"والله ريحته أحلى من ريحة العطر الفرنسي.. شمّ ما أجمله". يخاطب أبو محمد وهو سائقٌ لإحدى سيّارات الأجرة في العاصمة السوريّة دمشق صديقاً بقربه، وهما ينتظران دورهما للحصول على بعض الوقود من محطةٍ تقع وسط المدينة.
يطول الانتظار لأكثر من نصف ساعة. تتحرّك عشرات السيارات ببطءٍ على أربعة صفوفٍ متقاربةٍ يصعب تحديد نهايتها، وهو حال معظم المحطّات في البلاد التي تعيش أزمةً خانقةً بما يخصّ وقود السيارات "البنزين" منذ حوالي ثلاثة اسابيع. يتململ أبو محمد. ينظر لساعة يده كلّ خمس دقائق، ويحسب عدد السيارات أمامه محاولاً التنبؤ بالدقائق أو ربما الساعات المتبقية له، يعود لصديقه قائلاً: "هي المحطة أحسن من الباقي. هون أربع صفوف، بغير محطات صفّين والدور أبطأ".
كغيره من السائقين وأصحاب السيّارات، يضطرّ أبو محمد كلّ يوم للإنتظار مدّة قد تصل حتى أربع ساعات للحصول على 20 ليترٍ من البنزين، وهي الكميّة المسموح بها كل 5 أيام، بناءً على تعميمٍ صادرٍ عن وزارة النفط والثروة المعدنيّة السوريّة أوائل الشهر الحالي.
هذه الكميّة، هي جزءٌ من المخصّصات الشهريّة التي يمكن الحصول عليها بالسعر المدعوم 225 ليرة (أقلّ من نصف دولار) لليتر الواحد وتبلغ 200 ليتر للسيّارات الخاصّة و400 لسيّارات الأجرة، لا تكفي أبو محمد بطبيعة الحال، فهو يعمل على سيّارته منذ الصباح وحتى آخر النهار، كي يتدبّر مصروف أسرته وأولاده الثلاثة، وبات يهدر جزءاً من وقته اليومي في الانتظار، ما يعني انخفاض دخله أو اضطراره للعمل ساعاتٍ أكثر.
الإنتظار مدّة قد تصل حتى أربع ساعات للحصول على 20 ليترٍ من البنزين، وهي الكمية المسموح بها كل 5 أيام
ويقول السائق الخمسيني في حديثٍ لرصيف22: "حياتنا كلها عذاب وتعب. ثماني سنوات قضيناها ونحن ننتظر، إمّا الموت أو الوقود أو الكهرباء، ويبدو أن أمامنا الكثير بعد. لكن إن لم نقابل هذه الأزمة وغيرها بالروح المرحة، فلن نكون قادرين على الاستمرار". ويهتف لصديقه ضاحكاً: "روح جيب كيلو بزر لنتسلّى ونحنا ناطرين".
السخرية في مواجهة الأزمات
تحلّ أزمة البنزين على سوريا بعد أشهرٍ من أزماتٍ مشابهةٍ شهدتها البلاد فيما يخصّ أسطوانات الغاز المنزليّة ومازوت التدفئة، والتي قضى السوريون شتاءً صعباً وهم يحاولون تأمينها لمنازلهم، واضطرّت معظم العائلات للانتظار يومياً في طوابير طويلة للحصول عليها، إلى جانب مشاكل أخرى متعلّقةٍ بالكهرباء التي يبلغ متوسّط ساعات تقنينها يومياً حوالي 12 ساعةٍ في معظم المناطق، حتى أن تقنين الكهرباء قد يصل إلى أكثر من 20 ساعة.
حياتنا كلها عذاب وتعب. ثمان سنوات قضيناها ونحن ننتظر، إمّا الموت أو الوقود أو الكهرباء
وتعزو الحكومة السوريّة سلسلة الاضطرابات المتتاليّة هذه للخسائر الكبيرة التي لحقت بقطاعي النفط والطاقة، جرّاء الحرب التي تعيشها البلاد منذ سنوات، إضافةً للعقوبات الاقتصاديّة التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركيّة ودولٌ عربيّةٌ وغربيّةٌ عديدة على سوريا، مما يصعّب عملية استيراد المشتقّات النفطيّة.
وباعتبار أنها ليست الأزمة الأولى من نوعها في هذه البلاد التي عانت مآزق مشابهة على مدار السنوات الفائتة، ومع شعورٍ شبه كاملٍ بالعجز حيالها، يرى سوريون كثر بأن الكوميديا السوداء، سواء في الحياة الواقعيّة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هي أفضل طريقة لمواجهة ما يعيشونه من مصاعب.
"كنا نعبّي بنزين لنروح سيران، صرنا نروح سيران لنعبّي بنزين". "اليوم كازية المزّة رح تجيب وفيق حبيب على السهرة". "كازية القصور مافي مطرب، فقط عشا ومشروب مفتوح ودي جي". " لأيمتى بدنا نضلّ نتحمّل؟ لا بنزين ولا كهربا ولا مازوت.. وفوق كل هاد غلا بالأسعار وفساد وما في رقيب.. محرزة بالله كرمال 20 ليتر ننذلّ وننهان وننطر بالساعات...مو محرزة كرمال عشرين ليتر بنزين تعملوا وزارة نفط". هذه عيّنة عن المنشورات التي امتلأت بها صفحات موقع فيسبوك خلال الأيام الفائتة، للسخرية من ساعات الانتظار الطويلة التي يتوجّب على السوريين قضاءها في محطات الوقود.
يرى سوريون كثر بأن الكوميديا السوداء، سواء في الحياة الواقعية أو عبر مواقع التواصل الإجتماعي، هي أفضل طريقة لمواجهة ما يعيشونه من مصاعب
منشورٌ آخر تحدّث عن إمكانية طلب توصيل وجبات الغذاء أو العشاء من المطاعم القريبة للناس المنتظرين في تلك المحطات، حيث يتحدّث أحد الأشخاص مع المطعم طالباً سندويشتين من البرغر وعلبتين من مشروب الكوكاكولا، وعند سؤاله عن العنوان يقول: "محطّة شارع بغداد، الصف الثالث، سيارة كيا زرقاء"، ذاكراً رقم السيارة لعدم حصول أيّ لغطٍ.
وفي منشورٍ على صفحة Jusoor Entrepreneurship Program التي تهتمُّ بالمشاريع والأعمال الصغيرة في سوريا، يسأل مدير الصفحة: "كرائد أعمالٍ سوري، إذا أردت أن تستغلّ أزمة البنزين بمشروعٍ ما تجني منه المال، فما هي فكرة هذا المشروع؟"، لتنهال بعدها التعليقات حول مشاريع محتملة يمكن تأسيسها حول محطّات الوقود، كبسطات الفلافل والذرة المسلوقة، أو خدمات إرسال شخص ينتظر بدلاً من السائق، أو يسلّيه ويعينه على تمضية الوقت مقابل أجرٍ معيّنٍ.
وإلى جانب المنشورات، حفلت صفحات مواقع التواصل بصورٍ تحاكي أزمة الوقود الأخيرة. في واحدةٍ منها تجلس فتاة مع صديقها وهما يتفرّجان من بعيدٍ على كوكب الأرض، وتسأله: "أليس هذا سور الصين العظيم؟" فيجيبها: "لا يا حبيبتي هذا الدور على محطة الوقود في سوريا". في صورةٍ أخرى يبشّر السوريون بعضهم باستيراد وسائل جديدة للنقل لا تحتاج أي نوعٍ من الوقود، فهي عبارة عن عرباتٍ خشبيةٍ تجرّها أحصنة. تُظهر صورة ثالثة شخصاً يحاول الانتحار بمسدسٍ له على شكل القبضة المستخدمة لتعبئة البنزين في السيارات.
الحل...في علم الفلك؟
لدى انتظارها لأكثر من ساعةٍ على واحدةٍ من محطات الوقود في دمشق، تفتح "نورما" صفحتها الشخصيّة على موقع فيسبوك وتكتب للمختصّة في علم الأبراج والفلك الأكثر شهرةً في سوريا "نجلاء قباني": "مرحباً مدام نجلا، أنا اسمي نورما وأمي اسمها ردينة ومواليدي شهر شباط، ممكن تشوفيلي إيمتا دورنا بالبنزين؟".
هذه ليست المرّة الأولى التي تلجأ فيها الفتاة الثلاثينيّة لهذه الطريقة المرحة بالتعامل مع الأزمات الخدميّة الخانقة التي تعيشها سوريا منذ سنوات، "فالغضب والتوتر لن يؤديا لأيّ حلٍّ ولن يعجّلا بحصولنا على الوقود"، وفق ما تؤكّده في حديثٍ لها مع رصيف22.
ولمفاجأتها، فقد حصلت "نورما" بالفعل على ردٍّ من نجلاء قباني، والتي كتبت لها على موقع فيسبوك على سبيل المزاح: "اليوم القمر في برجك. انتظري ساعتين وستحصلين على الوقود". وتضيف نورما ضاحكةً: "أشعر بالتفاؤل عادةً عندما أسمع أمراً إيجابيّاً بما يخصّ برجي، وأفضّل التعامل مع كل ما نعيشه بروحٍ مرحةٍ بعيداً عن السلبيّة".
نورما ليست الوحيدة في سوريا ممن باتوا يتلمّسون معرفة حظّهم عن طريق الأبراج كما تقول "قباني" في لقاءٍ مع رصيف22، حيث يلجأ الناس عادةً خلال فترات الخوف والقلق لما يمكن أن يعطيهم شعوراً بالطمأنينة ويهدّئ من مخاوفهم، ويقدّم لهم أيضاً بعض الاستشارات والنصائح، وإن كان من باب النكتة، كمعرفة موعد حصولهم على الوقود أو الغاز.
وتضيف السيدة في حديثها: "بات السوريون أكثر حاجةً للاطمئنان، وللروح الإيجابيّة في الوقت نفسه. في الأزمات نحتاج بعضنا البعض، ونحتاج من يقول لنا بأن غداً سيكون يوماً أفضل، وهو ما أقوم به من خلال دمج معرفتي بعلم الأبراج وقدرتي على معرفة الخطوط العريضة الخاصّة بمستقبل كلِّ برج، مع استشاراتٍ أرى بأن على الجميع اتّباعها خلال هذه الأزمات، وأقدّمها بقالبٍ من النصائح ذات الطابع الإيجابي".
في الأزمات نحتاج بعضنا البعض، ونحتاج من يقول لنا بأن غداً سيكون يوماً أفضل
هذا وتعتقد قباني، الحائزة على إجازةٍ في التربية، بأن الضغوطات تولّد في الكثير من الأحيان طاقةً إيجابيّةً للتعامل معها، وهو ما لمسته بشكلٍ كبيرٍ لدى السوريين خلال سنوات الحرب، "الأمر الذي ساعدهم، وفق رأيي، على تجاوز عشرات الأزمات والمشاكل بكل شجاعةٍ وتفاؤل"، على حدّ قولها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع