تختلف العادات المتبعة في القراءة من شخص لآخر، فهناك من يفضّل القراءة وترديد الكلمات بصوت مرتفع، وهناك من يعتمد على القراءة الصامتة.
وفي العادة، ترتبط القراءة بصوت عال بعالم الأطفال، وينظر إليها على أنها تقنية منوطة بالقرّاء غير المتمرّسين، بحيث يتم التخلص منها تدريجياً بمجرد أن يتعلم هؤلاء الأفراد القراءة بصمت. ولكن لطالما اعتبرت القراءة، عبر التاريخ، نشاطاً "صاخباً" إلى حد ما، واللافت أنه على الألواح الطينية التي كُتبت في العراق وسوريا قبل نحو 4000 سنة، كان يشار إلى القراءة حرفياً بـ "يصيح" أو "ينصت"، وقد جاء في إحدى الرسائل التي تعود إلى تلك الحقبة: "أرسل لك هذه الرسالة العاجلة. أنصت إلى هذا اللوح، أو إن كان مناسباً، اطلب من الملك أن ينصت له".
ولكن اليوم من الملاحظ أن القراءة الصامتة أصبحت هي القاعدة، بحيث تقوم الأغلبية من الناس بحبس الكلمات في الرأس أثناء القراءة، في حين أن القراءة بصوت عال باتت مقتصرة على سرد القصص للأطفال قبل النوم أو العروض المسرحية، إلا أن العديد من الأبحاث تتحدث عن الفوائد الكثيرة التي نضيّعها عند ترديد الأصوات في أذهاننا فقط، دون التلفظ بها أثناء القراءة.
فن القراءة بصوت عال
يعود فن القراءة بصوت عال على البالغين بفوائد عديدة، سواء كان ذلك من خلال تقوية الذاكرة وفهم النصوص المعقدة وحتى توطيد الروابط العاطفية بين الناس، وبعيداً عن كونه نشاطاً قديماً، فإن القراءة بصوت مرتفع لا يزال شائعاً بشكل مدهش في الحياة الحديثة، هذا ويستخدمه الكثير من الناس كأداة لفهم النصوص المكتوبة من دون أن يدركوا ذلك، وفق ما ذكره موقع بي بي سي.
في هذا الصدد، أجرى عالم النفس في جامعة واترلو في كندا، كولين ماكلويد، أبحاثاً مكثفة حول تأثير القراءة بصوت عال على الذاكرة، وقد أظهر ماكلويد وزملاؤه أن الأفراد تذكروا الكلمات والنصوص التي قاموا بقراءتها بصوت مرتفع مقارنة بالقراءة الصامتة، وقد تبيّن أن تأثير القراءة بصوت مرتفع كان قوياً بشكل خاص لدى الأطفال، رغم أنه مفيد أيضاً لكبار السن، بحسب ما أكده ماكلويد: "القراءة بصوت مرتفع مفيدة لجميع الأعمار"، على حدّ قوله.
وأطلق ماكلويد على هذه الظاهرة اسم "تأثير الإنتاج"، مشدداً على أن "إنتاج" الكلمات المكتوبة، أي قراءتها بصوت مرتفع، يحسن ذاكرتنا عنها.
يعود فن القراءة بصوت عال على البالغين بفوائد عديدة، سواء كان ذلك من خلال تقوية الذاكرة وفهم النصوص المعقدة وحتى توطيد الروابط العاطفية بين الناس
على مدى سنوات، انكبت العديد من الدراسات على تحليل ظاهرة "تأثير الإنتاج"، وفي إحدى الدراسات التي أجريت في أستراليا، تم تقديم قائمة من الكلمات على مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 7 إلى 10 سنوات، وطُلب منهم قراءة بعضها بصمت وبعضها الآخر بصوت عال.
النتيجة هي تذكّر الأطفال87% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع مقارنة بـ 70% فقط من الكلمات التي قرأوها بصمت.
وفي دراسة أخرى، تم تكليف بالغين تتراوح أعمارهم ما بين 67 و88 عاماً بقراءة كلمات، إما بصمت أو بصوت عال، ثم كتابة كل ما يمكنهم تذكره. واستطاع المشتركون تذكر 27% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع، في حين لم يتذكروا إلا 10% من الكلمات التي قرأوها بصمت، كما استطاع المشتركون التعرف على 80% من الكلمات التي قرأوها بصوت مرتفع، مقارنة بـ 60% فقط من الكلمات التي قرأوها بصمت.
واللافت أن ماكلويد وجد أن هذا التأثير يمكن أن يستمر لمدة أسبوع بعد قراءة الكلمات، معللاً بأن أحد أسباب قدرة الناس على تذكر الكلمات المنطوقة تعود إلى كونها "بارزة ومميزة، لأنه يتم لفظها بصوت مرتفع".
تحسين الذاكرة
بالإضافة إلى أن القراءة بصوت مرتفع تساعد في إبراز بعض مشاكل الذاكرة والكشف عنها في وقت مبكر، بحسب ما كشفته إحدى الدراسات، ذلك أن الأشخاص المصابين بمرض الزهايمر في مراحله المبكرة، كانوا أكثر عرضة من غيرهم لارتكاب أخطاء معينة عند القراءة بصوت مرتفع. وهناك طريقة أخرى لجعل الكلمات تلتصق في الذاكرة، وهي تمثيل هذه الكلمات، كأن نتخيل مثلاً عملية رمي الكرة أو نتخيل شخصاً يقوم برمي الكرة أثناء التلفظ بهذه العبارة.
وفي السياق نفسه، يساعد الإنصات لقراءة الآخرين أيضاً في تقوية الذاكرة، ففي دراسة أجراها باحثون من جامعة بيروجيا في إيطاليا، قرأ طلاب مقتطفات من روايات لمجموعة من كبار السن المصابين بالخرف على مدى 60 جلسة، وقد تبيّن أن أداء المستمعين في اختبارات الذاكرة قد تحسن بعد الجلسات، والسبب قد يكون في كون الاستماع إلى القصص جعلهم يعتمدون على ذكرياتهم وخيالاتهم ووضع تجاربهم السابقة في تسلسل زمني.
من هنا خلص الباحثون إلى القول بأن الإنصات لقصة ما قد يؤدي إلى "معالجة معلومات أكثر عمقاً".
نستخدمها دون أن ندري
هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن الكثيرين يدركون بشكل بديهي فوائد القراءة بصوت عال، ويستخدمونها من دون أن يدركوا.
أجرت سام دانكان، الباحثة في محو أمية القراءة في جامعة لندن، دراسة لمدة عامين، شملت أكثر من 500 شخص في جميع أنحاء بريطانيا، لمعرفة متى وكيف يقرأون بصوت عال، ولاحظت دانكان أن معظم المشتركين يقولون في البداية إنهم لا يقرأون بصوت مرتفع، ثم يدركون أن العكس هو الصحيح.
القراءة بصوت عال تجلب الفرح والراحة والشعور بالانتماء
ذكر بعض المشتركين أنهم يقرأون رسائل البريد الإلكتروني والرسائل المرحة للترفيه عن الآخرين، في حين قال آخرون إنهم يقرأون الصلوات بصوت عال لأسباب دينية، وبدورهم يقرأ الكتّاب والمترجمون المسودات بصوت عال للاستماع إلى الإيقاع وسلاسة النص، وأحياناً يقرأ الناس وصفات الطهي والعقود والنصوص الصعبة بصوت مرتفع لفهمها.
وذكر الكثير من المشتركين أن القراءة بصوت عال تجلب الفرح والراحة والشعور بالانتماء. وبحسب دانكان، فإن البعض كانوا يقرأون لأصدقائهم المرضى أو المحتضرين كوسيلة للهروب من الواقع.
وتقول دانكان إن بعض المشتركين ذكروا أن الشخص الذي يقرأ لكم بصوت مرتفع كأنما يهديكم جزءاً من وقته واهتمامه وصوته.
ولكن إذا كانت القراءة بصوت مرتفع تحمل كل هذه الفوائد التي ذكرناها في السابق، لماذا تحوّل البشر إلى القراءة الصامتة؟
القراءة الصامتة
مع مرور الوقت، طور الكتبة طرقاً أسرع وأكثر فعالية للكتابة بالخط المسماري.
وبحسب كارينلي أوفرمان، الأخصائية في علم الآثار الإدراكي في جامعة برغن النرويجية، والتي تدرس تأثير الكتابة على أدمغة البشر وسلوكياتهم في الماضي، فإن مثل "هذه الخربشة السريعة لها ميزة حاسمة، بحيث أنها تواكب سرعة التفكير بشكل أفضل".
هذا وأوضحت أوفرمان أن القراءة بصوت عال أكثر بطئاً من القراءة الصامتة.
الشخص الذي يقرأ لكم بصوت مرتفع كأنما يهديكم جزءاً من وقته واهتمامه وصوته
وفي كتابه Reading and Writing in Babylon، اقتبس دومينيك شاربين خطاباً دوّنه أحد الكتبة ويدعى هولالوم، يلمح فيه إلى القراءة الصامتة.
وميّز هولالوم بين القراءة الصامتة بكلمة "يطالع أو يبصر"، والقراءة بصوت مرتفع بكلمة "يقول أو ينصت"، بحسب الموقف.
على الأرجح أن الكتبة القدامى قد استمتعوا بوجود نمطين للقراءة تحت تصرفهم: أحدهما سريع ومريح وصامت، والآخر أبطأ وأكثر ضجيجاً ويساعد على ترسيخ المعلومات في الذاكرة.
وبالنسبة لنا، ففي الوقت الذي أصبحت فيه تفاعلاتنا مع الآخرين عابرة مع سيل المعلومات التي نتلقاها، ربما يكون من المفيد أن نعود إلى الدراسات التي شددت على أنه إذا أراد المرء أن يتذكر بعض المعلومات فيتوجّب عليه قراءتها بصوت مرتفع. وعليه، يجب أن نخصص بعض الوقت للقراءة بصوت عال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...