رحل عن عالمنا الممثل الأسكتلندي السير شون كونري، عن عمر يناهز التسعين عاماً. كلمات تختزل رحيل فرد عرفناه وصوته لسنوات طويلة، قبل أن يعتزل التمثيل منذ سنوات بسبب صحته. لن نذكر الأدوار التي لعبها، ولا الجوائز التي نالها ولا تقلباته المهنية، بل ما يعنينا هو شون كونري الذي يلعب دور جيمس بوند، أول ممثل شخّص رجل الاستخبارات الشهير 007، وجعله رمزاً للرجولة السامة والجذّابة والطاغية. سبعة أفلام لعب فيها كونري دور بوند بين عامي 1962 و1982، حفرته في الذاكرة بوصفه الرجل الأشد إثارة وخطورة، حلم الرجال وآسر النساء، الرجل الذي يستحيل أن نتمكن من لعب دوره بإتقان، نقتبس منه فقط دون التماهي الكلي معه.
الرجولة المفرطة: الصدر الممتلئ بالشعر
ما يميز كونري أثناء أدائه لبوند هو بنيته العضلية، في كل فيلم نراه عارياً أو نصف عار، يسلب النساء عقولهن. جسده ليس بالممتلئ ولا النحيل، يمتلك معالم الفحولة دون الإفراط في الانتفاخ، وكأنه رجل ولد هكذا، لم يبذل جهداً ليكوّن جسده، بل تركه يطفح بتستستيرونه الذي كوّنه بالشكل الأنسب، لكن أبرز ما فيه هو صدره الممتلئ بالشعر، علامة الرجولة المفرطة، العصبية والانفعالية، التي تستغني عن كل شيء في سبيل "الهدف". بصورة أدق، تحقيق المهمة بالصورة المناسبة، لا فقط لأجل الوطن، بل أيضاً لأجل الأسطورة نفسها، أسطورة بوند الذي لا يركع.
ما سرّ شعبية شون كونري الذي يلعب دور جيمس بوند، أول ممثل شخّص رجل الاستخبارات الشهير 007، وجعله رمزاً للرجولة السامة والجذّابة والطاغية؟
نظير الصدر العاري لدى بوند هو البزة الرسمية التي تعكس الإتقان والمهارة والمكانة. الأناقة هنا تعني الصرامة حتى في أكثر السياقات لعباً ولا جدية. الأهم، البزة الرسمية أسلوب تنكر بوند، فهو قادر على دخول أي مكان وهو مرتد البزة، إذ يمكن أن يتخفى بين جمع من رواد المجتمع الراقي وفي ذات الوقت ممارسة كل الحيل والمطاردات دون أن تتسخ بذلته، وهنا يأتي صوته الرخيم ذو البحة واللكنة الأسكتلندية. هذا الصوت هو مأساته، في ذات الوقت سلاحه السري، هو يأسر النساء اللاتي يميزنه ويعرفن من هو، فبوند لا يخفي هويته، يخيف أعداءه ويجتذب موضوع شهواته. هو الجاسوس الأشد شهرة، الكل يعرف اسمه ورقمه السريّ ويردده علناً، كما يفعل هو.
يسأل بوند عن هويته دوماً: "من أنت؟" سؤال وجودي يطرحه عليه الخصوم والغرباء، لكن المفارقة أنه لا يخفي من هو، كأي عميل سري يحاول أن يحافظ على سريّته، بل يردد اسمه علنة وبثقة مفرطة: "اسمي بوند، جيمس بوند"، تأكيد دائم على حضوره، الذي لابد أن يأسر الجميع ويهدد كل ما يقومون به. لاسمه أثر سحري، يزرع الرعب في قلوب الرجال ويذيب قلوب النساء اللاتي يرتمين على صدره الأشعر، بل هناك دور نمطي اسمه "فتاة بوند"، تلك التي حتى إن كانت "فام فاتال"، فلن تستطيع مقاومة سحر بوند، بل نراها تعود إلى "أنوثتها الرقيقة" في السرير معه، تداعب شعر صدره وترتبط بسذاجة بسمومه الآسرة، فهو مستعد للتضحية حتى بـ "فتياته" لأجل الملكة في بريطانيا، وهنا المفارقة الأشد تراجيدية.
رجال المخابرات أثناء الحرب الباردة
الدراسات الثقافية التي تناولت بوند وجدت فيه نموذجاً رجولياً قُدِّم لفئة محددة من القراء، إن كنا نتحدث عن الروايات التي ألفها أيان فليمنج، مبتدع شخصية بوند، أو المشاهدين إن كنا نتحدث عن الأفلام، إذ يمثل بوند رجال المخابرات ما بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة. أولئك الجواسيس اللذين يعملون ليل نهاراً بعيداً عن منازلهم، للوقوف بوجه السوفييت، أو كما في السياقات المتخيّلة، محاربة الخطر الذي يمثله الآخر، صاحب التكنولوجيا الذي هدفه السيطرة على العالم. بالرغم من أن بوند بريطاني، إلا أن مهماته ذات نطاق جغرافي واسع، إذ يتحرك في كافة أنحاء العالم للقضاء على "أعدائه" أو "غرمائه" الذين يعيشون في أماكن معزولة أو جزر خفية يسيطرون عليها. فالعدو، وهنا المفارقة، يشبه بوند، دوماً معزول، يعرفه الجميع لكنه لا يعيش بينهم، هويته مجهولة ومستعد لأن يضرب من بعيد، فلا عدو داخلي، فقط ذلك الموجود خارجاً. من هذه القراءة يمكن أن نفهم دور "نساء بوند". هن يخفين عن أزواجهن عملاء CIA وFBI، يتركن كل شيء لأجله ويرتمين في السرير كمكافأة للعملاء السريين الذين ينقذون العالم كلّ يوم، ولابد من تفهّم مخاطر مهنتهم، والأهم مزاجيتهم.
يسأل بوند عن هويته دوماً: "من أنت؟" سؤال وجودي يطرحه عليه الخصوم والغرباء، لكن المفارقة أنه لا يخفي من هو، كأي عميل سري يحاول أن يحافظ على سريّته، بل يردد اسمه علنة وبثقة مفرطة: "اسمي بوند، جيمس بوند"
قدرات بوند السحرية
نشاهد بوند في كل مهمة يدخل إلى مقر المخابرات السرية البريطانية MI6، هناك ينتقي من الأسلحة والأدوات المتطورة تكنولوجياً ما يساعده في مهماته: قلم متفجر، هاتف نقّال يحوي جي بي إس، سيارة تطلق الصواريخ وتطفو على المياه، كل هذه الأدوات يمكن لأي شخص أن يستخدمها، و هذا ما نلاحظه في المختبر نفسه، هو يستخدم أغراض ما زال بعضها قيد التطوير، ويترك له تدبر أمره بعدها، لكن حين تخذله كل هذه المعدات، تظهر قدرات بوند السحرية التي تجعله مختلفاً عن كل الرجال، ولا نتحدث هنا عن صوته الرخيم وشعره المُصفف، ولا حتى عن شعر صدره، فلجيمس بوند جسد غير إنساني، فهو لا يسكر، يشرب الويسكي طوال الوقت دون أن يبدو أُثرها عليه. بوند غير مصاب بأي مرض جنسي، بالرغم من علاقاته الجنسية التي لا تحصى. بوند لا يحتاج للنوم، فهو قادر على البقاء مستيقظاً لأيام. ومهما أطلق عليه "الأشرار" النار، فلا يصيبونه، هو إما يتفادى الرصاص، أو إن أصيب، تشفى جروحه بسرعة مذهلة. هذه القدرات هي ما تخفي طيشه وتسرعه، كونه خيالاً رجولياً بحتاً، عن رجل مفرط في شدّته، ينتصب دوماً، يقاتل دوماً، يفعل ما يشاء ولا يتراجع عن قراره حتى ولو كان يعني موته. هو يتحرك خارج القانون، ولا يخاف من شيء. ما يحميه، اسمه وفقط اسمه.
بوند وأزمة الأنا
ترديد بوند لاسمه، وخصوصاً بلهجة كونري، يحيلنا إلى سؤال بسيط، من يردد اسمه دوماً؟ الطفل الصغير الذي يرى في اسمه العلامة المفاهيمية الأولى التي تدل عليه خارج جسده، وهنا يمكن النظر إلى بوند بوصفه شخصاً ذا أزمة أمومية. نحن لا نعرف أي شيء عن بوند، بل حتى لا نعلم مدى تطابق هذا الاسم مع الشخص الذي نراه، إذ من الممكن استبداله، وهذا ما رأيناه لاحقاً حين لعب ممثلون آخرون دوره. ما يجعله في أعيننا كطفل متروك لوحده، ينتقم من النساء من حوله بتمثيل فانتازمهم الجنسي وانتهاكهن والتضحية بهن، انتقاماً ربما من طفولة قاسية، غاب إثرها تاريخه الشخصي وهويته، ولم يبق له إلا اسمه الذي منحته إياه المخابرات بتفويض من الملكة/الأم، التي لا يمكن له انتهاك جسدها، فهي ليست غرضاً بل بديلاً عن المنزل الذي تكاثف في اسم ورقم. وهنا يمكن أن نفهم بصورة أخرى ترديده لاسمه دوماً، وكأنما بوند محروم ممن يناديه، ويبحث دوماً عن آخر يتعرف عليه ليعرف نفسه عبره. أو ربما بوند مجرد نذل، لا حكاية مأساوية وراءه تثير التعاطف معه وتدفعنا كي نغفر له كل سقطاته، ربما هو مجرد فانتازم ذكوري يدلل مخيّلة الرجال "النعانيع" أو الغارقين في شؤونهم البيروقراطية في مكاتب المخابرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين