لا يزال شبح غشاء البكارة يطارد الأنثى في المجتمعات العربية منذ البلوغ، ويفرض عليها كمعيار للشرف في منظومة أبوية وذكورية، فأمام البكارة كلهن متساويات، وإن "فقدنه"، سيعشنَ كوابيس من نسيج عقليات ذكورية لا ترحم حرية قرار المرأة بجسدها. أما الحكم فيتدرج بين الإذلال مدى الحياة، الهجر، سكين أو بندقية تهدر المزيد من قطرات الــ "شرف"، وأحياناً، يخترن فتيات "الخلاص" من الكوابيس التي في الحقيقة، وإن كان "الخلاص" مزيفاً، على هيئة خيط طبي، يحيك من جديد غشاء تمزق معه عنفوان فتاة تعيش في مجتمع يرى في قطعة الجلد هذه، صمام أمان العذرية.
"بعد الحرب"... عنوان لمرحلة مفصلية في حياة سوريين وسوريات، عبثت بكل مناحي الحياة، فكيف كان وقعها على الهالة المجتمعية حول ممارسة الجنس خارج إطار الزواج وفقدان غشاء البكارة؟ وهل كان لحركة المجتمع المدني الذي نشط مع الحرب أي تأثير أو تغيير على تعامل فتيات أو المجتمع مع "قدسية" الغشاء؟
إنقاذ حياة
"نعم أنا مخادعة"، بهذه الكلمات بدأت فاطمة (اسم مستعار) 24 عاماً، تعيش في دمشق، حديثها لرصيف22، عن تجربتها مع عملية ترقيع غشاء البكارة، حيث أحبت شاباً وأجرت معه علاقة جنسية كاملة بكامل إرادتها، على حد تعبيرها، وبعد أن انتهت العلاقة بينهما، قررت أن تجري عملية لترقيع غشاء البكارة عند أحد الأطباء بريف دمشق. طمأنها الطبيب الذي وصلت إليه عن طريق طبيب نسائية آخر، وشرح لها عن الأعراض التي كانت خفيفة على حد تعبيرها، وبعد أيام شعرت أنها استعادت قوتها كثيراً، حسب تعبيرها، وتضيف: "حيث رمم هذا الخيط ثقتي بنفسي".
فاطمة كفتيات أخريات، اضطرت للجوء إلى عملية ترقيع غشاء البكارة التي، وفقاً للطبيب ماهر (اسم مستعار) 41 عاماً، اختصاصي جراحة عامة منذ 11 عاماً في ريف دمشق، لا تحتاج إلى أكثر من 10 دقائق، إبرة وخيط.
ويضيف في حديث لرصيف22: "معظم الحالات التي قمت بالتعامل معها، هي لفتيات فقدن عذريتهن نتيجته الكبت، قلة التوعية الجنسية أو الوقوع ضحية علاقة عاطفية فاشلة ومليئة بالوعود الكاذبة، لذلك يكون أمامي خياران، إما إجراء هذه العملية الصغيرة، أو تركها لمواجهة حتفها... نعم حتفها، فالنسبة الأكبر من الفتيات اللواتي يلجأن لهذه العمليات، ينحدرن من بيئات اجتماعية متعصبة جداً، ولا مجال للمساومة على مسألة عذريتهن... النتيجة محسومة للأسف، وبالتالي، إجراء العملية هي بمثابة إنقاذ في كثير من الأحيان".
"بعد الحرب" عنوان لمرحلة مفصلية في حياة سوريين وسوريات، عبثت بكل مناحي الحياة، فكيف كان وقعها على الهالة المجتمعية حول ممارسة الجنس خارج إطار الزواج؟ وهل كان لحركة المجتمع المدني الذي نشط مع الحرب أي تأثير أو تغيير على تعامل الفتيات أو المجتمع مع "هالة" غشاء البكارة؟
الحرب والبكارة
منذ 9 أعوام، ولاتزال جمل "الحرب أفسدت المجتمع، ازداد الانحلال الأخلاقي، غالبية البنات باعوا شرفهن"، تتردد على ألسنة العديد من السوريين. ربما ازدادت السرقات وازداد القتل، لكن هل أثّرت الحرب على ازدياد ممارسة الجنس لدى الفتيات خارج إطار الزواج، وبالتالي "فقدانهن" لغشاء البكارة؟
عن هذا يقول الدكتور ماهر: "لم يكن هناك تغيير نوعي في أعداد الفتيات القادمات شهرياً إلى عيادته قبل الحرب وبعدها، وبالتالي الحرب لم تحدث ذاك التغيير الكبير في حدة الحالة المجتمعية حول غشاء البكارة، لذلك ما زالت تلك العمليات تنتشر بكثرة في العيادات النسائية بسوريا".
الناشطة النسوية سارة خضر، 27 عاماً، عاملة في راديو "سوريات" وتعيش في ريف دمشق، توافق مع الدكتور ماهر، وتشير في حديث لرصيف22: "لم يحدث ذاك الاختلاف الجذري في المسألة مقارنة بسنوات ما قبل الحرب وخلالها والآن. هناك هالة مجتمعية حول غشاء البكارة، وتعود جذور المشكلة إلى الأفكار التي يتم زرعها في رأس الفتاة منذ طفولتها، خاصة فكرة أنها كائن مستضعف ويعيش حالة أرق دائمة، مصدرها قيام الشريك بالتخلي عنها، تركها أو ربما فضحها... وهذا يقع على عاتق الأهل. يجب على الأهل اقتلاع هذه الأفكار من رأس الفتاة وجعلها تفكر بمنطق يقول: من لا يريدني، أنا لا أريده... فليذهب ولا يرجع".
وتضيف: "نحن متأخرون جداً في هذا الموضوع، والمسؤولية تقع على عاتق العديد من الجهات، فعدم وجود ملجأ للفتاة يدافع عنها أو يأخذ بيدها، وعدم وجود مركز قادر على حماية الفتاة من العنف، سيجعل عيادة طبيب النسائية الملاذ الوحيد لها. وهنا تقع تحت رحمة هذا الطبيب، الذي من الممكن أن يستغل هلعها وحالتها النفسية، ويقوم بطلب أجر باهظ لقاء هذه العملية الجراحية البسيطة".
وحول تأثير الحرب على هذا الموضوع، وعلاقتها بالهالة المجتمعية حول غشاء البكارة، تقول خضر: "لا شك أن الحرب وما حملته من نشاطات وحملات وبرامج لدعم المرأة وتمكينها، مؤشر انعكس إيجابياً على المرأة وتثقيفها وزيادة وعيها، وأيضاً حقق نتائج جيدة في وعي المجتمع تجاه هذه القضية، لكننا ما زلنا متأخرين كثيراً في هذه المسألة، لطالما أن هناك أخاً يقتل أخته بسبب هذا الغشاء، وأباً يتبرأ من ابنته".
عملية بسيطة جداً
الممرضة فرح (اسم مستعار) 47 عاماً، من دير الزور، تجري عمليات الترقيع منذ عام 2011 في دمشق، تتفق مع الناشطة خضر في تداعيات فقدان الغشاء على الفتيات، وربما تتخذ منها ذريعة لقيامها بتلك العمليات، وتقول لرصيف22: "لقد قمت بترميم أغشية 4 فتيات فقدن العذرية بعد اغتصابهن بقوة السلاح، هذا السلاح الذي أصبح في متناول الجميع بعد الحرب. إحدى تلك الفتيات اغتصبها 3 مسلحين من تنظيم داعش في محافظة الرقة، فهل سيتقبل أي رجل هذا الموضوع، حتى لو هي الضحية؟".
تضيف الممرضة فرح: "أنا أعلم أنني أخالف القانون وشرف المهنة، واختصاصي لا يخولني القيام بأي نوع من هذه العمليات، لكنها عملية بسيطة جداً، كما لو أنني أقوم بتقطيب أي جرح طفيف، ولكنني مقتنعة أنني بهذه الخيوط أرمم نفس فتاة نالت هذه الفوضى والفلتان الذي أفرزته الحرب منها، وأهمية هذه الخيوط لا تقل عن أهمية الدعم النفسي الذي تحتاجه الفتاة بعد جريمة اغتصاب أو علاقة حب فاشلة أودت بها إلى هذا المطاف".
"آخر همي"
جنى (اسم مستعار) 26 عاماً، مهندسة معلوماتية، ابتسمت ابتسامة صفراء ساخرة ومتهكمةً من فكرة التقرير، قائلة: "هل مازال هذا الموضوع يشغل حيزاً من تفكيرنا، بعد كل ما حصل في سوريا من حروب؟"، جنى التي أقامت علاقة جنسية "خارج إطار الزواج"، حسب تعبيرها، لم تفكر في إجراء عملية ترقيع لغشاء البكارة، وتسأل: "كيف لمجتمع أن يحكم على شرف فتاة من قطعة جلد يمكن تمزيقها بالإصبع؟".
أما إذا كان حبيبها المستقبلي لديه إشكالية حول ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، فهي لا تريده، حسب تعبيرها، وتدعوه للذهاب إلى فتيات "العذرية المزيفة"، ولم تصارح والديها من باب الخجل فقط وليس من باب الخوف.
وتلقي جنى بدورها اللوم على الجمعيات المختصة والمجتمعات النسوية، فيجب على تلك الجهات، برأيها، أن تأخذ دوراً فعالاً أكثر في حماية الفتيات اللواتي يتعرضن لأي خطر جسدي أو نفسي ناجم عن عدم تقبل أي رجل "متخلف" لما قامت به في جسدها، وتتابع: "كما عليها إطلاق حملات توعية واسعة النطاق، لتثقيف الفتيات والمجتمع بشكل عام ورفع سقف الوعي لديه، ليصرف النظر عن مسألة الغشاء وعلاقته بالعذرية والشرف، فمن المخزي جداً أن بعض الرجال لا زالوا يفكرون في غشاء البكارة ويعتبرونه صمام أمان لصون أخلاق الفتاة وعفتها".
وعن هذه النقطة تقول الناشطة النسوية سارة خضر: "في الوقت الذي عززت فيه الحرب ونشاطاتها الوعي، ساهمت في الوقت ذاته بزيادة الشريحة المجتمعية التي تعاني من الجهل والتعصب. هناك فتيات لا يعرفن أنواع البكارة، ولا يعرفن أن بعض الفتيات من الممكن أن يولدن بدون غشاء، لأن الأهل لا يقومون بالتوعية في هذا الموضوع، لذلك لا يمكن تجاهل الحقيقة السوداء، وبالتالي، إن هذه العملية ستنقذ فتاة من الموت، وستنجي المنزل من (جريمة شرف) كما يسمونها".
"لا شك أن الحرب وما حملته من نشاطات وحملات وبرامج لدعم المرأة وتمكينها، مؤشر انعكس إيجابياً على المرأة وتثقيفها وزيادة وعيها، وأيضاً حقق نتائج جيدة في وعي المجتمع تجاه هذه القضية، لكننا ما زلنا متأخرين كثيراً في هذه المسألة، لطالما أن هناك أخاً يقتل أخته بسبب هذا الغشاء، وأباً يتبرأ من ابنته"
أخلاق المهنة؟
"الطب مهنة أخلاق"، "إنقاذ حياة فتاة"، تحت هاتين العبارتين يمتثل الطبيب لطلب الفتاة الراغبة في ترقيع غشاء بكارتها، أو يقفل باب عيادته في وجه الفتاة دون أن يكترث لحمل الترقيع في طياته بذور الظلم والإجحاف، أو حمايته لحياة الفتاة، معلناً الطبيب الرافض "طهارة" أدواته، وتمكسه بأخلاق المهنة وقسمها وقانون النقابة، "القانون 16 لعام 2012"، الذي يقول في المادة 17: "على الطبيب الالتزام بالآداب الطبية وتقاليد المهنة والحفاظ على قدسية الرسالة الإنسانية لمهنة الطب".
وهنا يبرر الدكتور ماهر لرصيف22: "هناك العديد من الأمور الشائكة في مهنة الطب، هي مهنة لها قدسيتها ولها شرفها، لكن المجتمع ومفرزاته يضعان الطبيب في بعض الأحيان في موقف أو مسألة معقدة جداً، لا يمكن حلها إلا بتجاوز (شرف المهنة). هناك العديد من المواضيع التي تصب في هذا السياق، ليس فقط موضوع غشاء البكارة، مثلاً الجريمة التي حصلت في بلدة الذيابية بريف دمشق، حيث قتل شاب أخته لأنها فقدت بكارتها، لو أتت هذه الفتاة وأجريت لها العملية التي لا تتجاوز مدتها عشر دقائق، ألم تكن الآن على قيد الحياة؟".
هذا الغشاء الذي يفتقر إلى أي وظيفية فيزيولوجية أو بيولوجية، يودي بالكثير من الفتيات اللواتي يفقدنه إلى الموت، حتى لو كانت الفتاة خُلقت بدون غشاء بكارة، أو كان غشاء بكارتها مطاطياً يحتاج لعمل جراحي لفضه، على حد تعبير الدكتور ماهر، فعدم التوعية وجهل الأزواج والمجتمعات بغشاء البكارة، تحلل الجريمة في بعض المجتمعات حتى الآن.
وعي منقوص
الوصول إلى رسم بياني يوضح بشكل دقيق ازدياد أعداد الفتيات اللواتي يلجأن إلى عمليات ترقيع غشاء البكارة بعد الحرب، يحتاج إلى العديد من الإحصائيات والأبحاث، لكن من المؤكد أن الحرب التي هشّمت المجتمع والأسرة السورية وأنهكت النظام الاجتماعي، لن تبني سوراً توعوياً في وجه مجتمع يبصم بالشرف لقطرة دم بكارة. أما المشاهدات اليومية ووثائق محكمة الجنايات السورية، فكانت كافية لترجيح كفة الجهل وقلة الوعي، مقابل الحملات التوعوية والنهضة التنموية التي رافقت سنين الحرب، والتي عول عليها البعض في تخفيف حدة الهالة المجتمعية حول موضوع غشاء البكارة، ولجوء الفتيات إلى عمليات الترقيع لحماية أنفسهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين