"ممنوع تضحكي وأنت طالعة، مفهوم"، مقولة رسخت في ذهن الفتاة الثلاثينية بسمة خليل، منذ بلوغها سن المراهقة، لتجد والدها يضع القيود عليها تحت شعار "أنا بيتي زجاج ما بدي حدا يجي يحكي عني".
اليوم، ترى بسمة كل القيود التي ترسّخت معها منذ الطفولة، والتي فرضت عليها في وقت لم تكن تعلم الكثير عن شؤون الحياة، كل ما كانت تعلمه هو أنه يجب عدم مخالفة أمر والدها القائم على سياسة فرض الرأي من دون تعليق.
قالت بسمة، التي تعمل في إحدى محالّ الكوافير في غزة، لرصيف22: "أعيش اليوم حالة صعبة من التأقلم مع الآخرين، إذ لا أشاركهم الضحك أو تبادل الابتسامات حتى مع بنات جنسي، وذلك لخوفي من الواقع الذي زرع بداخلي منذ سن المراهقة، لأدرك فعلاً أنني معقدة نتيجة ذلك، ولم أجد حلاً".
كان والد بسمة يسرد لها حكايات عن فتيات ابتسمن في الطرقات، كانت نهايتاهن مأسوية، من اغتصاب وقتل وخطف، وهذا ما جعل الخوف يسود الغرفة، ويخيم في قلبها، لتسرع إلى إقناع ذاتها بأنه يجب قتل ابتسامتها.
وبعد مرور كل هذه السنوات، تتساءل بسمة: "هل يجعلنا خوف أهلنا علينا في ظلمات الكبت والحزن وانعدام السعادة؟".
"الابتسامة بوجه الغريب حرام"
سنابل سليمان (35 عاماً)، التي تعمل مرشدة اجتماعية في قطاع غزة، وسعت جاهدة لدراسة علم الاجتماع لكي تغير من الفكرة النمطية التي نشأت لديها منذ الصغر عن أن الابتسامة بوجه الشخص الغريب حرام، مما دفعها لكتمان ابتسامتها فترة طويلة من حياتها.
كان والد بسمة يسرد لها حكايا فتيات ابتسمن في الطرقات، ولكن كانت نهايتاهم مأساوية، من اغتصاب وقتل وأخريات تم خطفهم، مما أرعبها كثيراً، لتسرع في إقناع ذاتها بأنه يجب قتل ابتسامتها
تتذكر سنابل كلمات مُدرّسة مادة الدين التي استدعتها إلى قاعة المعلمين، وسألتها: "ليه أنت دايماً مكشرة وما بتضحكي؟"، أجابتها سنابل: "أبوي بمنعني عشان قال حرام". أقنعتها المعلمة أن الابتسامة ليست حراماً، مما جعلها تقرر أن تبتسم خارج البيت من دون علم والدها، واقتنعت بأن الله لن يحاسبها على ابتسامتها، لأن عبوس المرأة في الشارع من العادات وليس بموجب أحكام الدين. تقول لرصيف22: "بعد الالتحاق بالجامعة، حاولت أن أغير تفكير والدي، وأخبرته أن الابتسامة شيء عادي، فمنعني من الجامعة لمدة أسبوع".
"سودتي سمعة العيلة"
أما يارا عبد العزيز البالغة من العمر 28 عاماً، والعاطلة عن العمل، تسكن في قطاع غزة، فقد واجهت صعوبات كثيرة في حياتها كونها الصغرى بين أفراد الأسرة، إذ وجدت نفسها مقيدة من قبل والديها وإخوانها الأربعة لتعيش أيامها في دوامة من الضغوط النفسية. تقول: "الطريف في الأمر أنه ممنوع الضحك بالشارع، عشان عيب وحرام، وانت عم بتضحكي بوجه أشخاص غرباء".
ولكن يارا كانت تحاول أن تطلق لنفسها العنان، فتبتسم للآخرين أثناء تجولها في الطرق مع زميلاتها في الدارسة، لم تتوقع أنها ستعود إلى المنزل والهموم تنتظرها عقب رؤية أحد إخوانها إياها وهي تضحك في الطريق، ليبدأ أبوها في توبيخها، تقول: "بدأت الحرب النفسية في منعي من الخروج مع زميلاتي، ونعتي بصفات مشينة". وقال أخوها الأكبر لها: "بدك تضحكي عشان تفضحي البيت، وتسودي سمعة العيلة".
أما سالي غالي (22 عاماً) تعمل في مجال التمريض، فطالما فكرت في الهروب من المنزل إلى بيت خالها، الذي يعمل محامياً، بعد تعرضها للضرب من قبل أخيها الأكبر، وبعد رؤيته إياها تبتسم لأحد المرضى في مستشفى أثناء التدريب المهني المقرر في دراستها الجامعية.
وجدت فاتن في ارتداء النقاب الحل الأمثل لتتخلّص من تعليقات والدها، على ابتسامتها التي لا تفارق وجهها، تقول: "ربنا خلقني بضحك شو أعمل الشيء مو بيدي"
كان أخوها ينتظرها بفارغ الصبر في المنزل لينهال عليها بالضرب، تقول سالي لرصيف22: "كان يراودني شعور بأنني منبوذة من أفراد العائلة، حتى وصلت الأمور إلى عدم مشاركتهم في مائدة الطعام".
وأضافت سالي: "ذات يوم طلبت المساعدة من خالي وسألته هل القانون يعاقب على الابتسامة، فابتسم وقام باستدعاء أخي الأكبر، وتوبيخه، وبدأ بشرح ما هو الصواب، وما هو الخطأ، وطلب مني الذهاب معه إلى مكتب عمله، وبدأت أفهم كيف تدور أمور الحياة، ومع من نبتسم، وكيف ومتى لأدرك أن الابتسام ليس محرماً، ولكن يجب أن يكون ضمن حدود المنطق، كما يقول خالي".
"النقاب هو الحل"
فاتن علي البالغة من العمر 25 عاماً، والتي تعمل إدارية في إحدى الجمعيات الخيرية في غزة، فتقول لرصيف22 أنها وجدت في ارتداء النقاب الحل الأمثل لتخفي ابتسامتها التي لا تفارق وجهها.
تقول فاتن: "ربنا خلقني بضحك شو أعمل الشيء مو بيدي". هكذا بدأت فاتن بمواجهة حياتها مع جدها، الذي كان دوماً يجمع أحفاده حوله، ويسرد لهم حكايات عن الحياة، وكان دوماً يحذر حفيداته من الابتسامة بوجه الآخرين في الطرقات لما في ذلك من "خدش للحياء"، حسب وصفه.
وأضافت فاتن: "في سن المراهقة، بدأ والدي باستكمال دور مراقبتي من جدي، وذات يوم قال لي:"مو شايفة إنه ابتسامتك صايرة كثيرة"، فبدأت بمراجعة نفسي، حتى وجدت أن لا حلول أمامي سوى ارتداء النقاب لإخفاء ابتسامتي".
وتختم فاتن حديثها: "اليوم أستطيع أن أبتسم عندما أريد بمعزل عن قيود المجتمع القاتلة والمخالفة للدين. كم هي العادات والتقاليد عقيمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...