لطالما كنت "الطفل المدلّل"، حسب تعبير أخي الذي يكبرني بخمس سنوات، الطفل الذي يحصل على كلّ شيء دون تعب.
ولدت في آخر شهر حزيران/يونيو عام 1997، وبدأت رحلة "الدلع والغنج" حسب تعبير عائلتي، ولكن ما لا تعرفونه، أنني ولدت في الشهر السادس لا التاسع.
كنت أعاني من العديد من الأمراض التي نجوت منها "بأعجوبة"، وفق ما تقوله دوماً والدتي.
بدأ "الطفل" يكبر، وفي المرحلة الابتدائية والثانوية، أراد المعلمون/ات أن أكون نسخة عن أخي، وأن أكون مثله، أي الأول في الصف.
والحقيقة أنني لم أكن يوماً مثله، فكانت درجاتي متوسطة بينما كان يحصد أعلى الدرجات، لكنني في المقابل كنت أفضل منه في تعاملي مع الآخرين وفي محبتي للجميع...
أصرّيت دوماً على متابعة دراستي الجامعية كما أخي، من الـ Business (إدارة الأعمال) إلى الـ Audio Visuel (اختصاص السمعي-البصري).
في العام 2014 بدأت الثورة، ثورتي على الحياة، من خلال السهر، شرب الخمر والدخان، أما مرحلة الحسم فكانت مع دخولي الغيبوبة وخروجي منها "بأعجوبة" (مقولة أمّي الشهيرة).
واخترت بعدها الصحافة كمهنة "ثورجية" حقيقية في وجه هذا العالم الغامض.
بدأت مسيرتي المهنية البسيطة على الفيسبوك، إذ هاجمت الإرهاب عبر الصفحات التي تحمل راية الحرية المزيّفة، لأدخل بعدها في الثاني ثانوي إلى ورشة عمل، وفي الثالث ثانوي أكملت شهادتي الرسمية وعملت في إحدى المجلّات المختصّة بالاجتماع والصحّة والجمال، وغيرها من المواضيع البعيدة بعض الشيء عن أولوياتي المهنية.
في العام 2014 بدأت الثورة، ثورتي على الحياة، من خلال السهر، شرب الخمر والدخان، أما مرحلة الحسم فكانت مع دخولي الغيبوبة وخروجي منها "بأعجوبة"
نجحت في امتحان الدخول إلى كليّة الإعلام في الجامعة اللبنانية، وبدأت أتعمّق أكثر في الصحافة، وانغمست في جميع مجالاتها في السنوات الثلاث الأولى، من الجريدة إلى الراديو والتلفزيون وبعدها إلى الإعلام الرقميّ.
فترات ليست بقصيرة ولكن كانت تحت عنوان التدريب، فلم أحصل على ما أريد. تابعت الأخبار عن كثب، ومع مرور الوقت طوّرت طريقة التحليل.
دخلت مرحلة الماستر، وكانت جائحة كورونا تعمّ البلاد، تعلّمنا عن بُعد إنما امتحاناتنا النهائية كانت حضورياً، وتحت ضغط رهيب من قبل الأطراف كافة: الوضع الاقتصادي والاجتماعي، العائلة، الأصدقاء، الأحباء، الجامعة وكورونا، على حدّ سواء.
أعترف أنّ درجاتي في الجامعة اختلفت بعض الشيء عن المدرسة، ولكن لم تكن بالجيدة.
نجحت في بعض المواد، والبعض الآخر في الدورة الثانية، والآن أكتب هذه المقالة وأنا أنتظر درجاتي من الدورة الثانية في مادتين لم أعرف سبب رسوبي بهما، مع العلم بأنني شرحت للآخرين ماذا يريد الدكتور في امتحانه، ونجح الجميع بالمادة عدا من حاول المساعدة، وهو أنا.
في الربع الأول من تموز الماضي، رأيت على صفحة الفيسبوك إعلاناً عن وظيفة شاغرة في إحدى الوسائل الرقمية التي ستبصر النور في الأول من أيلول/سبتمبر من الشهر الفائت، فرحت جداً وكنت أتطلع لأكون الشخص المثالي في العمل.
كنت الأصغر سناً بينهم (لطالما كنت كذلك في كافة المجالات التي دخلتها) وأعطيت نفسي لقب "المتمرّد" الذي يقدّم 20 موضوعاً بدل خمسة أو ستة.
في أواخر شهر تموز نفسه، دعتني المسؤولة إلى مكتبها، وطلبت مني أن أنتقل من كاتب محتوى إلى مسؤول السوشال ميديا، ما سيحول دون حضوري إلى المكتب حتى أيلول القادم، كما وأنها ساعدتني في الحصول على وظيفة أخرى أعمل بها داخل منزلي.
اختلطت مشاعري بين الحزن على ترك وظيفتي الأساسية حتى أيلول، وبين الفرح نتيجة العثور على وظيفة أخرى.
كان الرابع من آب المرحلة المصيرية: انفجار مرفأ بيروت، تحطّم المكتب الأساسي وتضرّر المكتب الآخر، وأصبحت دون عمل. انتهت مأساة الانفجار شكليّاً وبقيت إلى يومنا هذا فعلياً. ومرة أخرى وقع نظري على إعلان على فيسبوك لإحدى الشركات التي تطلب موظّفين، وقمت بمقابلة سريعة بعض الشيء، وبدأت العمل داخل مكاتبها الكائنة في الحمرا، في الأول من أيلول.
في كلّ صباح من شهر أيلول كنت أغني وأنا في سيارة الأجرة "خدني معك وديني ع شارع الحمرا"، وعادت سعادتي إلى الواجهة.
كانت المجلة تُعنى بالجمال والصحة الجمالية والموضة وإلى ما هنالك من مجالات مشابهة، ستبصر النور في العام 2021. كان بحوزتي أكثر من مئة موضوع حتى النصف الأول من الشهر عينه.
وتقدّمت ببرنامج للمجلة، إضافة إلى البرامج الأخرى التي طلبها المسؤولون عنّي. كنت أكتب وأنا أستمع للأغاني الجميلة مع ضجيج المكتب، فأنا لم أتخلّ يوماً عن لقب "المتمرّد".
في الثامن عشر من شهر أيلول دعتني زميلتي المسؤولة، وحدّثتني عن الوضع الصعب الذي تمرّ به الشركة، وأنّ احتمال البدء بالمجلة بعيد الأمد وصعب بعض الشيء، وأنهت عملي معهم وعيناها تغمرهما الدموع، "شكلياً أم فعلياً" فالأمر انتهى.
كنت قد تحدّثت مع والدي على وجوب شراء سيارة، بالرغم من أن الوضع الاقتصادي صعب، ولكن كنت أهدر الكثير من المال وأنا أتنقل يومياً في سيارات الأجرة، وقبل ليلة واحدة من إنهاء عملي، نجح والدي في شراء سيارة قديمة ولكنها تتمتع بـ"صحة جيدة".
وهكذا، حصلت على سيارتي يوم الخميس الواقع فيه 17 أيلول/ سبتمبر 2020، وفي اليوم التالي أصبحت بلا وظيفة، كانت السيارة تحتاج للمزيد من التصليح، إضافة إلى المعاينة الميكانيكية وتسجيلها في النافعة.
يوم الاثنين دخلت سيارتي إلى المعاينة وخرجت بشهادة "راسبة"، فاضررت في اليوم التالي لإعادة تصليحها. مع سطوع شمس يوم الثلاثاء، ذهبت إلى مكان التصليح وأنا أستمتع بأغاني فيروز الصباحية، ليوقفني درّاج ويحجز السيارة بحجة أنها غير مسجّلة، فكان جوابي سريعاً: "أنا رايح صلحها ومعاينة وبسجلها، وهيدي ورقة المعاينة"، فردّ بعجرفة: "خدها بلاطة"، وكأن الوضع الاقتصادي يحتمل المزيد من المصاريف.
مرّ الأسبوع الثالث وسيارتي ما زالت محجوزة، منتظراً حضور المحقق "المرتشي"، وإمضاء الملازم أول "الصديق"، وعدم خروج القاضي "الفاسد" قبل انتهاء دوامه. للأسبوع الثالث وأنا في روتين كبير، من المخفر إلى الطيونة، إلى العدلية والنيابة العامة.
وأخيراً، يوم الثلاثاء 7 تشرين الأول/أكتوبر، انتهينا من جميع المعاملات، وذهبنا، والدي وأنا، إلى المخفر لإغلاق المحضر القديم، لنذهب بعدها إلى النيابة العامة ليحوّلوا المحضر إلى محكمة السير في العدلية، لندفع المحاضر التي يمكن أن تصل قيمتها إلى 2-3 ملايين ليرة لبنانية، في ظلّ هذا الوضع السيء، على كلّ حال الأمر انتهى وأخيراً.
وصلت إلى النيابة العامة وأنا فرح لأنه سيكون اليوم الأخير من الروتين اليومي الذي امتدّ لأكثر من أسبوعين. انتظرت في الصف، سألتني الموظّفة التي تسجّل الأسماء وسبب حضورنا إلى العدلية، للمرّة الألف أو أكثر، لا أعلم.
ذهبت إلى الطابق الأول حيث النيابة العامة، لأرى الشريط الأحمر وكأنّ هناك قتيلاً وجريمة مروّعة حصلت داخل مبنى العدلية، لا أعلم.
عند وصولي رأيت الأبواب مغلقة، فسألت عن السبب، فجاوبني الموظف: "كورونا، جايين يعقموا وفالل، أنا خايف كمان... ما تقرّب"، فسألته عمّا إذا كان قد وصل المحضر، فعليّ أن أنتهي من كل شيء، إنّه اليوم الأخير.
جاوبني بغرابة: "ما سمعتني شو قلت؟ أنا هون بس ليعقموا وفالل، وأصلاً ما في ولا قاضي"، وعرفت أن قصر العدل أصبح محظوراً بسبب كورونا، ولم يعد اليوم هو الأخير.
هذه القصة ليست كاملة ولكن عليها أن تنتهي، كما كلّ مساء من الأسابيع الثلاثة الماضية، "إنشالله بكرا آخر نهار وبتنحل"
فقدتُ الكثير من الأمل في هذه الأسابيع الأخيرة، لم أعرف لماذا؟ ولكن كان الأمل كبيراً وأصبح صفراً، وأعتقد أنه من اللازم أن أرحل، إلى أين؟ لا أعلم. ربّما إلى مكان بعيد جداً عن هذا الفساد المستشري في كافة المجالات العامة والخاصة والأفراد والجماعات، لا أعلم.
هذه القصة ليست كاملة ولكن عليها أن تنتهي، كما كلّ مساء من الأسابيع الثلاثة الماضية، "إنشالله بكرا آخر نهار وبتنحل".
"أصدقائي وصديقاتي الأغراب" خذوا ما أردتم، ابكوا كما شئتم، أحبوا كما لو كان اليوم هو الأخير، لا تدعوا أحداً يمنعكم عما تحبونه: هذه الحياة ملك لكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون