حينما يسافر المهاجرون واللاجئون عبر البحار إلى المهجر يحملون معهم أعباءهم النفسية والاجتماعية. قد تتشابه أسباب الهجرة لكن حتماً تختلف نسبة العنف والمخاطر التي تتعرض لها النساء المهاجرات عن نسبتها بين الرجال المهاجرين.
وبالرغم من غياب الإحصاءات التي توضح نسبة العنف الزوجي الذي تتعرض له النساء العربيات المهاجرات واللاجئات في هولندا من إجمالي عدد المعنفات منزلياً، إلا أن الأبحاث والتقارير تشير إلى أنها ليست ضئيلة.
بين هولندا والبلدان العربية
في البلدان العربية، تضطر المرأة لتحمّل العنف المنزلي من قِبل زوجها لعدة أسباب من أهمها تبعيتها المادية له، وخصوصاً مع غياب أي تعويض مادي مناسب لها في حالة الانفصال، وطول إجراءات دعوى الطلاق أو الخلع التي تتطلب الكثير من الوقت والمجهود، عدا ارتفاع تكلفتها المادية.
لكن في هولندا، تتكفل مؤسسات الدولة بسكن ونفقة المرأة وأطفالها في حالات العنف المنزلي، إلى حين تتمكّن من تدبّر أمرها والإنفاق على نفسها وأسرتها وحدها.
من جانب آخر، تتمتّع المرأة في المجتمعات العربية بنوع من الحماية التي يوفّرها أهلها وذووها في بعض الأحيان، إذ تكون العائلة الحامي الرئيسي لها في حالات العنف المنزلي.
أما في هولندا، فيغيب الدعم الاجتماعي المتمثل في الأهل والأقارب والأصدقاء عن المرأة العربية، بسبب ابتعادها عن بيئتها الأصلية، وهذا الغياب يُعتبر من أهم أسباب حصار زوجها لها وسيطرته عليها.
ويضاف إلى العوامل التي تصعّب وضع المرأة المهاجرة، جهلها، في حالات كثيرة، بقوانين ولغة الدولة التي تعيش فيها، ما يُشعرها بأنها لا تمتلك القدرة على وقف العنف الذي تتعرّض له.
ولكن في حال تبيّن تعرّض امرأة ما للعنف المنزلي، تساعدها المؤسسات الاجتماعية الهولندية عبر الدعم النفسي الذي يؤهلها لخوض الحياة بشكلها المختلف بعد الانفصال، وعبر تقديم مجموعة من دروس تعلم اللغة والأنشطة الاجتماعية، بالإضافة إلى مساعدتها في إيجاد وظيفة مناسبة لمهاراتها، لتتمكن من ممارسة حياتها كأم عاملة. كما توفر هذه المؤسسات للمرأة الأدوية اللازمة لتخطي حالة الاكتئاب الناتجة عن ظروفها الصعبة.
"الحبس الزوجي"
بصوت هادئ، تروي السيدة هدى (50 عاماً)، وهي مصرية مقيمة في هولندا، تفاصيل قصتها مع العنف المنزلي. تقول لرصيف22 إنها طرقت كل الأبواب الودية للتخلص من عنف زوجها الذي كان يمارس عليها حصاراً اجتماعياً ويمنعها من تكوين صداقات أو العمل أو تعلم اللغة.
تحمّلت الكثير من الضغوط والتعنيف النفسي، مبررة ذلك لنفسها بأنه من أجل مصلحة أطفالها. كان زوجها يمارس عليها العنف الجسدي بمختلف أشكاله، تروي، ووصل به الأمر إلى ضرب رأسها بباب المنزل الحديدي في إحدى المرات. لم يردعه وجود طفلتهما ذات الأربع أعوام، واستمر الحال كذلك إلى أن طلبت جارتها الشرطة والإسعاف إلى موقع المبنى، بعد سماعها صراخها ومشاهدتها تحاول الهرب من منزلها.
حصلت هدى على قرار بالطلاق المدني عبر محكمة هولندية، وسعت إلى الحصول على الطلاق أمام السلطات المصرية، فبدأت رحلة جديدة مع المعاناة.
عادةً ما يُعقَد الزواج في الشرق الأوسط تحت إشراف المؤسسات الدينية، وهذا الزواج يسجَّل في دوائر النفوس كزواج مدني. لذلك عندما تنال المرأة طلاقاً من محكمة مدنية، تُصبح في معضلة يصفها المحامي المصري المقيم في هولندا، والمتخصص في قوانين الإقامة والجنسية وقوانين اللجوء وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية وقوانين العمل، عماد الشرقاوي بأنها من أصعب حالات الطلاق، ويقول إنها تُعرَف بباسم "الحبس الزوجي"، إذ لا يعترف الزوج المسلم أو المسيحي بحكم الطلاق المدني الصادر عن القضاء الهولندي.
لم يعترف الزوج بالطلاق الذي أقرّته محكمة هولندية لصالح زوجته المعنَّفة، وقتلها. وعند استجواب إمام المسجد الذي يتردد عليه الزوج، أشار إلى أن المرأة المقتولة لا تزال زوجته، لأن الطلاق لم تشرف عليه مؤسسة دينية إسلامية
ترصد دراسة هولندية صادرة عن جامعة ماستريخت بعنوان "الحبس في الزواج الديني" حادثة قتل رجل لزوجته. لم يعترف هذا الزوج بالطلاق الذي أقرته المحكمة لصالح زوجته المعنَّفة. وعند استجواب إمام المسجد الذي يتردد عليه الزوج، أشار إلى أن المرأة المقتولة لا تزال زوجته، لأن الطلاق لم تشرف عليه مؤسسة دينية إسلامية، وكان الزوج المذكور رافضاً للطلاق.
تظهر الدراسة أن للمؤسسات الدينية في هولندا دوراً في تعقيد إجراءات الطلاق على النساء، وخصوصاً بسبب أحقية الرجل في الموافقة على الطلاق أو رفضه في معظم الحالات، ما يعني أن يتعلّق مصير المرأة بمزاجه.
عادةً ما تتجنب المؤسسات الدينية في هولندا التدخل في هذا النوع من القضايا، خوفاً من اتهامها باضطهاد شخص ما، كما أن شيوخ المساجد في هولندا لا يحق لهم إصدار أحكام الطلاق الديني للمسلمين، فعادةً ما تكون السفارات هي الطرف الرسمي المسؤول عن هذه الأمور.
عندما لجأت هدى إلى السفارة المصرية، وأعربت عن رغبتها بالطلاق، لم تطلّقها السفارة بسبب رفض الزوج لتطليقها دينياً، رغم تطليقه لها شفهياً أكثر من خمس مرات بحسب لروايتها، ورغم حصولها على وثيقة طلاق مدنية من القضاء الهولندي.
وبحالة رفض الزوج، عادة ما تنصح السفارة المصرية الزوجة باللجوء إلى القضاء المصري أو الكنيسة المصرية، الأمر الذي يضع على عاتقها الكثير من الأعباء والوقت المهدور.
لا تتخذ السفارات العربية إجراءات تساهم في إزالة هذه العقبات، بل بالعكس، كثيراً ما تحاول التدخّل بعيداً عن القانون. في إحدى المرات، حاولت السفارة المغربية التواصل مع السلطات الهولندية المسؤولة عن النساء المغربيات القاطنات في مؤسسة "البيت الآمن" لحماية السيدات المعنفات منزلياً من أجل لم الشمل وتذويب الخلافات بين الأزواج، ولكن هذا الطلب قوبل بحجب السلطات الهولندية للمعلومات عن أماكن وجود النساء المعنفات وأولادهن، للمحافظة على أمنهن وسلامتهن، ولتفادي أي جرائم محتملة قد يرتكبها الأزواج في حقهنّ.
تنمر مجتمعي ضد المعنفات
تلفت سيدة سورية، أسست مجموعة خاصة على فيسبوك باسم "صبايا عربيات في هولندا"، إلى أن السيدات المعنفات يواجهن بعد لجوئهن إلى السلطات الهولندية التنمّر المجتمعي من السيدات اللواتي يحملن نفس الجنسية.
وتقول إن هؤلاء المتنمرات يصمنَ المرأة المعنّفة لأنها أعطت الحق للشرطة بالتدخل في شؤونها الخاصة ويتهمنها بهدم بيت الزوجية وبأذية الزوج المعتدي، وهذا الأمر، من وجهة نظرهن، أشد وطأة من العنف الزوجي في حد ذاته.
كثيراً ما تمتنع المرأة العربية المهاجرة إلى أوروبا عن الإبلاغ عن العنف المنزلي ضدّها لأسباب عدّة: عدم حيازتها على أوراق إقامة رسمية؛ افتقارها للاستقلالية المادية عن زوجها؛ والموروث الثقافي والاجتماعي الذي يمنعها من وضع الزوج أمام المساءلة القانونية
تعرضت هدى لمثل هذا التنمّر. تخلّى معارفها المصريون عنها ولم يقدّموا لها الدعم، مع غض الطرف عمّا تعرضت له هي وأطفالها من عنف جسدي ونفسي على يد الزوج.
توفّر مؤسسة "البيت الآمن" الحماية للأفراد الذين يتعرضون للعنف المنزلي. تضعهم في أماكن خاصة محمية، وتعمل على دعمهم نفسياً ليتمكنوا من مواجهة مخاوفهم.
شاركت هدى وابنتها في برنامج للعلاج النفسي من آثار العنف المنزلي. تلقت الطفلة جلسات علاجية جماعية مع أطفال في نفس عمرها تعرضوا لتجارب مشابهة، وتتمثل أنشطتها في الرسم والحكي وإخراج المشاعر السلبية بشكل يتناسب مع أعمار الأطفال. كما زوّدت الشرطة الهولندية الأم بجهاز تتبّع ليسهل عليها طلب النجدة بحال حاول الزوج الاعتداء عليها مجدداً.
وعي ضعيف بالقوانين
نسبة كبيرة من السيدات العربيات لا يبلّغن عن تعرضهن للعنف منزلي. في ورقة بحثية قدمتها الشبكة الأوروبية-المتوسطية لحقوق الإنسان تحت عنوان "العنف ضد النساء المهاجرات واللاجئات"، يظهر أن لامتناع المرأة العربية المهاجرة إلى أوروبا عن الإبلاغ عن الممارسات العنيفة ضدها عدة أسباب، من ضمنها عدم وجود أوراق رسمية تثبت شخصها، فلا تستطيع اللجوء إلى الشرطة والإبلاغ عن العنف، بالاضافة إلى افتقارها للاستقلالية المادية عن زوجها، والموروث الثقافي والاجتماعي الذي يمنعها من الإبلاغ عن زوجها ووضعه أمام المساءلة القانونية، مهما كانت ممارساته قاسية ضدها.
ولكن في قانون الإقامة الهولندي، هناك فصل مخصص لحماية المرأة غير الحاصلة على الإقامة من العنف المنزلي. يكفي أن تثبت تعرّضها للعنف في أحد مراكز الشرطة واستخراج تقرير طبي يوثّق العنف الجسدي بحقها لتحظى بالحماية. لكن كثيرات من السيدات العربيات المقيمات في هولندا يجهلن ذلك، ما يساعد الرجال على انتهاك حقوقهنّ.
بحكم اطّلاعه على تفاصيل قضايا عنف أسري كثيرة، يقول عماد الشرقاوي لرصيف22 إنه في حالة الأسرة العربية يسعى الرجل المعتدي إلى السيطرة على مؤسسة الأسرة بشكل كامل، من خلال استيلائه على الإعانات الحكومية المستحَقّة للمرأة غير العاملة والأطفال، وهذا لا يتم إلا بتغييب الزوجة وإخفاء حقوقها القانونية عنها عبر عزلها عن المجتمع الذي تعيش فيه.
ويوضح أن أغلب السيدات المتعرضات للعنف المنزلي تبدأ مشاكلهنّ مع أولى محاولاتهن لنيل أي قسط من الاستقلالية عن الزوج.
ضروة الخروج من الانعزال
ينصح الشرقاوي المهاجرات العربيات بضرورة خروجهنّ من حالة العزلة المنزلية، فتعلم اللغة من شأنه تعريف المرأة بحقوقها القانونية التي يكفلها لها القانون.
ويروي أن أغلب حالات العنف المنزلي كانت بحق سيدات في حالة عزلة كاملة عن المجتمع المحيط، لا يخرجن من المنزل مطلقاً وليس لهن أي دوائر اجتماعية خارج إطار الأسرة، ما يجعل الزوج مصدر الأمان الوحيد لهنّ.
ويضيف أن انخراط المرأة العربية في الأنشطة الاجتماعية وإنشاء العلاقات الاجتماعية من شأنه تحجيم سلطة الزوج المطلقة وبالتالي منعه من ارتكاب أي تجاوز على حقوق زوجته.
تولي السلطات الهولندية اهتماماً كبيراً لمواجهة العنف المنزلي خصوصاً في المجتمعات الوافدة من ثقافات مختلفة. يمكن رصد إعلانات التوعية بالعنف المنزلي في محطات المواصلات العامة، وفي المدارس ومجتمعات العمل المختلفة.
كما تنمّي السلطات الوعي داخل مجتمعات المراهقين بسمات العنف المنزلي وكيفية التعرف عليه. تتمحور هذه السمات حول تكرار سماع أصوات ارتطام أو لطم أو تكسير مقتنيات في منزل ما أو صراخ، أو ظهور آثار ضرب على الجسد أو الوجه.
في مثل هذه الحالات، وفقاً للتعليمات، يتوجّب الإبلاغ عن الاشتباه بوجود حالة عنف منزلي لكي تتمكن الشرطة من التحقيق في الأمر. وثمة خط ساخن مجاني 08002000 يمكن لأي شخص أن يستخدمه دون إعلان صفته للإبلاغ عن شكوكه بتعرّض شخص آخر للعنف المنزلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون