عام 1987، كشف الصحافي اللبناني حسن صبرا، في مجلته "الشراع"، عن صفقة سرية أمريكية-إيرانية لبيع الأسلحة لإيران مقابل الإفراج عن بعض الرهائن الأمريكيين في لبنان، وتم لاحقاً استخدام الأموال الإيرانية لتمويل ميليشيات "الكونترا" المناهضة لحكم الساندنيين في نيكاراغوا، في ما عُرف باسم "قضية إيران كونترا".
حينذاك، سرّبت المخابرات السورية المعلومات لصبرا كرسالة احتجاج على تفاوض إيران مع أمريكا دون علم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد. وأسفر ذلك عن تداعيات محلية كان أبرزها محاولة اغتيال صبرا، ومعارك شرسة بين حركة أمل الحليفة لسوريا وحزب الله الحليف لإيران، تلاها صلح بين الطرفين.
بيد أن كرة الثلج كانت في أمريكا. خرج الرئيس الأمريكي حينذاك رونالد ريغان في البداية وأنكر الصفقة لكنه سرعان ما أقر بحدوثها. حاولت الإدارة الأمريكية تحميل العقيد أوليفر نورث مسؤولية ما جرى، وحوكم الرجل، وشاهد سكان لبنان والساحل السوري المحاكمة على الهواء بعد أن قامت المؤسسة اللبنانية للإرسال بنقل وقائعها مباشرة.
وفي محاولة لاستجلاب التعاطف، تحدّث نورث عن تهديد "أبو نضال" (مؤسس مجلس فتح الثوري صبري البنّا) له ولعائلته بالقتل، لكن ذلك لم يشفع للجمهوريين. كان رأس جورج بوش الأب، نائب ريغان، هو المطلوب. عندها قرر كلّ من قائد الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ روبرت دول والواعظ التلفزيوني بات روبرتسون منافسة بوش على ورقة ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة، لكن بوش تمكن في النهاية من انتزاع الورقة لمواجهة المرشح الديمقراطي.
كانت هنالك مجموعة من المتنافسين الديمقراطيين أبرزهم مايكل دوكاكيس والقس جيسي جاكسون والسيناتور الشاب جو بايدن. كان جاكسون قد ترشح سابقاً، دون نجاح، لنيل البطاقة الديمقراطية عام 1984، ورغم إعجاب الأمريكيين بدوره في تحرير الطيار الأمريكي الأسير في دمشق روبرت غودمان، بعد لقائه حافظ الأسد في دمشق وعودته مع الأسير على متن نفس الطائرة، إلا أن ذلك لم يجعله المرشح الأبرز الذي كان مايكل دوكاكيس دون منازع.
شريط وصفته الصحافة بأنه الشريط الوحيد الأسوأ من شريط فضيحة جنسية... اكتشاف أن خطاب جو بايدن خلال تنافسه لنيل ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة عام 1988 كان مسروقاً من خطاب نيل كينوك، الرئيس السابق لحزب العمال البريطاني
كان منافس دوكاكيس المباشر سيناتور ديلاوير الشاب جو بايدن. أثار الشاب الإعجاب بخطابه الحماسي عن أنه أول فرد في عائلته يرتاد الجامعة، ورغم أنه كان واعداً بالنسبة للأمريكيين الذين تستهويهم قصص النجاح الفردية إلا أنّ دوكاكيس لعب أيضاً على نفس الوتر، فهو ابن لمهاجرين يونانيين من الجيل الأول، وله تاريخ جيّد كحاكم ماساتشوستس، إذ نجح في تحويلها من ولاية ضعيفة إلى واحدة من أهم اقتصادات الولايات الأمريكية.
جو بايدن
ومع جاذبية دوكاكيس وعصاميته والأجواء الاحتفالية المرافقة لحملته، كتقديم الطعام اليوناني على وقع الأغاني والرقصات اليونانية، بدت بطبيعة الحال حظوظه عالية بالفوز إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان: وصل شريط إلى مدير حملته، جون ساسو، يظهر أن خطاب بايدن الحماسي كان مسروقاً بكليته من خطاب نيل كينوك، الرئيس السابق لحزب العمال البريطاني، بما فيه السرد الخاص بالنشأة والعائلة، مثل كلامه عن أسلافه الذين يعملون 8 ساعات تحت الأرض ثم يصعدون للعب كرة القدم.
سرّب ساسو الشريط الذي وصفته الصحافة بأنه الشريط الوحيد الأسوأ من شريط فضيحة جنسية. اعتذر بايدن وأعلن انسحابه من السباق، وخلت الساحة لدوكاكيس كمرشح ديمقراطي مقابل المرشح الجمهوري بوش.
هل كنّا سنصل إلى يوم الاجتياح العراقي للكويت وعلى رأس هرم القرار الأمريكي رئيس ديمقراطي معادٍ لشركات الأسلحة ورافض للحروب ومؤيد للدبلوماسية لولا خطأ جو بايدن عام 1988؟
وفي الوقت الذي كانت استطلاعات الرأي تشير إلى تقدّم بفارق عشر نقاط مئوية لصالح دوكاكيس، حصل ما يمكن تسميته بنقطة التحوّل، فدوكاكيس المبدئي قرر طرد ساسو مدير حملته الناجح والمحنك، بسبب تسريبه لشريط بايدن، واعتذر من الأخير علناً على فعلة ساسو، مشدداً على وحدة الحزب الديمقراطي، وعلى رفضه لأساليب كهذه، وأكد دوماً أنه سيدير حملته بأخلاقية عالية يتعيّن على كل المنخرطين فيها الالتزام بمعاييرها.
كان دوكاكيس متقدماً بعشر نقاط مئوية على بوش، 50 مقابل 40، قبل شهور فحسب من موعد الانتخابات، وكان فارقاً ضخماً. ولكن، في الوقت الذي أقصى فيه دوكاكيس العقل المدبّر لحملته، كان فريق من "الذئاب" يعمل لصالح بوش وعلى رأسهم جيمس بيكر ولي أتواتر. باشروا بالعمل على الضرب تحت الحزام. سُربت إشاعة عن إصابة دوكاكيس سابقاً بالاكتئاب وتلقيه للعلاج لدى طبيب نفسي، وأوعز إلى صحافي بسؤال الرئيس ريغان عن رأيه بالإشاعة، فعلّق بمكر بأنه لن يتكلم عن حالة شخص مريض.
خسر دوكاكيس سبع نقاط عقب هذه القصة، وفيما كانت الإعلانات السلبية التي تطلقها الدعاية الجمهورية تطارد دوكاكيس، منع الأخير سوزان إسترش، التي تولت منصب ساسو، من الردّ، مؤكداً على أخلاقية حملته.
وفيما كان بوش يستعرض تاريخه كبطل شارك في الحرب العالمية الثانية قائداً لطائرة حربية، بدا دوكاكيس وهو يقود دبابة في زيارة لمصنع أسلحة كاريكاتورياً، مثيراً بهذا المشهد الضحك والاستهزاء بدل الإعجاب والتقدير.
بدا واضحاً أن الدعاية الذكية والكاريزما كانت أهم من سجل الإنجازات والمواقف الأخلاقية والسياسات الاقتصادية. بفضلها انتصر بوش على منافسه.
تتحدث الحلقة الأولى من مسلسل نتفليكس الوثائقي "السباق الى البيت الأبيض" عن هذه الحملة وما جرى خلالها وعن خطابي بايدن وكينوك، والتي رغم واقعيتها تبدو وكأنها ملهمة لصناع مسلسل "هاوس أوف كاردس" ذائع الصيت.
تفاصيل صغيرة قد تغيّر مسار التاريخ. خسارة دوكاكيس كانت أيضاً واردة حتى لو لم يُطرد ساسون، إلا أن التفكر في سياق بديل مثير أيضاً للفضول. ماذا لو لم يقتبس بايدن الخطاب، وبقي ساسون المتنبه لمناورات فريق بوش؟ هل كنّا سنصل إلى يوم الاجتياح العراقي للكويت وعلى رأس هرم القرار الأمريكي دوكاكيس المعادي لشركات الأسلحة والرافض للحروب والمؤيد للدبلوماسية؟
وهل كان سيخوض حرب تحرير الكويت، أو ما يعرف أمريكياً بحرب عاصفة الصحراء، والتي كانت لها تداعيات كثيرة على عالمنا العربي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...