لا شك بأن هناك العديد من التناقضات لدى المجتمع المغربي، في علاقة وتعامل أفراده مع الكحوليات، لكن المثير للاهتمام هو أن المجتمع نفسه يمنح تفويضاً ضمنياً للرجل بشرب الكحول، عكس نسائه، ويمكن القول إن هذا من أبرز تناقضاته.
عندما يحتسي المغربي الرجل الكحول، لا يعتبره المجتمع "عاهراً"، بل على العكس، يتقبله، ويدعو له بالهداية والمغفرة، لكن عندما يتعلق الأمر بالمغربية، في هذه الحالة يعد الأمر مختلفاً، فمجرد تناولها الكأس في يدها وحتى قبل وضعه على شفاهها، يصفها المجتمع بـ "العاهرة" و"المتمردة" و"السيئة"، وأوصاف نابية.
استمع رصيف 22 لقصص نساء يشربن الخمور، هؤلاء النسوة ينحدرن من ثقافات وطبقات اجتماعية مختلفة، لكل منهن مبرراتها الخاصة، ومغامراتها مع الكحول.
"أشرب لأدخل عالم آخر"
تقول سارة، ثلاثينية مسؤولة التواصل في إحدى شركات الإنتاج محلية، إنها لم تعد تكترث لما سيقوله عنها الآخرون، فقد حسمت موضوع شربها للكحوليات وقررت أن تعيش حياتها كما يحلو لها، طالما أنها بعيدة عن أنظار معارفها ووالديها، اللذين يستقران في مدينة بعيدة بمئات الكيلومترات عن الدار البيضاء.
تضيف سارة، بمظهرها الشبابي الجذاب وبشرتها البيضاء، وهي ممسكة بسيجارة بين أصابعها، أنها تحب السهر مع أصدقائها في النوادي الليلية المعروفة في المدينة. تقول: "أنا لا أشرب الخمر لمجرد التمرد على العادات القديمة، على العكس، أشربها للاستمتاع، حتى أدخل عالم آخر، بمواصفات عصرية، حداثية، تناسب أفكاري".
"أنا لا أشرب الخمر لمجرد التمرد على العادات القديمة، على العكس، أشربها للاستمتاع، حتى أدخل عالم آخر، يناسب أفكاري"
تتابع سارة حديثها لرصيف22 بعد أن ارتشفت سيجارتها بنشوة وثقة: "أصدقائي منفتحون، لن أرافق طبعاً من لا يتقبلوني كامرأة حرة، هم يشربون الكحول برفقتي، ندخن السجائر معاً، وأسهر برفقتهم طيلة الليل".
تشدد سارة على أنه وبالرغم من تحررها لا تستطيع إخبار والدتها بالتحديد أنها تشرب الكحول، تستطرد: "لا أعرف ردة فعلها كيف ستكون، أو يمكن القول إنني لا أريد أن يحدث مشاكل معها، عكس والدي الذي من الممكن أن يتفهم طريقة عيشي".
تقول سارة إن طبيعة عملها في التواصل، ساعدتها في التعرف على أصدقاء منفتحين، لا يترددون بكسر التقاليد، لكن هذا لا يعني أنها لا تصادف مضايقات من طرف أشخاص ينزعجون من "تحررها" أو "تمردها".
نظرة الآخرين لسارة، سواء زملاءها في العمل، الجيران، أو حتى بقال الحي وحارس البناية التي تقطن فيها، متشابهة، تتمثل بعدم الاحترام وكثير من الظنون السيئة اتجاهها، ولكنهم لا يستطيعون البوح بذلك صراحة في وجهها.
تقول سارة: "لا يشاركونني الحديث إلا للضرورة، هذا جيد بالنسبة لي، أنا غير مهتمة لهم ولا لنظرتهم المتخلفة".
تحكي سارة أنه من الأفضل للمرأة المغربية تحمل مسؤوليات اختياراتها وسلوكياتها بوعي، من دون الشعور بالذنب أو بالخوف من حكم الآخر عليها.
تتابع حديثها: "التعليم الديني الخاطئ ومجتمعنا الذكوري، لا يسمحان لنا كنساء بتعلم تحمل مسؤولية ما نفعله، وهذه الطريقة التربوية الخاطئة والمدمرة تسيطر على عقولنا، حيث في كل في مرة نشعر بالذنب، وبالتالي نعيش دائماً في دوامة من الرعب والتناقض والحزن".
تشدد سارة بنبرة حزينة هذه المرة، على أنها لم تستطيع العثور على حبيب أو شريك.
يبدو أن الشابة الثلاثينية، لم تستطع حتى الآن، تأسيس علاقة مع شريك حياة لتكوين أسرة كما تحلم، تقول: "مررت بعلاقات حب مع أشخاص رائعين، لكنهم لم يستطيعوا استيعاب طريقة عيشي، لهذا يعتبرونني نزوة عابرة فقط، وهذا يحزنني جداً، وبالتالي أقسمت ألا أحب مجدداً".
"أحب الأكل والنبيذ والصحبة"
ترى زينب، سيدة في عقدها الرابع، مسؤولة تجارية في إحدى الشركات الخاصة، بأن المرأة التي تشرب الكحول تعتبر شخصاً "سيئاً" بنظر الناس، لسببين أساسيين: أولهما نظرة المجتمع المحافظة، وثانياً بسبب الأعراف الدينية التي تحرم شرب المسكرات.
لكن، هذا الوضع، بحسبها، بدأ يتغير شيئاً فشيئاً، إذ أصبح بإمكان المرأة في بعض المدن الكبرى في المغرب، ارتياد الحانات أو شراء الكحول من المحلات العمومية، دون إزعاج الآخرين لها.
تضيف زينب، وهي مطلقة وأم لطفلة، أنها تصادف عدداً من النساء ينحدرن من طبقة متوسطة أو غنية يستهلكن الكحول بأنواعها، ويتحملن أعباءها المادية ومخاطرها الصحية.
تتابع زينب حديثها بنغمة واثقة: "80% من راتبي يصرف في المطاعم أو الحانات برفقة أصدقائي. أعشق الأكل وأحب التعرف والتذوق على أطباق شهية مع كأس من النبيذ اللذيذ، ولا أخفيك أنني أشارك صور الأكل والنبيذ على فيسبوك، فأنا سيدة مستقلة لا أحد ينفق علي".
"أشارك صور الأكل والنبيذ على فيسبوك، فأنا سيدة مستقلة".
تصمت زينب للحظات، وتستدرك بالقول: "صحيح أن معاقرة الكحول باستمرار قد يكون له وقع سلبي، سواء على بشرتي ولون أسناني أو صحتي أيضاً، ويمكن أن أؤكد لك، أن ما يتبقى من راتبي أصرفه على عيادات التجميل"، مطلقة ضحكة هستيرية.
أما كوثر، 25 سنة، فتقول إن "شرب الخمور بأنواعها في الأوساط النسائية موجود في مختلف المجتمعات ومختلف الأزمنة، وليس حكراً على المغربيات فقط، إلا أن موضوع المجاهرة به يختلف بحسب الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها المرأة". تضيف كوثر أن "النساء اللواتي ينتمين إلى أحياء شعبية فقيرة، يصعب عليهن مجاهرة شربهن للمسكرات، عكس الرجل طبعاً. ففي الواقع، هذه الأحياء تضم أشخاصاً محافظين جداً، يصعب تقبلهم معاقرة المرأة للكحول".
تضيف كوثر، وهي طالبة حقوق في إحدى الجامعات في مدينة المحمدية، في حديثها لرصيف22 أنه في "الأوساط الراقية يكون الأمر مختلفاً، حيث احتساء المرأة للكحوليات يوحي بالرفاهية، لكن هذا لا يعنى أن نساء فقيرات لا يحتسين الشراب، بل على العكس، ثمة نساء يعاقرن الكحول لنسيان معاناتهن والتعبير عن غضبهن، يحاولن بذلك إيجاد واقع جديد لهن وأحياناً كثيرة يكون مصدر رزقهن".
تقاطعها سناء صديقتها، أن إحدى جارتها من بين النساء اللواتي يحتسين الكحول للهروب من مشاكلهن، فالسيدة، بحسب سناء "لا تتردد بشرب كأس إلى قنينة من الكحول رفقة زوجها، وذلك لنسيان معاناتهما ومشاكلهما الاجتماعية التي لا تنتهي والتي تتعلق بحاجتهما المادية. المرأة تشتغل في إحدى البارات كنادلة، من أجل تسديد ثمن الكراء وبعض الفواتير الضرورية".
ورقة البوليس
يعد الكحول مصدر دخل للعديد من المغربيات، حيث يعملن ساقيات في البارات أو نادلات، سواء في الفنادق الفخمة أو في الحانات، لكن هؤلاء النسوة صُدمن مؤخراً، من اشتراط بعض أرباب المطاعم والفنادق المرخص لها بتقديم مشروبات كحولية، ما يسمى بـ "ورقة البوليس" على النساء قبل الترخيص لهن بالعمل، الشيء الذي يتم بموجبه إخضاعهن لتحقيق أمني، بالإضافة إلى إلزامهن بضرورة الحصول على موافقة الزوج أو "الولي"، وهذا ما أثار غضب حقوقيات مغربيات.
بشرى عبدو، مديرة جمعية التحدي للمساواة والمواطنة، الذي أصدرت بياناً، تداولته مواقع محلية، أكدت أن هذا الإجراء يخص النساء دون غيرهن، بغض النظر عن مهامهن داخل هذه الأماكن، سواء ساقيات، نادلات، أو مسؤولات إداريات، بل وحتى المشرفات على النظافة، كما لم تسلم منه النساء اللاتي يشتغلن في هذا المجال منذ زمن طويل.
"مررت بعلاقات حب مع أشخاص رائعين، لكنهم لم يستطيعوا استيعاب طريقة عيشي، لهذا يعتبرونني نزوة عابرة فقط، وهذا يحزنني جداً، وبالتالي أقسمت ألا أحب مجدداً"
وأوضح البيان أنه كان من الأجدى أن تستهدف الحملات التي طالت الفنادق والمطاعم والحانات، البحث في مدى التزام هذه المؤسسات بالتصريح بكل الأجيرات لدى مصالح الضمان الاجتماعي، وتراقب مدى استفادتهن من كافة حقوقهن، بعيداً عن الخوض في أهلية حسم فيها القانون منذ زمن، واعترف بولاية النساء الكاملة على أنفسهن، واعتبرهن في غنى عن أي ترخيص من أي جهة كان، لكسب لقمة العيش لهن ولأبنائهن.
من المعروف أن راتب هؤلاء النسوة هزيل جداً، يتراوح من 100 إلى 50 دولار في أحسن الحالات، وأغلبهن من دون حقوق أو عقود تذكر.
ويشار إلى أن مدونة الأسرة، التي اعتبرت عند استصدارها في 2003 أن مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين معاً، وجعلت الولاية حقاً للمرأة الرشيدة.
كما ينص الدستور المغربي في الفصل 19 على ضرورة سعي الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، بالإضافة إلى المادة 22 التي تحظر المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو الحاطة بالكرامة، للغير، تحت أي ذريعة، والمادة 31 التي تلزم الدولة والمؤسسات بتعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير سيل استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية، في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...