بالتزامن مع محاكمة خمسة أشخاص من المتهمين بالهجوم الإرهابي الذي استهدف صحيفة شارلي إيبدو، أعادت الصحيفة المذكورة نشر الرسومات الكاريكاتورية التي تصوّر النبي محمد والتي اعتُبرت الدافع الرئيسي وراء هذا الهجوم، طارحةً السؤال التالي كعنوان أساسي لعددها المذكور: "هل كلّ هذا من أجل هذا؟".
وكما هي العادة، أثار الموضوع هرجاً ومرجاً يعيدان التذكير برواية غابرييل غارسيا ماركيز "قصة موت معلن"، خاصةً بعد مقتل أستاذ التاريخ صمويل باتي على يد مراهق شيشاني، قُتل بدوره أيضاً، كان قد حصل على حق اللجوء في آذار/ مارس الماضي.
ونظراً للعناصر الدينية في مجمل السياق الآنف الذكر، كان من المنتظر أن تنبري المؤسسة الدينية الإسلامية لتقدّم موقفها ورؤيتها المتوازنة للحدث، ولكن...
الأزهر... تاريخ من الإدانات الملتبسة
في أعقاب الاعتداء على شارلي إيبدو عام 2015، بسبب نشرها رسوماً اعتُبرت "مسيئة" للرسول، أدانت مؤسسة "الأزهر" العملية الإرهابية معتبرةً أن هذا السلوك لا يتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي. وبعد الحادثة بأسبوع، سارع الأزهر إلى دعوة المسلمين إلى تجاهل الرسوم المنشورة في الصحيفة في عددها الأول بعد الاعتداء مباشرةً، وهو عدد احتوى على كاريكاتير يصوّر النبي محمد على صفحته الأولى.
وفي الوقت نفسه، اعتبر الأزهر أن هذا الفعل "خيال مريض"، مطالباً "كل عقلاء العالم وأحراره بالوقوف ضد كل ما يهدد السلام العالمي"، ومناقضاً التوجيه الذي نصح به عموم المسلمين بتجاهل هذه الرسوم.
يستطيع المراقب أن يرى أن ذات التناقض الذي وقع فيه "الأزهر" في المرة الأولى وقع فيه مرة ثانية، عند مقتل أستاذ التاريخ. فقد أدان الجريمة البشعة ولكنه في ذات الوقت وفي ذات البيان دعا إلى تبني قانون عالمي يحرّم تناول الرموز الدينية، وكأنّ هذه الجريمة هي المكافئ الموضوعي والنتيجة الطبيعية لأي تناول لرمز ديني قد لا يروق لأحدهم.
إذاً، يطلب الأزهر التجاهل، وفي ذات الوقت يطالب بتشريع عالمي يدين ويحاسب ما يجب تجاهله.
على الضفة الأخرى من المتوسط، وفي قلب فرنسا، دعا رئيس المجلس الفرنسي للثقافة الإسلامية السيد محمد موسوي المسلمين إلى "ضرورة تجاهل هذه الصور"، ولكنه دعا أيضاً عموم المواطنين من معتنقي الدين الإسلامي إلى ضرورة الانخراط الفعلي في جميع مظاهر الاحتجاج على مقتل المدرس المغدور، من أجل تأكيد انتمائهم لفرنسا ورفضهم لكافة أشكال العنف الذي يؤدي إلى الإساءة الحقيقية للمسلمين، ويمنح قوى اليمين المتطرف الأداة المناسبة والفرصة المؤاتية لإطلاق سيل من التعميمات التي تنال من إمكانية الحوار الاجتماعي الفعال والبنّاء داخل المجتمع الفرنسي.
ودعا موسوي أيضاً إلى "الأخذ بعين الاعتبار أن قوانين الدولة الفرنسية تتيح إمكانية تناول أي موضوع وبأية طريقة كانت، انسجاماً مع مبدأ الحرية"، معرباً عن اعتقاده بأن نشر الكاريكاتورات التي تصوّر النبي في كتيّب يُعرَض على طلاب المدارس "ليست الحل الجيّد لشرح حرية التعبير للأطفال"، ومؤكداً "على الثقة بحس المسؤولية لدى المؤسسة التربوية الفرنسية في آلية تناولها للموضوع أمام التلاميذ عموماً".
"السياق أثار مشاعر الكثيرين من المسلمين، فرفعوا عبارة: ‘إلا رسول الله’، لكنّ هذا الشعار يحمل في طياته تساؤلاً: هل تناول شخصية النبي محمد مسألة تستوجب القتل؟ فهذا ما توحي به أداة الاستثناء ‘إلا’"
وكانت السلطات المحلية في مناطق فرنسا الـ13 قد أعلنت عقب مقتل باتي أنها ستنشر كتاباً "يجمع الرسوم الكاريكاتيرية الدينية والسياسية الأكثر لفتاً للنظر"، وستوزّعه على تلامذة المدارس الثانوية، "التزاماً بالدفاع عن قيم الجمهورية والحق الأساسي لكل فرد من مواطنينا في العيش في سلام وحرية".
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحدث لا يتعلق بموضوع العلمانية بقدر ما يتعلق بموضوع حرية التعبير، فصحيفة شارلي إيبدو لم تتردد في تناول الرموز الدينية بشكل عام، سواءً أكانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية، مع الإشارة إلى أن خطها العام مناهض للأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية، وهو ما يؤكده البيان الذي نشرته رداً على محاولات استثمار اليمين المتطرف الفرنسي للحدث الأخير انتخابياً.
استثمار سياسي واسع النطاق
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقت سابق وفي مناسبات عدة قد تناول إشكالية الإسلام داخل المنظومة الفرنسية، وردّ العديد من المحللين الأمر إلى أهداف انتخابية صرفة، باعتباره مسعى منه لمغازلة جمهور اليمين الفرنسي المتطرف.
وبعد حادثة القتل تلك، تصاعد خطاب الرئيس الفرنسي، ليلقى استجابة شديدة السرعة وشديدة الدلالة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالتزامن مع التوتر في العلاقات بين الطرفين في الآونة الأخيرة بسبب الخلافات في شرق المتوسط.
"هنالك تساؤل أساسي يتم تجاهله وسط كل ما يحصل، ألا وهو القيمة الأساسية لحياة البشر بغض النظر عن قناعاتهم وآرائهم والطريقة التي يعبّرون بها عن هذه الآراء"
لكن الملفت للنظر هو مستوى الخطاب غير المسبوق من قبل الرئيس التركي، إذ طالب الرئيس الفرنسي "بضرورة الخضوع لفحص لقواه العقلية"، وهو الأمر الذي لم تعهده الدبلوماسية الدولية إلا في أعقاب وصول الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إلى الحكم، وهو الذي اشتهر بتغريداته المثيرة للسخرية بقدر إثارتها للجدل.
من جهة أخرى، أدلى الجانب الإيراني أيضاً بدلوه، فقد صرّح المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي بأن "مساندة الرئيس الفرنسي لنشر الصور هو عمل غبي"، رغم أنه سواء أيّد الرئيس الفرنسي نشر الصور أو لم يؤيد ذلك فالأمر سيّان، لأن القانون الفرنسي الذي يصون حرية التعبير لا يتيح للرئيس الفرنسي التدخل والتأثير في منع أو حجب أي شكل من أشكال التعبير عن الرأي. كما أن الصحف الفرنسية، ومنذ تأسيس الجمهورية الخامسة، لم تتوانَ عن تناول رؤساء الجمهورية بصيغة ساخرة وكاريكاتيرية.
السياق السابق أثار مشاعر الكثيرين من المسلمين، فرفعوا عبارة: "إلا رسول الله"، لكنّ هذا الشعار يحمل في طياته تساؤلاً: هل تناول شخصية النبي محمد مسألة تستوجب القتل؟ فهذا ما توحي به أداة الاستثناء "إلا".
هنالك تساؤل أساسي يتم تجاهله وسط كل ما يحصل، ألا وهو القيمة الأساسية لحياة البشر بغض النظر عن قناعاتهم وآرائهم والطريقة التي يعبّرون بها عن هذه الآراء، وهنالك تساؤل عن المصادر الأساسية للعنف الذي يشمل مرتكبي أعمال الذبح والقتل الأخيرة، ويشمل أيضاً اعتداءات اليمين المتطرّف على المسلمين كجريمة برنتون تارانت بحق مجموعة مصلّين في نيوزيلاندا قبل نحو عام، والتي راح ضحيتها 49 إنساناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...