شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
المدن لا تبوح بأسرارها إلّا لكنّاسيها

المدن لا تبوح بأسرارها إلّا لكنّاسيها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 14 نوفمبر 202011:59 ص

أسكن في واحد من أحياء اللاذقية الذي يُصنّف بأنه حيّ للأثرياء، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنني ثرية، فأنا أتشارك بيتي مع صبية أخرى وامرأة عجوز ندفع لها بدل إيجار معقولاً.

واحدة من مزايا السكن في أحياء الأثرياء أنك لست مضطراً لإنزال القمامة إلى الحاوية، بل يكفي أن تضعها أمام باب بيتك وتدع الباقي لعامل النظافة الذي يجمعها من أمام الأبواب لقاء مبلغ مالي شهري، وذلك أيضاً يمنحك فرصة تبادل الحديث معه فهو يعرف أسرار المدينة أكثر من أي شخص آخر.

 في إحدى محادثاتنا من خلف الأبواب أسرّ لي عامل النظافة أنه دفع مبلغاً مالياً لا بأس به كي يُوظَّف في واحدٍ من أحياء الأثرياء، وأنه حتى المكانس لا تخلو من الواسطة. فالكناسون أيضاً يضعون ثقلهم وثقل معارفهم لتتمكن مكانسهم من الظفر بشوارع الأغنياء، فبداية يتمكنون من تحصيل دخل إضافي لقاء أن يصعدوا أدراج البنايات ثم يهبطوا وهم محملون بالأكياس السوداء أو الزرقاء، كما أنّ الأثرياء يرمون الكثير من الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، كالأحذية التي تكفيها ضربة اسكافيّ واحدة لتعود جديدةً كما كانت، أو الملابس التي بطلت موضتها لكنها ما زالت قادرة على تدفئة العظام في برد الشتاء. كذلك الأمر بالنسبة للطعام، ففي أحياء الفقراء حتى القطط لا تجد ما يمكنها سدّ رمقها به في حاويات القمامة، أما في حاويات الأثرياء فقد تجد بطيخةً كاملةً مرميةً لأن حمرتها ليست كافية، أو نصف علبة بيتزا لم تُلتهم لأن صلصتها قليلة، وقد تجد أيضاً العديد من أصناف الفاكهة التي ما تزال هيئتها مقبولة يمكنك الاستفادة من نصفها الذي لم يسود.

آخر المساء، بعد غروب الشمس بساعات، وإذا تمكنت من مراقبة السوق من بعيد وبنظرة شاملة، لارتسمت على شفتيك ابتسامة طفولية وأنت تراقب حركات أصحاب المحالّ، تلك الحركات المتعجلة التي تشبه حركات الأطفال في لعبة الاختباء، إذ يتسابقون فيما بينهم، وبناءً على قواعد لعبتهم الصامتة التي وُضعت بحكم العادة، يتسابقون لإغلاق محالّهم، وكأن من يتأخر بالإغلاق ستلازمه نظرات التجار الآخرين، وسيصير اسمه: الحاج المتأخر. إلى أن يتمكن من التفوق على واحد من التجار الآخرين، فيتنازل له عن اللقب، وينضم إلى جوقة النظرات التي تطلق الألقاب.

في إحدى محادثاتنا من خلف الأبواب أسرّ لي عامل النظافة أنه دفع مبلغاً مالياً لا بأس به كي يُوظَّف في واحدٍ من أحياء الأثرياء، وأنه حتى المكانس لا تخلو من الواسطة

بعد أن تنتهي لعبة الإغلاق، ويقلّ عدد الناس في الشوارع، تبدأ مكانس العمال المناوبين بلملمة أسرار النهار، فالمدن لا تعطي أسرارها إلّا لكناسيها، أولئك الذين يعتنون بنظافتها الشخصية كما كانت الوصيفات يعتنين بالأميرات، يسرّحن شعورهن، يقلّمن أظافرهن، يمسحن أجسادهن بالزيوت المعطَّرة، ويتطلعن على أكثر المناطق حميمية في أجسادهن. 

كتلك الوصيفات المخلصات ينطلق جيش الكنّاسين إلى شوارع المدينة، ويتّخذ كل واحد منهم شارعه الخاص. أياديهم تحرّك المكانس فتدغدغ بطون الشوارع، أو تعمل لها مساجاً خفيفاً يريح كتفيها، وأقسم أنك لو أنصتّ جيداً لسمعت قهقهة الشارع، ولو كانت لك أذنا كنّاس لضحكت مع ضحكة الطريق، فالطرقات وبعد أن تدغدغها خيوط المكنسة تبدأ بسرد الدعابات على مسامع الكناسين، وأحياناً تصيبها هستيريا الضحك. 

ولأن ذاكرة الطريق تحتفظ بأدق الأشياء التي تمر بها خلال النهار، من النظرات، والدعسات، والكلمات، والهمهمات، وآثار عجلات السيارات أو عربات الفقراء، فإنها تنوء بحملها عندما يحين الليل، وتحتاج إلى أذن الصديق لتسمع حكاياتها الغريبة، وكفه لتطبطب عليها عندما تتوتر، وضحكته العذبة عندما تخبره موقفاً مضحكاً، تحتاج إلى حركته الخفيفة التي تزيل عنها عبء النهار.

 تتحرك المكانس فتزيل بقايا لفافات الحشيش التي يتبادلها الشباب فيما بينهم سراً في الشوارع المعتمة، أعقاب السجائر، آثار أقدام رجل كان يطقطق بكعب حذائه وبكلماته اللاذعة عبر الهاتف، نظرات طفل تعلقت بلعبة جميلة ثم سقطت مكسورة فارتطمت بالطريق، حبات عرق صبيةٍ تركض ساعتين في اليوم لتنقص وزنها كي تجد شاباً يحبها لشخصيتها الجميلة، تلك الشخصية التي لا تُرى بسبب الوزن الزائد. وتقول الطريق للكنّاس: اليوم زحفت قدما عجوز بثقل وكنت أعدّ الدقائق التي يحتاجها ليقطع من جهة إلى أخرى فأحسّ بالذنب، لأن خصري العريض أنهكه، لذلك قررت أن أتّبع حميةً غذائيةً قاسيةً. 

تتحرك المكانس فتزيل بقايا لفافات الحشيش التي يتبادلها الشباب فيما بينهم سراً في الشوارع المعتمة، آثار أقدام رجل كان يطقطق بكعب حذائه وبكلماته اللاذعة عبر الهاتف، حبات عرق صبيةٍ تركض ساعتين في اليوم لتنقص وزنها كي تجد شاباً يحبها لشخصيتها الجميلة

كما تحكي الطرقات أحلامها لكنّاسيها: إنني أعمل بجدّ على تطوير نفسي، أتابع أحدث إصدارات المفكرين وعلماء النفس، أجرّب طرائقهم كي أتمكن من التخلص من عادة التفكير الزائد، وأتمكن من تخليص عقلي من الأشياء البشعة والمشاعر السلبية التي تسبّب لي ضغطاً نفسياً هائلاً، أحاول أن أضع كامل تركيزي في ضحكات المارة، وأغاني العشاق، في أصوات القبلات التي ترتعد فرائصي كلها عندما أسمعها إذ أخاف أن يرى أحدٌ هؤلاء العشاق، وأفكر بيني وبين نفسي: آه لو كنت امتلك قدرات خارقة للطبيعة فأتمكن من إخفائهم عن العيون، لكنني كما ترى لست سوى طريق عادية ليست لي أي قوى خارقة! 

أحاول أن أحتفظ في ذاكرتي بصوت رفرفة فستان امرأة، ضحكة أب حصل على علاوة واشترى علبة حلو لأولاده، لهفة أم تنتظر أمام باب المدرسة ابنها الذي يتقدم لامتحان الشهادة الثانوية، امتنان عائلة شبعت بطون أفرادها وتلذذت بالطعام، صوت صياح أولاد يلعبون بالكرة، فتاة ترى جسدها لأول مرة بعين الأنثى، يا الله ما أجملهن الفتيات عندما تربكهن أولى خطواتهن في عالم الأنوثة.

يودّع الكنّاسون طرقاتهم، يعودون إلى حياتهم البائسة، لكن شيئاً جديداً ينبت في نفوسهم كل يوم، لأنهم يعرفون أنهم عندما يقضون نحبهم ستبكيهم مدينة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image