يقول سارتر: "لكي تصنع من حدث تافه مغامرة كبيرة، حوّله إلى سرد". تحكمنا سرديات مقدسة، من الأسطورة إلى الدين ومن الحب إلى السياسة، ولا نستطيع مقاربتها من دون الوقوع في شرك التقديس. يؤكّد رينيه جيرار في كتابه "الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية" بأن النقد الذي وجهه سرفانتس إلى سرديات الفروسية جاء بنتيجة معاكسة، وذلك بأن انتشرت عدوى الفرسان بين قرّاء دون كيشوت، حتى أن كتّاباً آخرين ذهبوا إلى نسج سرديات فروسية كما فعل سرفانتس. إن السرد الذي تحدث عنه سارتر لا يستثني حدثاً، وبالتالي يصبح السؤال مشروعاً عن قدسية المقدس/الحدث، هل سيظل متعاليّاً أم أن قداسته الحقيقية تكمن في محايثته للآن وتأقلمه معه، بحيث يصبح حيّاً وليس جثة نذبح لها الأحياء كقرابين؟
في رواية أيمن مارديني الجديدة "خيوط الانطفاء" الصادرة عن دار الريس لعام 2020، يحاول مارديني أرْضَنة المقدّس/الحدث التأسيسي لأي شخصية، بأن يجعل منه تاريخ أسرة عادية، أسرته، مقدساً، كي ينقض تاريخها وضمناً المقدّس.
يسرد أيمن مارديني حكاية أسرة أيمن الساحر. الأسرة مصابة بعدوى المقدّس، بحيث لُعنت/ وهِبت محاكاة لسرديات المقدس عبر التاريخ، أكان ذلك في ولاداتها، حيواتها أم ميتاتها. ولأن أيمن وريث لهذه العائلة، ومن ثمّ هو الراوي العليم، المتكلّم مع جوقة من الرواة المتكلّمين الآخرين في الرواية، إلا أنه وقع عليه حمل تفكيك هذا المقدس، فهل نجح أيمن الوارث، الروائي، وصوت المتكلّم/ العاشق؟ أم أنه وقع في الحالة التي حاولت فيها الصوفية تفكيك الشريعة بالحقيقة، فجعلت من الحقيقة شريعة أخرى، تحتاج إلى حقيقة أخرى لتفكيكها؟ فكل مقاربة للمقدس تخلق مقدساً آخر، وكأن الأمر دائرة تشبه ناعورة السامسارا/ التقمّص في الديانة البوذية: ولادة، فموت، ولادة فموت، ولا فكاك إلا بالوصول إلى حالة تشبه الانطفاء كما شرح بوذا.
نحن نرث جينات المقدس ولا نستطيع هروباً، أكنّا مؤمنين أم كافرين
تعرض الرواية حكاية كتاب النائمين، شجرة عائلة أيمن الساحر. وكتاب النائمين هذا هو سجل لسلسلة من الرجال والنساء، هم أصل عائلة أيمن وكل عائلة بشرية، وذلك بسبب أننا جميعاً محكومون بهذه المعتقدات التي أتتنا عبر أصلاب وأرحام رجالات ونساء كتاب النائمين الأصليين الذين نتشبّه بهم، من آدم وحواء مروراً بإبراهيم والذبيح وموسى ويوسف وعيسى ومريم ومحمد، وما تفرّع عنهم من ديانات وطوائف، متآلفة حتى الموت فداء، ومتنافرة حتى القتل العمد. نحن نرث جينات المقدس ولا نستطيع هروباً، أكنّا مؤمنين أم كافرين.
صحيفة النائمين والقراءات السبع
يتناوب على السرد سبعة أو أكثر من الساردين، أو لنقل بلغة المقدس "القراءات السبع وما زاد عليها لكتاب النائمين"، من أيمن وحبيبته نانو، وأبو أيمن والخال وزوجته وابنهما سامي، والجدّ ورقة وزوجته. ومن هؤلاء يتفرّع ساردون آخرون، والكلّ يثبت وجود كتاب النائمين وينفيه، فيما أيمن بينهم يلجأ إلى نفي النفي كإثبات. يستنطق سيرته الشخصية وسيرة عائلته التي نبتت في منشية القاهرة، لكنّها تنحدر من مكّة والقدس، وتيه موسى وهجرة إبراهيم من بلاد الرافدين وأهرام الجيزة. هذا الاستنطاق الذي ينطلق من علاقة حب مجنونة بين أيمن ونانو الشبيهة بعشتار التي لا تتورّع عن التضحية بعشيقها تموز وتغضب من تقريع جلجامش لها. وأيمن تارة يكون تموز وتارة أخرى يتلبّس شخصية جلجامش، ليس فقط لردّ الصاع صاعين لحبيبة القلب، بل ليكشف الحجاب عن كتاب النائمين ويحوّله إلى كتاب اليقظة. هذا ما أظهره أيمن، فهل كان صادقاً؟ وخاصة أنّ سامي الساحر، سليل عائلة النائمين، الوعد المنتظر، آخر الأنبياء، الملاك، الحبّ المشتهى، المغيّب، السامي، الذي رغبته نانو لكنّها فقدته، لأنّه دخل كغيره من السلالة في طيات صفحات كتاب النائمين. هذا الـــ "سامي" كان المنافس الذي أحبّه أيمن كنفسه، وفي الوقت نفسه كان من فاز بقلب نانو.
ولنا أن نسأل على هامش سرد الرواية: هل ما دفع آدم لأكل التفاحة بعدما وعدتهما الأفعى أن يصبحا عارفين كالله، كان غيرة آدم من الله الذي اصطفته حواء في نفسها بإضمار لم تبح به لآدم، لكن أشارت له بالفارق الجوهري بينه وبين الخالق؟ ولنا أن نقول بدلاً من عقدة أوديب، عقدة سامي التي دفعت أيمن لانتهاك محرمات كتاب النائمين ومحاكاته في سرده، عبر استجلاب النصوص المقدسة إلى بنية السرد وإدخالها في معمار الرواية، كي ينزع عنها حاكمية التفسير ويولجها في ديمقراطية التأويل، لتفكيك البنية التي دفعت نانو لأن تختار سامي؟ إن الحب الذي تكنّه نانو لسامي، حبّ من زمن الطفولة، من زمن النقاء، حبّ يشبه المقدس، حبّ لم يستطع أيمن أن يحوزه، على الرغم من أن سامي كان يكرّر بأنه بشر لا أكثر، بشر أعطته الطبيعة بالخطأ جناحين يطير بهما حيثما يشاء، أو هكذا تخيّلت عائلة كتاب النائمين، ولم يشذّ عنهم حتى أيمن الذي كان سامي خصمه وحبيبه في الوقت نفسه.
يتناوب على السرد في رواية أيمن مارديني الجديدة "خيوط الانطفاء" سبعة أو أكثر من الساردين، أو لنقل بلغة المقدس "القراءات السبع وما زاد عليها لكتاب النائمين"
النائم هو الميت، والميت هو النائم. أليس الناس نياماً إن ماتوا استيقظوا، كما يقول الحديث. الموت هو الحدّ الفارق بين الإنساني والإلهي، وكتاب النائمين هو كتاب الموتى من عائلة الساحر الذين عادوا إلى ربهم وإلى يقظتهم، وتركوا أيمن في النوم/ الحياة الدنيا، يحاول أن يصحّح مقولة سيوران "بأن آدم لو كان سعيداً في الجنة لوفّر علينا التاريخ"، ونعيد صياغتها وفق سردية الرواية: لو أن حواء/ نانو، قد أحبت آدم/ أيمن، لكانت وفّرت علينا كلّ هذا العناء/ المقدّس/ حبّ نانو لسامي.
لا مناص من التناص
نظّرت جوليا كريستيفا للتناص، بأنه موجود منذ كان الكلام والكتابة. والتناص هو تفاعل النصوص مع بعضها البعض، والتأثيرات التي تنتج عن هذا التفاعل في إنتاج الدلالات. وبذات المعنى تكلم رولان بارت عن الكتابة بإنها كتابة على كتابة، فهل لنا أن نتكلم بعد ذلك عن نص غير ملوّث بنصوص سابقة؟ لم يذهب مارديني إلى تنظيف نصه، بل كانت رغبته ملحّة بتهجين سرده الروائي بالمقدس، وكأنه يضرب الماء بالماء حتى يعكّر صفوه، ويخلو له الجو بأن يخرج من التفسير إلى التأويل معلياً من حق الإنسان بأن يكون سيد النص، أسواء كان المتعالي/ الإله هو المنتِج للنصّ أم الإنسان المخلوق.
ومن هذه التناصّات التي أوردها مارديني في روايته كي يحقق مأربه في أرضنة المقدس، "يهجر" أبو أيمن وهو على فراش الموت كما حدث مع الرسول، ويفوّت على عائلة الساحر وصية لن يضلوا بعدها، أو أن يضرب سامي الساحر بجناحه البحر، فيشقه طودين عظيمين، كما فعل النبي موسى. سامي الذي ولد بجناحين وحملته أمه بعد أن أشرق نوره في صلب أبيه، ومن ثم تنتبذ مكاناً شرقياً، كما فعلت مريم والذي شقّ صدره نسران لينظفا قلبه من علقة سوداء، وورقة الذي يذكرنا بورقة بن نوفل الذي علّم خديجة، زوجة الرسول، كيف تعرف جنس الكائن الذي يراه زوجها، أهو ملاك أم شيطان. تمتلئ سردية الرواية بالتناص مع الكثير من التراث الديني في الديانات الثلاثة التوحيدية، وبالكثير من الجمل والعبارات الحاسمة في عقائدها، إلا أن استخدامها في الرواية يختلف، لأن له وجهين: الاثبات لها من جهة والنفي من جهة ثانية، وبهذه الطريقة جعل مارديني للمقدس معطى أرضياً.
هذا التوظيف للنصوص الدينية في بنية الرواية السردية، كان الهدف منه أن يقبّل أيمن النائمين في عائلته قبلة الأمير في قصة بياض الثلج أو قبلة يهوذا، ولهم ولقارئ الرواية الحقّ أن يختار بين القبلتين، كأن يخلع راويه، كما فعل أبو موسى الأشعري، أو أن يثبت راويه، كما فعل عمرو ابن العاص.
إن التناص مع السرد المقدس يعني حكماً السماح للورّاق، الكاتب، القارئ، المؤمن، الكافر، أن ينتج نصاً موازياً للسرد المقدس، لكن هذا التوازي لا يجبّ النص المقدس، بل يجعله بشرياً محكوماً بالزمن والمكان، بحيث تنتقل القدسية من النص إلى الإنسان، وساعتها ليس من ضير أن يضحّى بالنص من أجل الإنسان، وأن تخلص نانو/ الحياة بأكملها لأيمن، غير ملوّثة بسامي السماوي.
خيوط الانطفاء
خرج المقدس من عباءة الموت، وخرج الفن من القبر، كما يقول ريجيس دوبريه في كتابه "حياة وموت الصورة". ولهذا ذهب جلجامش بحثاً عن نبتة الخلود، كي يضع المقدس عند حده لأنه اختطف منه حبيبه وصنوه إنكيدو، لكنه فشل، لذلك لم يبق لنا غير الفن بأنواعه كخلود متخيّل وتحليل نفسي لعقد الطفولة/ الجنة.
وعندما نتمعّن في النص السردي الذي كتبه مارديني، سنجده مفعماً بالمهارات اللغوية، وخاصة شعرنة السرد، وكأنه ينسج على منوال النص المقدس الذي يريد هدمه، وإذ به يحاكيه، لكنها ليست محاكاة سلبية، بل إيجابية. لذلك ينام سامي فوق شجرة التفاح، فوق الخطيئة التي سببت الموت والهبوط إلى الدنيا، فلن يستطيع أيمن في الرواية تخليص سامي الساحر من قداسته إلا بمحاكاته بنص مقدس هو الآخر، لذلك أصبح أيمن طياراً: أليس العلم توأم المقدس؟ فكما طار سامي حلّق أيمن بطائرته.
عندما تنطفئ الشمعة نعتقد أن الظلام عاد إلى سطوته، إلا أن من كان يستضيء بالشمعة يظل قادراً على إيجاد موطئ قدم من دون أن يتعثر حتى يجد مصدراً آخر للنور، لذلك قال أفلاطون إن الخارج من الكهف يستطيع النظر إلى الشمس عن طريق انعكاسها على سطح الماء، ومن الماء خلق كل شيء حيّ، أي أن ينظر في ذاته ليرى ذاته. إن قداسة المقدس تكمن في قدرته على أن يكون حيّاً في الزمان والمكان، وليس في مقبرة النائمين/ الموتى، وهذا ما فعله أيمن في الرواية، فلكي يفكّك مقدّسه/ عقدته لجأ إلى سردنتها، إلى إطفاء نار كتاب النائمين بأن أخرجه من الاستسرار إلى ضوء النهار، بتحويل كل عائلته، والأهم سامي ونانو، إلى نص يملك كل قارئ حق تأويله وتفسيره، من دون رقابة عليا تفرض وجهة نظر معينة وما عداها كفر.
يكمن دور المقدس في أن يصل بين طرفين متعارضين: الحياة والموت، الحبّ والفراق، لكيلا يقع الإنسان في القنوط، ولكن أن نعطي مال الحياة للحياة ونمنح الموت للمقدس، ليس كفراً، بل احتفاء بالحياة التي وهبنا إياها المقدس بعدما كنا في العدم.
خيوط الانطفاء رواية للتأمّل، وكيف تريد أن تعيش حياتك، فالأجوبة كثيرة، لكن الأهم أن تعرف كيف تسأل سؤال الحياة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...