التذكر هو عملية ذهنية ونفسية يقوم بها الراوي شفاهياً أو كتابة، حيث يروي ما سمعه من معاصري الحدث أو عاصره هو بنفسه، ثم يقوم بعملية التذكر هذه؛ لتظهر في شكلها النهائي كمصدر من مصادر دراسة التاريخ، وفي نفس الوقت، التاريخ الشفاهي لا غنى عنه في دراسة تحليل النصوص التاريخية.
فالذاكرة الفردية ليست معزولة عن محيط صنعها، أي أنها نتاج عملية تذكر جماعية نتجت وفقاً لعلاقات الإنتاج السائدة، لكن التمايزات بين المجتمعات هي التي تصنع ذاكرات مختلفة معبرة عن الهوية الاجتماعية والثقافية، فالذاكرة الجمعية، كما صك مفهومها عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس، هي التي تشكل الرواية أو السردية لتتحول في بعض الأحيان إلى أسطورة، الأمر الذي يؤدي إلى إمكانية صنع ذاكرة جماعية أو جمعية، رجوعاً إلى أنماط السلطة وعلاقات الاستغلال وعلاقات القوة.
فشلت الشعوب العربية في صنع ذاكراتها الجمعية المضادة لكلا النموذجين، تلك الذاكرة الثورية ضد المقدس الديني والمقدس القومي
الذاكرة العربية... مناوشات وتطاحن وحروب
لنأخذ نموذجين نعتبرهم كنماذج لصناعة ذاكرة جمعية مشوشة داخل الذهنية العربية، أولهما من التاريخ الإسلامي، حيث احتلت مسألة الخلافة والإمامة صدارة الدين والسياسة عند المسلمين، في مذهب أهل السنة والجماعة أو المذهب الشيعي أو الخوارج، بحيث تم تشكل ذاكرة جمعية تبدو كأنها موحدة عن ضرورة ووجوب وجود سلطة الخليفة الشرعية، أمير المؤمنين أو الإمام العادل، الذي يطبق شرع الله وسنة رسوله، لكنها في الواقع التاريخي ذاكرات وليس ذاكرة واحدة ، استناداً إلى التمايز المذهبي والهوياتي المُحدد للسردية التاريخية التي تدافع عن وجهة نظر كل مذهب.
لتنشأ المناوشات ويزداد التطاحن وتنشب الحروب بين أصحاب المذاهب، التي تعتبر مذاهب سياسية قبل أن تكون دينية، حتى وإن كانت مستندة على الأفكار الدينية المكونة للمذهب. واستمر الحال هكذا في إطار السيرورة التاريخية في تطور صناعة الذاكرة الجمعية، بناء على إعادة تشكل علاقات الإنتاج وفقاً للنمط السائد.
أما النموذج الثاني من التاريخ الحديث، فمنذ سقوط دولة الخلافة العثمانية كنظام إسلامي رسمياً في عام 1924م، على يد الثورة الكمالية العلمانية، ظهور القوميات الجديدة والدول الوطنية التي ارتبطت بمآلات الحرب العالمية الأولى، ومعاهدات سياسية مثل سايكس- بيكو و سيفر وكوجاك كينارجي ولوزان ومؤتمرات مثل سان ريمو، لإعادة توزيع فائض رأس المال بين الدول الاستعمارية الكبرى، فقد رافق هذا صعود الأنظمة البورجوازية التي تبنت أفكار التحرر الوطني والقومية العربية، الأمر الذي تطلب وضع نموذج فكري لصناعة ذاكرة جمعية جديدة تعصف بالقديمة أو على الأقل تعمل على تحييدها، لتثبيت الجديد، عاملة على النفاذ داخل العقول بما يخدم أهدافها السياسية والاقتصادية.
ماذا تختار الذاكرة العربية في زمن القلق؟ وليس من قبيل المبالغة في شيء إن قلت ماذا تختار الذاكرة العربية في زمن الرعب؟
فأصبح لدينا واقع تاريخي استطاع تكوين ذاكرات تحيا في نفوس وأذهان سارديها وسامعيها، ذاكرة إسلامية تريد اجترار ماض دموي مقيت في صورته المثالية المصطنعة، ممثلة في عصر النبوة وما بعدها، كعصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين، وصولاً إلى العثمانيين باعتبارهم فاتحين لعاصمة الدولة البيزنطية، وفاتحين لدول أوربية غارقة في كفرها حتى النخاع.
وعلى النقيض التاريخي، ذاكرة جمعية رسخت لقيم الوطنية وشعارات القومية العربية، نخبوية الطابع، تريد خلق مجتمع شبيه لها، آخذة بنماذج الحداثة شكلياً، والتحرر الوطني كأداة شغل، ما ساعد تلك السلطات الحاكمة على تدشين قواعد الفاشية والنفاذ داخل المجتمعات، لخلق أدوات سلطوية تخضع بها أفراد المجتمع لسيطرتها، من خلال ثقافة الهيمنة. تلك الهيمنة تمارس من خلال ما أسماه ألتوسير "أجهزة الدولة الأيديولوجية"، وما أطلق عليها جرامشي أيضاً "الخنادق الخلفية للدولة" المتمثلة في الإعلام والمدرسة والجامعة ودور العبادة والأسرة.
فالرهانات التاريخية في المنطقة العربية المرتبطة بترسيخ واحد من النموذجين، تبدو كأنها متناقضة تاريخياً انطلاقاً من التناقض الإيديولوجي الكامل، لكنها في الحقيقة تؤدي جمعيها إلى طريق واحد، هو طريق السلطوية الغاشمة المهلكة للمجتمعات.
في المقابل، فشلت الشعوب في صنع ذاكراتها الجمعية المضادة لكلا النموذجين، تلك الذاكرة الثورية ضد المقدس الديني والمقدس القومي؛ لتتجاوزهما عابرة إلى جسر الذاكرة العلمانية التي تتيح العيش في مجتمع سوي نفسياً و عقلياً، وهي الذاكرة التي استحضرتها مجتمعات أوربا والمنطقة العربية ما بين الحربين العالميتين، وما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نشاط الأحزاب الشيوعية والنقابات العمالية وحركات طلابية ملهمة ثورياً، في مشاهد عالمية لا تنسى ضد بطش و قسوة الرأسمالية الإمبريالية التي أدخلت العالم كله إلى آتون الدمار والهلاك والإفقار الممنهج وغير الممنهج، فضلاً عن دور المفكرين والباحثين العلمانيين في محاولاتهم لاستحضار تلك الذاكرة، في مواجهة ذاكرة المقدس الديني وذاكرة التكفير والتهديد بسفح الدماء، بجانب التبشير بالعذاب الآخروي.
فهل الذاكرة العربية قادرة على صنع تلك الذاكرة المنسية؟ أو بالأحرى، هل نحن قادرون على التذكر الثوري العلماني بالوصف التاريخي النفسي والذهني؟ فالمآلات الحالية صعبة وبائسة، وتكاد تكون محبطة في ظل بقاء ذاكرتين ساهمتا في مسخ المجتمعات العربية، وتحويل أفرادها إلى مسوخ تسير على الأرض، تتعارك وتتناحر لأجل زيف وأوهام تمت صناعتها على أرضية الصراع الطبقي التاريخي. ليكون التساؤل: ماذا تختار الذاكرة العربية في زمن القلق؟ وليس من قبيل المبالغة في شيء إن قلت ماذا تختار الذاكرة العربية في زمن الرعب؟ ليصير تساؤلاً مهماً وجاداً، نحن في أمس الحاجة للجواب عليه طالما لازلنا مهمومين على قيد الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون