داخل محل كبير يعرض مختلف أنواع الدراجات الهوائية، وسط العاصمة السورية دمشق، يقضي فواز خالد حوالي نصف ساعة قبل أن يتخذ قراراً حول الدراجة الجديدة التي سيشتريها، فهي ستكون بديلاً عن سيارته التي قرر التوقف عن استخدامها منذ أسبوعين، تزامناً مع اشتداد وطأة أزمة الوقود في البلاد.
"آخر مرة حاولت فيها الحصول على بنزين لسيارتي، انتظرت لأكثر من سبع ساعات دون نتيجة، حيث أغلقت المحطة أبوابها قبل وصول دوري. في ذلك اليوم قررت ركن السيارة حتى إشعار آخر، والتحول نحو قيادة الدراجة الهوائية"، يقول الشاب الثلاثيني في حديث لرصيف22.
وتعيش سوريا منذ مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي ضائقة غير مسبوقة في مجال تأمين وقود السيارات، تعزوها المصادر الحكومية إلى "الاحتلال الأمريكي لحقول النفط السورية وحصاره المشدد على سورية، إضافة إلى إجراء أعمال الصيانة في مصفاة بانياس"، وهي واحدة من مصفاتي النفط الأساسيتين في البلاد.
وتسبب ذلك بطوابير طويلة على محطات الوقود في جميع المدن والبلدات السورية، حيث يضطر أصحاب السيارات للانتظار فترات طويلة، قد تصل حتى عشرين ساعة وأكثر، ليحصلوا على مخصصاتهم من البنزين بالسعر المدعوم حكومياً، وهو 250 ليرة لليتر الواحد، أو من دون دعم ليكون سعر الليتر 450 ليرة (حوالي ربع دولار).
ويشير فواز إلى أن تخوفه من أن تطول الأزمة أو أن تتكرر، كان الدافع الأساسي في توجهه لشراء دراجة ليستخدمها في التنقل بين المنزل والعمل، والمسافة بينهما لا تتجاوز عشرة كيلومترات. "العديد من أصدقائي يستخدمون الدراجة، واليوم أصبحت مقتنعاً تماماً بجدوى ذلك، على الأقل حفاظاً على أعصابي من التلف أثناء ساعات الانتظار الطويلة"، يضيف ضاحكاً.
"آخر مرة حاولت فيها الحصول على بنزين لسيارتي، انتظرت لأكثر من سبع ساعات دون نتيجة، حيث أغلقت المحطة أبوابها قبل وصول دوري. في ذلك اليوم قررت ركن السيارة حتى إشعار آخر، والتحول نحو قيادة الدراجة الهوائية"
"مبيعاتنا زادت خمسين بالمئة"
فواز لا يبدو وحيداً في قراره هذا، فبحسب حديث صاحب أحد محال بيع الدراجات الهوائية، في شارع خالد بن الوليد وسط دمشق، زادت مبيعات المحل بنسبة خمسين بالمئة في الشهر الأخير، والسبب وفق رأيه هو "أزمة البنزين بكل تأكيد".
ويخبرني أبو وطن، ونحن نتحدث داخل محله، بأن زبائن جدداً باتوا يزورونه اليوم، ومنهم موظفون وطلاب جامعات، ممن قرروا التوقف، وإن بشكل مؤقت، عن استخدام سياراتهم الخاصة أو سيارات الأجرة، بسبب تضاعف تكلفتها في الأسابيع الماضية.
ويبلغ سعر الدراجات التي يبيعها الرجل الأربعيني، ومصدرها الصين، ما بين 90 ألف ليرة (أربعين دولاراً) و120 ألف ليرة (55 دولاراً)، وهو سعر مقبول كما يقول، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يُدفع لمرة واحدة ولا يتطلب تكاليف دورية، كما هو حال السيارات الخاصة والمواصلات العامة.
في المحل المجاور يجلس أبو إبراهيم، ولا يبدو بأن لديه ذات العدد من الزبائن كما هو حال جاره. يقول الرجل بأن أعداد الراغبين باقتناء دراجات هوائية ازداد من دون شك في الأسابيع الأخيرة، لكن الأمر في كثير من الأحيان يتوقف عند السؤال فقط، دون الشراء.
"تتراوح أسعار الدراجات الموجودة لدينا، وجميعها صينية، بين 100 ألف و300 ألف ليرة، وهو مبلغ ليس بمتناول جميع السوريين اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض الأجور. يدخل محلنا العشرات يومياً، لكن نسبة كبيرة منهم تعزف عن الشراء عندما تعرف الأسعار"، يقول لرصيف22.
ولا يتجاوز وسطي الأجور الشهرية في سوريا ستين ألف ليرة، في حين تبلغ تكاليف معيشة أسرة مكونة من خمسة أفراد حوالي 600 ألف ليرة، وفق آخر الإحصائيات المحلية.
النساء بحاجة للتشجيع
منذ حوالي شهر، فكرت فيفيان، وهي موظفة تعيش وتعمل في دمشق، بالاستغناء عن السيارة بعد معاناتها في الحصول على الوقود، وأيضاً في العثور على سيارات أجرة يمكن أن تنقلها من وإلى عملها.
"في أحد الأيام وكنت قد عانيت الأمرّين والأزمة في ذروتها، وإذ بي أشاهد امرأة تقود الدراجة ومعها طفلها الصغير. في البداية ذُهلت لمشاهدة هذا الأمر، ثم فكرت بأنني سأقوم حتماً باستخدام الدراجة إن كانت قيادة النساء لها باتت فعلاً أمراً شائعاً في دمشق"، تقول السيدة، وهي أم لثلاثة أولاد.
إلا أن الأمر بالنسبة للمرأة لا زال بحاجة للتشجيع من المجتمع، كي تتمكن هي وغيرها من الفتيات والنساء من استخدام الدراجة دون خجل، ودون التعرض لنظرات الاستغراب من المحيط، أسوة بأي رجل يقود الدراجة، وهو أمر أكثر من طبيعي في سوريا
ومع طول أمد أزمة الوقود الحالية وعدم وجود حل لها في الأفق، كانت فيفيان شاهدة على طوابير السيارات وهي تقف على المحطات بانتظار دورها، والمشاجرات المرافقة لذلك، نتيجة استخدام بعض السائقين القوة للحصول على البنزين قبل غيرهم، واستغلال آخرين الأمر لبيعه بالسوق السوداء، فكان الحل الوحيد برأيها هو ركن السيارة أمام المنزل، واستخدام طرق بديلة كالدراجة الهوائية.
"تحدثت مع زملائي وزميلاتي بالأمر، وأفكر بهذه الخطوة جدياً وبتشجيع من زوجي، وأرى بأن الدراجة ستحل مشكلة التنقل في الأماكن المزدحمة، وتقلل من مشكلة التلوث، كما ستوفر تكاليف البنزين وأعباء الوقوف على محطات الوقود لساعات طويلة"، تضيف فيفيان في حديثها لرصيف22.
إلا أن الأمر بالنسبة للمرأة لا زال بحاجة للتشجيع من المجتمع، كي تتمكن هي وغيرها من الفتيات والنساء من استخدام الدراجة دون خجل، ودون التعرض لنظرات الاستغراب من المحيط، أسوة بأي رجل يقود الدراجة، وهو أمر أكثر من طبيعي في سوريا.
إلا أن لإسراء الجابر رأي مغاير، فهي بالفعل بدأت باستخدام الدراجة الهوائية قبل حوالي ثلاثة أسابيع، بعد أن تحول التنقل بين منزلها الكائن في شارع بغداد، وسط المدينة، وجامعتها في حي المزة، غربها، إلى ما يشبه الكابوس.
"مذ بدأت أزمة البنزين ازداد الازدحام بشكل كبير على حافلات النقل العامة والخاصة، وهي غالباً الوسيلة التي كنت أستخدمها نظراً لكلفتها المعقولة. في أحد الأيام انتظرت ساعة كاملة ثم اضطررت لأن أستقل سيارة أجرة ودفعت ألفي ليرة، وهو مبلغ كبير بالنسبة لي لأن أدفعه ذهاباً وإياباً بشكل يومي"، تقول الفتاة العشرينية في حديث مع رصيف22، وتضيف بأن ذلك اليوم كان حاسماً بالنسبة لقرارها بخصوص الدراجة الهوائية، فاشترتها من مدخراتها وبدأت على الفور باستخدامها.
ولا تلقي إسراء بالاً لأي تعليقات سلبية يمكن أن تتعرض لها أثناء قيادتها الدراجة، وهي ليست كثيرة على الإطلاق، ولا تعدو كونها حالات فردية كما تقول. "المهم هو إحساسي بأن وقتي أصبح ملكي تماماً، دون أن أكون رهينة أي أزمة مهما كانت، فلم أعد مضطرة للانتظار على طوابير وسائل النقل، وأنصح الجميع باتباع هذه الطريقة إن استطاعوا، فالأزمات هنا تبدو بلا نهاية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...