ظلّت بطولات سلاح الجو المصري في حرب أكتوبر العنوان الأبرز لذاكرة الحرب طوال 47 عاماً. كان الرئيس المخلوع حسني مبارك قائداً للقوات الجوية وقتها، وبعد عزله تحدث طويلاً عن إنجازات تلك القوات، وهي إنجازات نالت اهتماماً واسعاً على مدى السنوات التي تلت الحرب، لكن نادراً ما التفت أحد إلى الكثير من كواليس وأسرار التضحيات التي رسمت الانتصار.
"كانت الفروق القتالية بيننا وبين الإسرائيليين لا توصف"، بتلك الكلمات وصف الطيار الذي قاتل في حرب أكتوبر اللواء عبد المنعم همام ما جرى، موضحاً أن مصر امتلكت طائرات "ميغ21" وهي مقاتلة مخصصة للدفاع الجوي، و"سوخوي" لمهاجمة العدائيات الأرضية، وطائرات "ميغ 17" قاذفة للمعاونة الجوية للجيوش الميدانية، و"تي إي 16" وهي قاذفة للقصف الجوي للأهداف الاستراتيجية كمراكز القيادة والمطارات الكبيرة، لكن طائرات كثيرة منها كانت تعود للحرب العالمية الثانية ومداها قصير في القتال، بينما نعمت إسرائيل بطائرات قتال حديثة كـ"الفانتوم" و"الميراج" و"السكاي هوك"، بالإضافة للتسليح العالي.
بالنسبة لمدير كلية الدفاع الوطني الأسبق اللواء محمد الغباري، كمنت المشكلة آنذاك في تكنولوجيا التسليح، فالطائرات الإسرائيلية كانت تُحلق من ساعة إلى ساعة وربع، أما المصرية فلم تتعدّ قدرتها على التحليق الـ25 دقيقة، ولهذا السبب كانت الطائرة الإسرائيلية تحتاج لأربع طائرات مصرية لمداهمتها.
يعود الغباري، في حديثه لرصيف22، إلى ذلك الوقت ليلفت إلى أن خطة "حائط الصواريخ" صنعت مظلة على القوات بعمق 15 كيلومتراً، وفي حال بدأت الحرب ستضطر الطائرات الإسرائيلية إلى القدوم لمهاجمة الأراضي المصرية، وبالتالي ستكون هناك 15 دقيقة للقتال وليس للتحركات، فيتبقى للطيار الإسرائيلي الوقت نفسه المتبقي للمصري للاشتباك، لا سيما وأن الطائرات المصرية زُوّدت بخزانات وقود إضافية.
عنف التدريب
خلال حديثه لرصيف22، تطرق عبد المنعم همام إلى عملية إعداد القوات الجوية للحرب، حيث كان الطيارون يتدربون بمعدلات تدريب متقدمة جداً كي يتمكنوا من الوصول للمستوى المهاري الذي يخوّلهم استخدام الطائرات باحترافية عالية، وكانت لكل جهة تدريباتها الخاصة في تبة في وادي النطرون والتي صممت بالأشكال والأهداف نفسها التي ستتم مواجهاتها عند استهداف مطارات العدو أو مناطق دفاعه الجوي، وكانت القيادة تسعى لاستكمال الأعداد سواء من طيارين أو فنيين أو مهندسين.
كان عنف التدريب واحداً من الأسباب التي أدرت لوقوع ضحايا في صفوف القوات الجوية، إذ توفي الكثير من الطيارين بسبب أسلاك الكهرباء، حيث كانت الطائرة تصطدم بالسلك الذي لا يراه الطيار أثناء الليل فيحترق ذيلها، والمبالغة في التدريب كانت سبباً آخر، إذ كان الطيارين يتبارون للوصول لمستوى عال من الحرفية لكن تقديرهم يخونهم أحياناً فيحدث تصادم بين الطائرات.
النيران الصديقة
تُعد النيران الصديقة من الأشياء المجهولة عن حرب الطيران وخاصة "يوم العبور"، حيث قامت بعض القوات البرية باستهداف الطائرات من دون أن تدرك أنها طائرات مصرية.
ويوضح همام أنه تعرض لحادث من هذا النوع في أول طلعة له يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث أطلق الدفاع الجوي لمطار المنصورة صواريخ على طائرات سربه. حصل ذلك، بعدما اعتقد الدفاع أن الطائرات عادت للمطار، من دون أن يدرك أن طائرات الحماية لم تعد بعد، وهكذا اعتبر ما رآه طائرات إسرائيلية، فصوّب تجاهها عدداً من الصواريخ التي مرّ أحدها بين طائرة همام وطائرة قائد التشكيل الرائد سمير عزيز، ولم يتوقف الاستهداف إلا بعدما تبلغت قيادة المطار بأن الطائرات تابعة لها.
من جهته، يعلق الغباري على حوادث النيران الصديقة أثناء الحرب بالقول إنها حدثت بسبب أخطاء الطيارين، لأن سلاح الطيران يعمل معه الدفاع الجوي، ويشكلان معاً غرفة عمليات مشتركة، فيتفقان سوياً على الممر فوق القوات المسمى بالممر المغلق، وخلال المهمة يتم تحديد إحداثيات للطيارين للعودة عبرها، لكن بعض الطيارين لم يلتزموا وحاولوا العودة من المنطقة الأقرب للمطار ورسموا حساباتهم على أن الدفاعات الأرضية ستكتشف أنها طائرات "ميغ" فلن تشتبك معها، ولكن الجندي المرابط على مدفع على الأرض عندما تأتيه تعليمات بأن تلك المنطقة مُقيّدة لن يُصوّب تجاه الطائرة التي تمر من فوقه بينما في حالة النيران مفتوحة فسيضطر للتعامل مع الموقف دون النظر لطراز الطائرة.
الطيارون الانتحاريون
من أغرب ظواهر الحرب كان الطيارون الانتحاريون الذين اتخذوا قراراً مفاجئاً بالاصطدام بالعدو بطائراتهم.
يتحدث همام عن حوادث شهدها بدأت مع الطيار صبحي الشيخ من تشكيلات "السرب 42"، يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، عندما هاجم مطار رأس نصراني (شرم الشيخ). بعد ضرب الهدف، أُصيب بصاروخ من الدفاع الجوي، وكان لا بد من القفز من الطائرة، وبدلاً من أن يقع في الأسر لدى العدو، رأى طائرة "فانتوم" تقوم بتأمين المطار، وهنا سمعت الميكروفونات نداء "الله أكبر"، بعدما قرّر الاصطدام بالهدف.
تكررت الحادثة مع طيار آخر كان على "سوخوي"، يوم 16 تشرين الأول/ أكتوبر، وتعرض للقصف، وعندما نفذت ذخيرته اصطدم بالطائرة بالجسر الذي انطلقت منه النيران، لتدميره.
طيارون انتحاريون فجروا أنفسهم بمواقع العدو، شهيد لم يعترف به مبارك، طيار أُحرق حياً، ومأساة عاشها طيارو الهليكوبتر... إنجازات سلاح الجو المصري في حرب أكتوبر نالت اهتماماً واسعاً، نادراً ما نالته كواليس وأسرار تضحيات كثيرة رسمت الانتصار
وكشف الطيار أحمد المنصوري الذي لقبته إسرائيل بالطيار المجنون لرصيف22 أنه كان أكثر الطيارين محاولة للدخول في طائرات العدو، وعندما سأله بعض الطيارين الفرنسيين الذين استعانت بهم إسرائيل في نهاية الحرب عن سبب ذلك، قال لهم إن هدفه كان القضاء عليهم، أما هم فكان لديهم العديد من الخيارات منها الابتعاد عن أرضه.
ولفت المتحدث باسم "المجموعة 73 مؤرخين" أحمد زايد إلى أن بعض الطيارين أقدموا على التضحية بأنفسهم في مواقع أو معدات للعدو، وهو قرار شخصي يتخذه الطيار، لا سيما عندما تُصاب طائرته أو ينفذ منها الوقود ولا يستطيع العودة بها، وقد شهدت الحرب عدة نماذج لهؤلاء الطيارين بداية من "يوم العبور".
مأساة طائرات الهليكوبتر
"دفعنا ثمن الانتصار بصدور عارية"، هكذا يستهل اللواء طيار صلاح عارف حديثه عن دور طائرات الهليكوبتر في الحرب، مبيناً أن مهمتها بدأت عند الساعة الخامسة من "يوم العبور"، بفصل النسق الثاني للجيش الإسرائيلي في سيناء على بعد 23 كيلومتراً عن النسق الأول بخط بارليف، عبر 3 ألوية "هليكوبتر مي 8"، فيها 58 طائرات وكتيبتي صاعقة.
ويذكر عارف، في حديثه لرصيف22، أن الخسائر كانت فادحة في صفوف الهليكوبتر، لأنها طائرات من دون حماية ذاتية، تحميها المقاتلات.
عند نجاح الضربة الأولى، تقرر القيادة إلغاء الضربة الثانية وحماية الهليكوبتر، فتعتبرها بأمان، لكن العدو كان يمتلك طائرات ليلية أصبحت "تتسلى" بإسقاط الهليكوبتر، لأنها هدف ثابت لها، فسرعتها 200 كيلومتر في الساعة والعدو سرعته 1200 كيلومتر، وهو ما تسبّب بفقدان 27 طائرة، أي بنسبة 35% من القوات، علماً أن الطائرة يكون فيها طياران ومهندس وملاح، وفق ما يروي عارف.
يُذكّر عارف أن "سرب أحمد خيري"، على سبيل المثال، استشهد كاملاً في الطريق لتنفيذ مهمته في الرويسات، ولواء آخر كان من 18طائرة فُقدت منه 9 طائرات.
تحركت طائرة عارف عند الساعة الخامسة، وكانت رحلته ما بين ألماظة ووادي همس والمليز وسدر الحيطان ونخل والعودة، فوجد طائرتين إسرائيليتين فوقه، ليكتشف أنه من دون حماية عندما جرى قصفه بـ4 صواريخ "سكاي هوك" في رحلة العودة، لكنه نجح بتفاديها بتقليل سرعته، لأن "الهوك" لا يتعامل مع طائرة سرعتها أقل من 150كيلومتراً في الساعة وارتفاعها أقل من 5 أمتار.
يشير عارف إلى أنه حقق في يوم العبور نتائج مبهرة، ومنها قصف ممرات فايد في الثغرة التي احتلها العدو، فيما ضرب طيار اسمه سعيد صواريخه قريباً من غولدا مئير وموشي ديان عندما ذهبا ليباركا لقائد الثغرة آنذاك آرييل شارون، وكان بينهم وبين الصواريخ أقل من 15 سنتيمتراً.
بحسب عارف، كانت المأساة الثانية في 24 تشرين الأول/ أكتوبر، أي في آخر يوم قبل وقف إطلاق النار. وقتها، كان كل طرف يسعى لتحقيق مكاسب ميدانية، فحاول العدو احتلال السويس بينما أراد المصريون إيصال بلازما وذخيرة للجيش الثالث المحاصر، فكلفوا 7 هليكوبترات بالمهمة، وتم اختيار خط سير متكرر حيث لا تتحرك طائرة إلا بعد تبليغ السابقة بالعودة.
طالب الطيارون القادة بتغيير خطوط السير لكن القيادة نفذت التعليمات، والعدو وضع مدفعية 24 متراً رادارياً في جبل شبراويت، فأسقط 6 طائرات ونجت الأخيرة بقيادة سمير الحديدي.
جرائم إسرائيل في الثغرة
كانت أبرز الجرائم الإسرائيلية في حرب أكتوبر في الثغرة، ومنها ما حدث هناك مع الطيار الناجي محمد شمس الدين كامل، فقبيل وقف إطلاق النار، حاولت طائرته إيصال إمدادات عسكرية للجيش الثالث، فأصابها جندي إسرائيلي، وبعد السقوط وأثناء إطفاء فريق الطائرة لأنفسهم من الحريق، رأتهم دورية إسرائيلية اقتربت منهم.
يشير كامل، في حديثه لرصيف22، إلى أن الجنود ظنوا أنه توفي بسبب ملابسه المحترقة، وتعاملوا مع باقي طاقم الطائرة وكان منهم الطيار الشهيد رفيق صلاح الدين عمر، ففتحوا نيران رشاشاتهم على الناجين وعندما نفذت الذخيرة كان عمر لا يزال يتنفس، فأخرجوا قاذفة لهب وأحرقوه حياً.
ويُبيّن زايد، بدوره، أن إسرائيل ارتكبت العديد من الجرائم في الثغرة، كعمليات انتقامية لهزيمتها في الحرب، ومنطقة الثغرة كلها وحدات إدارية ومناطق فلاحين، فسرقوا ماشية الفلاحين، وقبضوا على ضابط مصري يقوم بعملية استطلاع ووضعوه في هليكوبتر وقذفوه منها.
السرب المصري في الجبهة السورية
كشف الطيار محمد سيف الإسلام، وهو طيار السرب المصري "ميغ 17" في سوريا، أن مهمته مع زملائه كانت دعم الجبهة السورية، وقد بدأت في حزيران/ يونيو عام 1973 للتدريب على طبيعة المنطقة الجبلية الوعرة في جبل الشيخ والمناطق المجاورة، وتمركزوا في مطار المزة العسكري قرب دمشق.
كانت أولى طلعات السرب المصري في منطقة ما بين سوريا ولبنان وفلسطين ونجح في تدمير احتياطي تعبوي لمدرعات العدو، ونجحت الضربة الجوية في سوريا بنسبة 60% لصعوبة الجغرافيا، وتمويه العدو الشديد على معداته والاستطلاع السوري غير دقيق.
ونجح سيف الإسلام في اليوم الثالث بكشف رتل إسرائيلي من 80 دبابة على طريق سعسع-دمشق كان متخفياً بشكل جيد، وذلك من خلال معدات مسلوبة في حرب 1967، فنفذ التشكيل المصري ثلاث طلعات دمرت الرتل، ودخلوا في معركة جوية بـ4 طائرات أمام 8 طائرات "فانتوم" إسرائيلية، فأسقطوا طائرتين منها.
الطيار الأسير
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر، نفذ سيف الإسلام طلعة ناجحة في جبل الشيخ، وعند عودته وجد خلف الجبل مجموعة من البدو ظن أنهم سوريين، لكنهم أصابوه بصاروخ، فقفز من الطائرة، لكنه أُسر ونُقل للعلاج في مستشفى إسرائيلي.
النيران الصديقة من الأشياء المجهولة عن حرب الطيران في أكتوبر، حيث استهدفت القوات البرية طائرات عدة دون أن تدرك أنها مصرية، لنقص التنسيق وقرار الطيارين تغيير المسار المعتمد، أما أبرز ما تحفظه الذاكرة فتفجير طيارين أنفسهم بعد نفاذ الوقود وإسقاط العدو لطائرات هليكوبتر بالجملة
"لم أكن أعلم الليل من النهار"، هكذا وصف سيف الإسلام ظروف أسره في غرفة لا تنطفئ أنوارها وستارة سوداء على الشباك، راوياً تفاصيل استقدام محققين يهود من الإسكندرية، وكانت التحقيقات وصلة سباب متبادل بين الطرفين، حتى أنه قال لأحدهم: "لو رجل لا تفعل هذا وأنا في سرير المرض"، كما فتحوا الزيارة للجنود الإسرائيليين ليشاهدوه.
من أكبر المفاجآت، بالنسبة لسيف الإسلام، كانت عندما جاءوا بدافيد منشا أوزا وهو كان طبيب أسرة سيف الإسلام عندما كان صغيراً في الإسكندرية، كما كانت عندما أطلعه طبيب يسمى رايك على أخبار الجبهة، قبل أن يعود للقاهرة في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1973.
شهيد لم يعترف به مبارك
يروي اللواء محمد صالح مكرم، قصة صديقه وجاره الطيار هاني عيسى الذي اشتبك بمعركة جوية ضد طائرات "فانتوم"، أصيبت طائرته فقفز منها وسقط في بلدة شبرا النملة، وأمسك به الفلاحون وظنوه إسرائيلي بسبب لون بشرته، وعندما تحدث بالعربية طالبوه بقراءة سورة البقرة قبل أن يربطوه بعامود خشبي وينهالوا عليه بالضرب، إلى أن أنقذه أحد الضباط الذي كان يبحث عنه.
يقول مكرم لرصيف22 إن عيسى نقل للمستشفى ووضع بجبس كامل، حتى أخبره صديق طيار أن سربه استشهد ولم يتبقَّ غيرهما وطالبه بالقيام معه بطلعة جوية لتدمير موقع، فمضى إقراراً على نفسه، واستقل الطائرة. في طريق العودة، اشتبك مع طائرات إسرائيلية وكان الوقود ينفذ منه، بينما منعته حالته الصحية من القفز، فقرر تفجير طائرته في الموقع الإسرائيلي.
رفض قائد القوات الجوية حسني مبارك آنذاك الاعتراف به كشهيد، بسبب قيادته الطائرة وهو مصاب، ليكون رادعاً لغيره كي لا يتكرّر الأمر، لكنه اضطر للاعتراف بع بعد 10 سنوات، نتيجة حملة ضغط من الطيارين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...