أمواج من الإيرانيين يرفعون صوره فوق رؤوسهم، إلى أعلى ما بإمكانهم، حُبسوا خلف سور حديدي فصلهم عن المشاركة في تشييعه. صورة الجموع الباكية الممنوعة من الاقتراب من جثمان الفنان الإيراني الراحل محمد رضا شجريان ستبقى في ذاكرة محبيه إلى الأبد.
هذه الصورة ترسم بتفاصيلها شكل محبّة هذا الفنان الذي انتقل إلى مثواه الأخير في مدينة طوس، المدينة التي اختار فيها مدفنه ليجاور مدفن الشاعر الفارسي العظيم أبي قاسم الفردوسي، وتوضح معالم شعبيته، هو الذي دفع ثمن مواقفه في السنوات العشر الأخيرة، لكنه في المقابل كسب قلوب الإيرانيين.
صوتي للناس والإنسانية
"الموسیقى تقدّمك إلى الناس، تقرّبك منهم ولكنها بمفردها لا تجعلك محبوباً. سلوكك هو معيار المحبّة. على الفنان أن يعلم أن ضمير المجتمع يقظ دائماً وواعٍ لكل تفصيل وكل كذبة وكل خطأ. لذلك حاولت ألا أخطئ وصنعت الموسيقى للناس وللإنسانية". هكذا اختصر الفنان الإيراني محمد رضا شجريان سرّ محبّته في مقابلة سابقة له.
هذه المحبّة لم تظهر فجأة بعد وفاته، ولا علاقة لها بمتلازمة حب الموتى التي اعتدنا ظهورها على مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاة كل مشهور، بل هي محبّة حقيقة نتجت عن صفحات من علاقة الشعب الإيراني وشجريان، وشهدنا ملامحها مراراً في يوم عيد ميلاده، في 23 أيلول/ سبتمبر، عندما كانت مواقع التواصل الاجتماعي تغرق بصور "الأستاذ".
في يوم وفاته، بثّ التلفزيون الإيراني صوراً له، بعد سنوات من استبعاده عن الشاشة الرسمية، بسبب موقفه السياسي في مناصرة الجماهير خلال الحركة الخضراء عام 2009. صحيح أنه لم يقتحم أبواب السياسة ولم يدخل دهاليزها المظلمة لكنه كان متعصباً للشعب ومتطرفاً لمجتمعه.
بعد رحيله، لم يغطِّ علم بلاده نعشه، في حركة لافتة ومتعمّدة الهدف منها إبقاؤه بعيداً عن أيّ نظام، كما منع ابنه همايون فرقة التشريفات الحكومية من حمل أبيه إلى مثواه الأخير.
"على الفنان أن يعلم أن ضمير المجتمع يقظ دائماً وواعٍ لكل تفصيل وكل كذبة وكل خطأ. لذلك حاولت ألا أخطئ وصنعت الموسيقى للناس وللإنسانية" (الفنان الإيراني محمد رضا شجريان)
خلال أحداث الحركة الخضراء في إيران عام 2009، غنّى شجريان لأبناء شعبه أغنية "لسان النار ولحديد"، واضعاً نفسه بجانب المطالبين بالتغيير، هو الذي كان قد طالب سنة 1995 بوقف بث أغانيه على الإذاعة والتلفزيون الرسميين، اعتراضاً على الموسيقى ذات المستوى الهابط، وبعدها أوضح أكثر من مرة أن أغانيه الوطنية كانت خاصة بظروف الثورة عامي 1978 و1979.
لم يلتحق شجريان أيضاً بصفوف المعارضة الإيرانية المقيمة خارج البلاد، على الرغم من خروجه من إيران، محافظاً بذلك على استقلاله ومكانته.
ابن الخريف وسياوش الغناء
ولد الفنان الإيراني محمد رضا شجريان في 23 أيلول/ سبتمبر 1940، في أول أيام الخريف، في مدينة مشهد. والده مهدي شجريان كان مغنياً في شبابه وأفضل مرتّلي القرآن في مشهد، واصطحب ابنه محمد رضا لتلاوة القرآن منذ سن السادسة، وبدأ الأخير بترتيل القرآن برفقة أبيه في سن الـ13 واستمرت حلقات الترتيل بشكل متقطع حتى وفاة الأب، وضمناً بعد شهرة الابن.
لم يوفّر فرصة لشكر أبيه، وقال في بداية ألبومه "لذكرى الأب" إن كل ما حققه كان بفضل تعليم أبيه وإرشاده له.
بُثَّ أول تسجيل لصوت شجريان وهو في سن الـ12 عبر أثير راديو خراسان. أكمل تعليمه في المدرسة العليا وكان معلماً في الوقت نفسه. بدأ رحلته مع الموسيقى بشكل جدّي من خلال تعلّم العزف على آلة السنتور.
خلال أحداث الحركة الخضراء في إيران عام 2009، غنّى الفنان الإيراني محمد رضا شجريان لأبناء شعبه أغنية "لسان النار والحديد"، هو الذي كان قد طالب التلفزيون الرسمي الإيراني، في التسعينيات، بعدم بث أغانيه الحماسية معتبراً أن هذه الأغاني كانت لثورة 1979، ولكن الظروف اليوم مختلفة
انتقاله إلى العاصمة طهران سنة 1965 أتاح وصول صوته الساحر إلى راديو إيران، الأهم حينذاك، ثم إلى التلفزيون الرسمي في البلاد. بدأ عمله في الغناء عبر الراديو باسم مستعار "سياوش بيدكاني" ليعمل لاحقاً باسمه الحقيقي إلى جانب ثلة من الشعراء والموسيقيين الإيرانيين على إحياء الموسيقى التقليدية الإيرانية.
شكّل شجريان، إلى جانب الموسيقار الإيراني الشهير محمد رضا لطفي، فرقة "شيدا" الموسيقية، بالتزامن مع تعاونه مع فرقة "بايور". معاً، رسموا شكل الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية، وتعاون مع بعض الشعراء المعاصرين، وأهمهم الشاعر هوشنك ابتهاج.
رسم الثلاثي، لطفي وشجريان و ابتهاج، خريطة جديدة للموسيقى التقليدية في إيران. غيّروا في المضمون مستخدمين الآلات الموسيقية المنسيّة وغيّروا في طريقة العرض فاعتمدوا الأزياء التقليدية وطريقة الجلوس على أرض المسرح.
يعتبر بعض الموسيقيين أن الحفلة التي أحياها شجريان برفقة الموسيقار لطفي قرب مرقد حافظ الشيرازي عام 1978، والتي بثها التلفزيون الرسمي، شكلت منعطفاً في تاريخ الموسيقى الإيرانية المعاصرة، بعد أن كانت تتجه نحو نسيان عراقتها وكادت تتحوّل إلى ملحق بالموسيقى الغربية شكلاً ومضموناً.
عشية الثورة الإسلامية في إيران، قدّم شجريان إلى جانب ثلة من الموسيقيين أناشيد وطنية أهمها "إيران خورشيد تابان" و"إيراني"، تركت بطبيعتها الحماسية أثراً خاصاً لصوته في صفوف الثوار، على الرغم من ابتعاده عن المباشرة في السياسة.
لم يستمر تعاون شجريان مع الموسيقار لطفي بعد الثورة. هاجر الأخير وبقي الأول في إيران محاولاً التأقلم مع الظروف الجديدة للبلاد. تعاون مع عدد آخر من الموسيقيين الإيرانيين ونجح معهم أيضاً كما راح يلحّن أغانيه بنفسه، لكنه لم ينجح كثيراً في ذلك وتعرّض لانتقادات.
عالمي بلهجة فارسية
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حين كان قسم كبير من مفكري إيران وساستها وطلابها ومثقفيها يعيشون خارج البلاد، بعيداً عن ثقافتهم الأم، رسم شجريان بصوته لهؤلاء جسراً للحنين. وحدها أغانيه كانت تسطع في طهران وبلاد المهجر معاً. ومع وجود قيود على الفن في الداخل، اتجه شجريان لتسجيل موسيقاه في الخارج، فكانت أشهر البوماته "بيام نسيم"، "سرو تشمان"، "فرياد" مسجلة في أوروبا والولايات المتحدة.
بعد رحيل الفنان الإيراني محمد رضا شجريان، لم يغطِّ علم بلاده نعشه، في حركة لافتة ومتعمّدة الهدف منها إبقاؤه بعيداً عن أيّ نظام، كما منع ابنه همايون فرقة التشريفات الحكومية من حمل أبيه إلى مثواه الأخير
أجرى محبوب الجماهير جولات موسيقية عدّة في المدن الأوروبية، وحقق نجاحاً باهراً. أحياناً، كان يختصر الفرقة الموسيقية بثلاثة عازفين، اعتقاداً منه أن هذا الشكل للفرقة الموسيقية يترك بصمة أكثر تميزاً.
کان شجريان شجرة طيّبة، جذروها عريقة ومتأصلة في الثقافة الإيرانية، لكن أغصانها تسمو عالياً نحو الإنسانية. كان يدرك أن صوته ولحنه لا يخاطبان شعباً واحداً بل يخاطبان الإنسان، فكان عالمياً بلهجة فارسية، ولذا نراه قد كُرِّم في الكثير من المحافل الدولية كما حصل عام 2014 على وسام الشرف الفرنسي من رتبة فارس.
صوت أسلوب وخط حافظ الشيرازي
كاختياره مكان مدفنه بدقة، قرب الفردوسي، أحسن شجريان دائماً اختيار شعره من بين خزائن الشعر الفارسي. انتقى منها ما يناسب حال الناس دون رياء. بالطبع، يُجمع محبّوه على أن صوته يُعتبر السبب الأول لشهرته والانجذاب إليه والاستمتاع بأغانيه، لكنّه وظف هذه الموهبة في الاتجاه نحو الأشعار التي يحبّها الإيرانيون، فغنى لحافظ ومولانا وسعدي وغيرهم، لكنه تحيّز بحب لحافظ الشيرازي.
كان شجريان ذكياً في جذب الناس. أنشد للدين وغنّى للحب والوطن والثورة. وعلى الرغم من إصراره الدائم بأنه ليس فناناً سياسياً، إلا أن أغانيه اقترنت بالوعي الجمعي السياسي.
في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، غيّب الموت شجريان عن عمر يناهز الثمانين عاماً بعد صراعه لسنوات مع المرض، تاركاً خلفه آثاراً عظيمة ومحبّة قلّ نظيرها لفنان في إيران.
مهنة شجريان الأولى، التعليم، صاحبته مدى حياته. كان معطاءً قادراً على منح علمه للآخرين. أصبح تلاميذه عمالقه بدورهم وبقوا أوفياء له ولمدرسته في الموسيقى، ومنهم شهرام ناظري وعلي رضا قرباني وسالار عقيلي وابنه همايون شجريان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...