"Stop No Passing" (قفوا، ممنوع المرور). حاولت أوقفهم ما وقفوش خالص، وعدوا الكشك وكانوا حزمة واحدة، والكلام ده كان الساعة الخامسة تقريباً والشمس غابت، لأن الشمس بتغيب في المنطقة دي، علشان الجبال مرتفعة، من خمسة إلا ربع... وأنا كنت موجه السلاح في العالي وهم مش سائلين فيا وطالعين على يمين التبة... وأنا رجل واقف في خدمتي وأؤدي واجبي، وفيه أجهزة ومعدات ما يصحش أي حد يشوفها، والجبل من أصله ممنوع أي حد يطلع عليه سواء مصري أو أجنبي، وأنا إيدي كانت محملة على التتك (أي في وضعية إطلاق النار)، وأنا دايماً معمر (ملقّم) سلاحي طول ما أنا في النقطة، والحكاية دي معروفة عني، إن دايماً فيه طلقة جاهزة في الماسورة، علشان المنطقة دي دايماً فيها وحوش (ذئاب وضباع)، وبنسمع عن البدو إنهم ممكن يعملوا أي حاجة، فأنا بابقى عامل حسابي ومحرص (محتاط). فإيدي لما جت على التتك طلع عدد من الطلقات ما أعرفوش، ولقيت ناس بتجري، منهم واحد وقع، جريوا أمام الطلقات وأنا ساعتها ما درتش بنفسي (لم أدرِ بنفسي) وما عرفتش باعمل إيه، ضربت النار تاني، وقفت عامل زي المجنون، وبقيت مرة أضحك ومرة أعيط".
هكذا حكى سليمان خاطر بالعامية المصرية، لمحقق النيابة العسكرية، ما فعله يوم 5 أكتوبر عام 1985، والذي نتج عنه مقتل 7 مدنيين إسرائيليين، بينما فر آخرون هرباً من رصاص الجندي المصري، الذي كان يحرس نقطة حدودية مصرية في جنوب سيناء قرب إسرائيل، وفقاً لنص التحقيقات الذي أفصحت عنه النيابة العسكرية إلى الصحف حينها. الضحايا، بحسب رواية شهود العيان في التحقيقات، هم رجل ممتلئ يرتدي جلباباً من النوع الذي يرتديه السياح عادة، وامرأة ترتدي مايوه قطعة واحدة، وأخرى ترتدي مايوه "بكيني"، وعدد من الفتيان والفتيات كانوا يسيرون في مجموعة واحدة. النقطة الحدودية التي كان يحرسها سليمان في منطقة تسمى "رأس برقة"، تقع بين طابا ونويبع، ولا توجد فيها حياة سوى لعدد قليل من بدو سيناء الرحل. وليست لها أي سمعة أو شهرة سياحية. رأس برقة منطقة صخرية شديدة الوعورة، صخورها من أصل ناري، تمثل جذور جبال قديمة، أتت عليها عوامل التعرية منذ بدء الزمن الأول. وصخورها يراوح لونها بين الأسود والبني الغامق، وتراكمت صلابتها حتى أصبحت تنافس في حدتها نصل الخناجر والسكاكين. كما ذكر عادل حمودة في كتابه "سليمان خاطر: السلام، الموساد، الموت".
ويكمل حمودة: بسبب ندرة المياه، ولهيب الشمس، وصعوبة الحياة، وحصار الصخور والرمال، لا يعيش في هذه المنطقة سوى عدد قليل من البدو، من قبائل تسمى "الجرارشة" و"الصوالحة". وقد تناقص هذا العدد بدخول المدنية ونشاط السياحة في المناطق القريبة منها، والذين بقوا منهم، عاشوا على تقديم بعض الخدمات لقوات الجيش المصري التي كانت تتمركز هناك قبل يونيو 1967. وهم الآن يقدمون الخدمات نفسها لقوات الأمن المركزي، بعد انسحاب إسرائيل منها، وتوقيع معاهدة "كامب ديفيد"، واعتبار كل جنوب سيناء منطقة منزوعة السلاح، لا يوجد فيها من الجانب المصري سوى جنود الشرطة المدنية فقط. أما جنود الجيش، فممنوع عليهم التمركز هناك، كما يمنع استخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وليس في أيدي جنود الأمن المركزي سوى الأسلحة الخفيفة المناسبة للدفاع الشخصي. أما السيطرة الفعلية، فهي في عهدة القوات المتعددة الجنسية التي لها كل الحق في مراقبة أي اختراق لمعاهدة "الصلح" بين النظام المصري وإسرائيل. أغشي على سليمان، وبعدما أفاق حاول الانتحار، لكن تدينه منعه. يقول زميله الجندي علي إبراهيم في التحقيقات: "حط ماسورة البندقية على صدره وأنا قلت له: مانتش هتموت نفسك يا سليمان، لو هتموت نفسك يبقى حرام، فرجع في قراره".
نشأ سليمان في جو ريفي متدين. ولد عام 1961 في قرية إكياد البحرية التابعة لمدينة فاقوس في محافظة الشرقية، وبعد حصوله على الثانوية العامة، التحق بالجيش المصري مجنداً، ودرس في كلية الحقوق أثناء تجنيده.
سأل المحقق سليمان: "بماذا تعلل إطلاقك النار على نساء وأطفال عزل؟".
ج: "دي منطقة ممنوعة، وممنوع أي حد يتواجد فيها وده أمر، وإلا يبقى خلاص نسيب الحدود فاضية وكل اللي تورينا جسمها نعديها".
س: "أما كان يجب أن تضع في التقدير أن معظمهم من النساء والأطفال؟ وأن أحداً منهم لم يصدر عنه ما يمكن أن يكون عامل استفزاز لك؟".
ج: "مسؤوليتي حراسة الموقع، وأنا ما قتلتش أطفال لأني ما شفتش أطفال، لأن الشمس كانت غابت، وأصغرهم كان يقاربني في الطول". أثناء وجوده في السجن، زاره فريق أطباء نفسيين، وكتبوا تقريراً قدموه للمحققين معه، جاء فيه أن سليمان عندما رأى الأشخاص يتقدمون نحوه أحس بالخوف الشديد يتملكه، وحذرهم باللغة الإنجليزية لكنهم لم يبتعدوا ما أصابه بالرعب منهم، فتظاهر بإطلاق الرصاص عليهم ليخافوا منه، لكنه كان هو الخائف والمرتعد وهو يمسك بسلاحه ويتخشب عليه، حتى انطلقت طلقة، يذكر أنه فوجئ بها. فوجد شخصاً يقع على الأرض والدماء تنزف منه. وحين رأى الدم يسيل من الشخص القتيل، لم يدرِ ماذا حدث بعد ذلك، حتى وجد نفسه بعد فترة قصيرة راقداً في مكان آخر على الجبل. وأكد سليمان أنه لم يكن يعلم أن من اقتحموا نقطة حراسته إسرائيليون، لكنه اعتبرهم معتدين، خصوصاً أنه وزملاءه لم يكن معهم سوى أسلحة بسيطة. ويوجد في النقطة جهاز إشارة مشفّر "جهاز اتصال"، والحصول عليه أو أي معلومات تخصه يمس الأمن القومي المصري.
الانفجار الشعبي
انتهت التحقيقات مع سليمان، وحُكم عليه بالسجن المؤبد 25 عاماً. إلى هنا، كانت قضيته مهمة، لكنها لم تؤدِ إلى أي حراك شعبي، ولم تكن مسيسة بدرجة كبيرة. وقد تحول إلى حديث الساعة في مصر، حين أعلنت وسائل الإعلام خبر انتحاره في ظروف غامضة. وهنا كان الانفجار الشعبي والسياسي.ثارت قوى المعارضة المصرية، خصوصاً الناصرية واليسارية، واتهموا الحكومة المصرية بقتله داخل السجن. ونظموا تظاهرات في مناطق عدة. واندلعت التظاهرات الطلابية الحاشدة في جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر والمنصورة. وفي بعض المدارس الثانوية، خرج الطلاب مرددين: "الشعب هياخد التار... الصهيوني ده غدار، سليمان قالها في سينا... قال مطالبنا وقال أمانينا، سليمان خاطر قالها قوية، الرصاص حل القضية، سليمان خاطر مات مقتول، مات علشان مقدرش يخون".
نشرت صحافة المعارضة حينها عبارات لسليمان خاطر أثناء محاكمته، دعمت صورته كبطل قومي عند الجماهير، منها: "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه، إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثاراً سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم".
وعندما صدر الحكم بحبسه 25 عاماً من الأشغال الشاقة المؤبدة قال: "هذا الحكم، هو حكم ضد مصر، لأن جندياً مصرياً أدى واجبه"، ثم التفت إلى الجنود الذين يحرسونه قائلاً: "روحوا احرسوا سيناء... سليمان مش عايز حراسة".
أمين التثقيف الأسبق بالحزب الناصري، فاروق عشري، يرى أن سليمان بطل قومي بالفعل، وبصرف النظر عن كونه قتل الإسرائيليين بقصد أو بدونه، فإنه أدى واجبه كجندي لا يقبل أن يقتحم أي معتدٍ أرضه. ولفت إلى أن هناك شهادات صدرت من داخل نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك تؤكد أنه قتل. كان الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير المعلومات للرئيس الأسبق حسني مبارك، صرح أنه هو من نقل خبر وفاة سليمان خاطر إلى مبارك. وأوضح أن مبارك استاء من سماع الخبر، وبدا أنه فوجئ به. وتوقع الفقي أن يكون جهاز المخابرات العامة هو الذي قتل خاطر داخل مستشفى السجن، حيث كان يرقد، قائلاً: "ربما تكون المخابرات المصرية هي من قتلت خاطر، إذ تحدث العديد من المواقف والجرائم من دون علم الرئيس، الاستخبارات في مصر لا تستأذن، بل تتصرف كأنها تحل مشكلة ما ويمضي الموضوع على هذا النحو".
حمدي كسكين، زميل وصديق خاطر، ظهر في قناة العربية بعد ثورة 25 يناير، وأدلى بتصريحات مفادها أنه يمتلك مستندات أرسلها له خاطر وهو في السجن مع أحد حراسه، تؤكد أن إسرائيل انتهكت الحدود المصرية يوم 5 أكتوبر 1985، ما أدى إلى قتل سليمان لـ7 أفراد منهم، بعدما أهانوا العلم المصري. وأشار إلى أن القتلى لم يكن بينهم أطفال، كما جاء في التحقيقات التي أذاعتها النيابة العسكرية المصرية. وأكد كسكين أن ما لديه لو نُشر في عهد مبارك لاعتبر أسراراً عسكرية، ولأحيل إلى المحاكمة لو أباح بها".
وفي حوار مع مجلة المصور، نشر في 18 يناير عام 1986، قال حسني مبارك: "كنت أتمنى حكم البراءة لسليمان خاطر، كما كان يتمناها الآخرون، ولكن الذي حدث أن سليمان خاطر قتل أطفالاً ونساء، والمحكمة دانت الحادث وأصدرت الحكم، ولم نتدخل من قريب أو بعيد، ولم تكن هناك ضغوط من أي جهة، ونحن لا نقبل ضغوطاً من أي جهة. نرفض الضغوط أياً كان مصدرها، وعندما جرت محاكمته وكان لا بد من محاكمته، لأن الحادث وقع على الأرض المصرية، ولأن هناك ضحايا، ولأن سيادة الدولة تعني سيادة قانونها، ولأن عدم محاكمته تعني أن ندخل في عمليات انتقامية، وأن نقدم المبرر لكي يفعل الشيء نفسه جندي إسرائيلي في موقعه على الجانب الآخر من الحدود. وعندما جرت محاكمته سارعوا إلى التشهير الكاذب، (المعارضة المصرية)، بأن هناك ضغطاً على مصر، وأن إسرائيل ربطت بين قضية طابا وضرورة محاكمة سليمان خاطر". من جانبه، يرى الروائي مصطفى عبيد أن سليمان خاطر ليس بطلاً وليس شهيداً. مشيراً إلى أنه قتل غدراً أطفالاً ونساء أبرياء لا يحملون السلاح، دخلوا مصر سائحين وأخذوا الأمان، ولكن هناك من يستهون تضخيم الأمور والمتاجرة بالقضايا لمصلحة أهداف سياسية تخصه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...