أمان. تغيرت كثيراً منذ عودتها. كانت دائماً منطوية وخائفة، أما الآن، فتبدو قوية ومنفتحة جداً وتبتسم طوال الوقت، ودائماً تسألني إذا كان هنالك أحد يحتاج إلى مساعدة... هي تشعر جداً بمعاناة غيرها بحكم الحياة التي عاشتها، وتحاول جاهدة أن تساعدهم، وتُعتبر الآن شخصاً فعالاً في الفريق النسائي بتاورغاء".
آمال بركة وآسيا الشويهدي وبيضاء مصباح عمر
تمكنت السيدتان آسيا وآمال مؤخراً من تحقيق طموحاتهن بعد استقرار مدنهن. أنشأت الأولى نادياً رياضياً نسائياً، تستغله أحياناً لتقديم محاضرات توعوية تهم المرأة، بحضور جمع من نساء الجهة. أما الثانية، فقد افتتحت أول متجر لبيع الملابس في تاورغاء، مدفوعة بحرصها على توفير أساسيات العيش في المنطقة.
عندما تُفرّق الظروف بين جيران كانوا مترابطين جداً، يصعب إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه، ووضع نهاية للحقد والكره يحتاج إلى عمل طويل وكل قصة نجاح تشكّل بقعة ضوء، ولو صغيرة.
نستطيع اليوم أن نرى نساء من أبناء المنطقتين أنشأن مشاريع ربحية صغيرة مشتركة وعلاقات صداقة قوية أدّت إلى تفعيل مبادرات تُعزّز السلام.
ولكن عودة الأمور إلى طبيعتها لا تزال تحتاج إلى الكثير من الجهود. من أصل 49 ألف نسمة هم عدد أبناء تاورغاء حالياً، نجح فقط 15 ألفاً في العودة والاستقرار، بعد مرور عامين على ميثاق المصالحة.
فبالرغم من تأكيد المجلس المحلي للمدينة عودة أهم الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن ليستقر في المدينة، إلا أن الدمار الكبير الذي لحق بمنازل المواطنين يمنع الكثيرين من العودة، فكثيرون لا يمتلكون القدرة على إصلاح منازلهم بجهود ذاتية.
بعد الثورة والحروب… الكورونا
حالياً، خدمات مركز طمينة شبه متوقفة. فمنذ إعلان منظمة الصحة العالمية أن فيروس كوفيد-19 تحوّل إلى وباء عالمي في آذار/ مارس 2020، أعلنت ليبيا مثل باقي دول العالم جملة من الإجراءات الاحترازية، منها فرض حظر تجوّل ومنع الاختلاط الاجتماعي، ما أدى إلى إيقاف البرامج في مركز طمينة.
"أساليب التدريب التي نقدّمها تعتمد بشكل أساسي على الاختلاط والتواجد المباشر أمام المدرب ويصعب استعمال أساليب أخرى مثل التدريب عبر الإنترنت لعدة أسباب"، تقول السيدة الشويهدي، وتضيف: "للأسف، الخوف من انتشار فيروس كورونا وضرورة اتّباع الإجراءات الوقائية جعلت مهمتنا صعبة، فقد استقبلنا خلال الفترة الماضية العديد من الطلبات من أشخاص يرغبون بالاشتراك في برامج المركز"، وتتابع: "إذا استمر هذا الحال سيؤثر سلباً على المجتمعات التي تسعى نحو الاستقرار والتغيير".
*أنجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة كانديد، ضمن برنامج المنحة الصحافية للعام 2020.
*شكر خاص للجان المصالحة في تاورغاء ومصراتة، فريق السلام النسائي تاورغاء-مصراتة، مؤسسة أطوار للأبحاث والتنمية المجتمعية، ووحدة التواصل والإعلام في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ليبيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...