مع مطلع العام 2020، كان الكثير منّا ينظر بعين التفاؤل إلى هذه السنة ويعوّل عليها الكثير من الآمال والأمنيات، ويعتبرها سنة "تحقيق الأحلام" بامتياز، فخلال هذا العام كان البعض قد قرّر الانتقال إلى منزل جديد أو الارتباط رسمياً وعقد زواجه أو خطوبته، والبعض الآخر كان ينتظر بفارغ الصبر حفلة التخرج من الجامعة، السفر حول العالم وزيارة أماكن جديدة، وغيرها من المشاريع الجميلة التي كانت تلوح في الأفق.
ولكن فجأة ذهبت الكثير من الأحلام أدراج الريح بعد أن ضرب فيروس كورونا العالم كله، فتوقفت عجلة الحياة في معظم دول العالم وتم تعليق جميع المخططات والمشاريع والنشاطات، حتى تلك التي كانت تعتبر من المسلّمات، كالاجتماع مثلاً مع العائلة، تناول العشاء مع الأصدقاء، الذهاب إلى السينما، تصفيف الشعر، ممارسة التمارين الرياضية في الجيم...
وبالرغم من أن بعض الدول بدأت باستئناف نشاطاتها ولو بوتيرة بطيئة، إلا أن هناك دولاً أخرى، بالأخص في منطقتنا العربية، ترزح حالياً تحت عبء الديون وتعاني من أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، ما يؤثر على نمط حياة المواطنين، يجعلهم يعدلون عن مشاريعهم ويشعرون بالحزن على فقدان ما كان في جعبتهم من خطط مستقبلية، في وطن لم يعد يتّسع لأحلامهم وطموحاتهم.
من حقي أن أحزن
للأسف، إن معظم الوجوه التي أقابلها في الآونة الأخيرة في لبنان هي وجوه قاتمة وهياكل بشرية تفتقر إلى الحياة، أما الأحاديث فبمعظمها تدور حول أزمة الدولار وانهيار الليرة اللبنانية، بالإضافة إلى عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن إدارة البلاد، في الوقت الذي يئنّ فيه الشعب تحت وطأة الجوع والفقر...
وسط هذا المشهد المعيشي الحزين الذي يُضاف إلى أزمة كورونا، يمارس بعض الأفراد سياسة "جلد الذات"، فينعتون أنفسهم بأبشع الصفات ويلومون أنفسهم على مقدار الحزن الذي يشعرون به بسبب بعض الأمور التي لم يتمكنوا من تحقيقها بسبب العزل الاجتماعي، كحفل التخرج الخاص بهم أو اضطرارهم إلى تأجيل موعد زفافهم، معتبرين أن هذه الأمور "تافهة" ولا تستحق التوقف عندها، مرددين أن الحزن ليس من حقهم بل من حق الناس الذين فقدوا مورد رزقهم أو خسروا شخصاً عزيزاً على قلبهم ولم يتمكنوا من وداعه بسبب إجراءات التباعد الاجتماعي.
معظم الوجوه التي أقابلها في الآونة الأخيرة في لبنان هي وجوه قاتمة وهياكل بشرية تفتقر إلى الحياة، أما الأحاديث فبمعظمها تدور حول أزمة الدولار وانهيار الليرة اللبنانية، بالإضافة إلى عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن إدارة البلاد، في الوقت الذي يئنّ فيه الشعب تحت وطأة الجوع والفقر
في هذا الصدد، تحدث الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، لموقع رصيف22 عن التجربة المريرة التي نختبرها عند فقدان الأشياء التي كنّا نريد فعلها ولم ننجح في ذلك، مؤكداً أن الإنسان في مثل هذه الحالة يختبر حالة نفسية صعبة تشبه مراحل الحداد الخمس: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب وصولاً إلى التقبل.
وأوضح رستم أن الخسارة التي قد تكون على صعيد نفسي، مادي، اجتماعي، تجعل المرء يدخل في نوع من المساءلة الذاتية ولوم الذات: "ماذا فعلت؟ هل كنت السبب فيما حدث؟ كيف كان عليّ أن اتصرف"... مضيفاً: "إلى جانب الغضب واليأس، هناك إحساس بالذنب لا يوصف، فالبعض تواصل معي وأخبرني عن الشعور بالذنب الذي انتابه لأنه كان بعيداً حين خسر أحد أفراد عائلته، ولم يتمكن من المجيء إلى لبنان بسبب كورونا".
وأكد هاني أنه وبالرغم من حالة اليأس والإحباط التي يشعر بها البعض، إلا أنه عندما يصل إلى مرحلة التقبّل، فعندها ينخرط في مرحلة الـanticipation أي التطلع إلى المستقبل: "هون بيصير يسأل كيف فيي إمشي لقدام وما كون علقان بمحل معيّن"، مشيراً إلى أن الترقب هو بمثابة آلية إيجابية للتأقلم مع الظروف، البقاء على قيد الحياة وعدم خسارة أنفسنا في هذا المجتمع: "من المهم يبقى إحساس المرء بذاته وبأنه موجود، لأنه ما حصل خلّانا نشعر وكأننا أرقام وجزء من كتلة ما عم نعرف نحن وين...".
من هنا ينصح هاني رستم كل شخص بأن "يعيش الحزن للآخر"، وألا يلوم نفسه على ما حدث، بل أن يتمسك بالهدف الذي يعيش من أجله والذي يُعطي لحياته معنى.
لذة الإنتظار وفوائد التطلع إلى المستقبل
كلنا بحاجة إلى شيء نتطلع إليه في الحياة، غير أن الاستمتاع بالانتظار يعتمد على ما ننتظره حقاً.
وفي هذا الصدد، تبيّن أن انتظار التجارب يعدّ أكثر متعةً من انتظار السلع والأمور المادية، ولعلّ هذا ما يفسّر سبب السعادة التي تغمرنا عند شراء بطاقات مسرحية قبل أسابيع من عرضها، إجراء حجوزات لعطلة رأس السنة أو حجز رحلة طيران قبل بضعة أشهر، في حين أن مذاق ترقب الحصول على هاتف جديد أو سيارة جديدة يكون مختلفاً.
وفي السياق نفسه، أظهرت الدراسات أن الترقّب هو شعور قوي يولد السعادة والشعور بالرفاهية.
ولكن بعد أن تسبب فيروس كورونا بإلغاء الكثير من المشاريع والأحداث التي كنا متحمسين بشأنها، كيف يمكن بناء توقعات إيجابية عندما يكون المستقبل مجهول المعالم؟
لا شك أن البقاء في "الوقت الآني" وعيش اللحظة هو أمر جيّد، ولكن يجب ألا يعني ذلك إشاحة النظر عن المستقبل، وإلا ستفوتكم بهجة التفكير والتوقع والانتظار.
فبالرغم من أن الأبحاث تشير إلى أن العيش في الوقت الحاضر وممارسة اليقظة الذهنية يمكن أن يزيد من السعادة، إلا أن بعض الخبراء يعتقدون أنه خلال اللحظات المجهدة، فإنه من الفائدة أن يكون لدينا شيء نتطلع إليه.
في الواقع، يشكل التطلع إلى الأحداث المستقبلية والتخطيط لها حافزاً لحياتنا ويجعل أيامنا وردية، فعودوا بالذاكرة مثلاً إلى أيام الطفولة وتلك الليلة التي كانت تسبق عيد ميلادكم، والشعور الجميل الذي كان يصاحبكم خلال هذه الفترة: لقد كنتم متحمسين، متوترين وممتلئين بجميع المشاعر الإيجابية، وقد أعطى تطلعكم دفعة أكثر إثارة لحياتكم من الهدايا نفسها.
تحدثت صحيفة هافيغتون بوست عن بعض الفوائد التي تكمن وراء وجود أشياء نتطلع إليها، حتى لو كان علينا أن نعمل بجد أكبر لخلق تلك التجارب لأنفسنا، ومن بينها:
التفاؤل بشأن المستقبل: ينتابنا القلق حين نفكر في الأشياء الفظيعة التي قد تحدث لنا في المستقبل، وبطبيعتهم، بوسع البشر تصور جميع أنواع السيناريوهات للمستقبل، وأولئك الذين هم أكثر عرضة للقلق يميلون إلى التركيز على النتائج السلبية المحتملة.
"لا قيمة لحياتنا إذا فقدنا الأمل فى حياة أفضل"
أما في حال تخيّل المرء مستقبلاً يتسم بالأوقات الجميلة والتحديات التي يتم التغلب عليها، فإن هذا يسمح له بالتركيز على كيفية التغلب على العقبات بدلاً من التركيز على الغد القاتم والحزين.
والأهم من ذلك، أن يتم الاستمتاع بالأمور الصغيرة التي يمكن فعلها بدلاً من تحويل التركيز على الأمور التي لا يمكن فعلها في الوقت الراهن.
مصدر تسلية: من الممتع أن تدور الخطط المستقبلية في أذهاننا رغم المشاكل التي نتخبط بها، فأحلام اليقظة حول التجارب المستقبلية قد تشعرنا بالإثارة، كالتخطيط للإجازة، كيفية الاحتفال بعيد ميلادكم القادم أو "اللمّة العائلية" التي تنوون تنظيمها، فمن خلال تخيّل التجارب الإيجابية التي تنتظركم يمكن استخدام تلك الطاقة لتحمل ضغوطات الحياة اليومية.
المضي قدماً بدل الاستسلام: الترقب والتطلع إلى المستقبل قد يعني المكافأة، والمكافآت ما هي إلا دوافع ومحفزات قوية، فمعرفة أن شيئاً جميلاً في طريقه إلى حياتنا يدفعنا إلى إنجاز بعض المهام التي قد لا نرغب في القيام بها.
إن الكدح والانكباب على العمل في الوقت الحالي قد يؤتي ثماراً إيجابية في وقت لاحق، ومجرد التفكير في ذلك يجعلكم تتحملون الأوقات الصعبة من أجل مستقبل أفضل، وهذا حال الكثير من الطلاب الذين تلقوا دروسهم عن بعد بسبب كورونا، وواصلوا العمل بجدّ من أجل الحصول على علامات جيّدة تسمح لهم بالدخول إلى الجامعات التي يحلمون بالجلوس على مقاعدها في يوم من الأيام.
كلنا بحاجة إلى شيء نتطلع إليه في الحياة، غير أن الاستمتاع بالانتظار يعتمد على ما ننتظره حقاً
في الختام، إذا كنتم من الأشخاص الذين يعانون من خيبة أمل ويسيطر عليكم الشعور بالحزن والقلق من المستقبل المجهول والأيام القادمة، تأكدوا أنه من حق كل شخص أن يحزن وأن يقارب الأمور بالطريقة التي يريد، فلا داعي لمقارنة أوضاعكم بمشاكل الآخرين، افسحوا المجال للتعبير عن سخطكم وغضبكم واعلموا أن ما تختبرونه من مشاعر سوداوية هو أمر طبيعي نظراً للظروف الصعبة التي نعيشها حالياً، ولعلّ الحلّ يكمن في تغيير نظرتكم إلى الواقع والتسلح بالأمل مهما اشتدت الصعاب، وإلا فقدنا جوهر حياتنا، كما يقول الأديب المصري توفيق الحكيم: "لا قيمة لحياتنا إذا فقدنا الأمل في حياة أفضل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...