"إثر التأكد من وجود غاز ونفط في الحدود البحرية، طالبت عام 2010 من الأمم المتحدة وأمينها العام بان كي مون بترسيم الحدود البحرية ورسم خط أبيض في البحر المتوسط الأزرق، وإثر تمنّعها، وطلبها مساعدة الولايات المتحدة، بادرت شخصياً لطلب المساعدة". كان هذا ما جاء على لسان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في مؤتمر صحافي، في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، أعلن فيه تفاصيل التوصل لاتفاق إطار من أجل البدء بمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل.
أطلق إعلان بري سيلاً من التكهنات والانتقادات، فمع أن الاتفاق جاء بعد سلسلة من المفاوضات استمرت لسنوات طويلة، كما عبّر رئيس مجلس النواب بالقول: "تناوب على الملف، من الجانب الأمريكي، ثلاثة سفراء أمريكيين، منذ عام 2011 إلى عام 2019، وأخيراً مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر عام 2020"، إلا أن تزامن الإعلان عنه مع اقتراب الانتخابات الأمريكية وتوسع موجة التطبيع في المنطقة، جعلا الحديث عن وظيفته السياسية أكثر حدة.
قبل الخوض في تفاصيل الإعلان وكيف قُرئ إسرائيلياً وأمريكياً، كان لافتاً ما أثاره تولي بري الإعلان عن الاتفاق من إرباك داخلي، لا سيما بعد خروج بيان عن رئاسة الجمهورية يعلن لاحقاً تولي الرئيس التفاوض في المرحلة المقبلة، حاصراً الشكر بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، من دون الإشارة إلى بري.
تبعت البيان تغريدة لصهر رئيس الجمهورية (وزير الخارجية الأسبق) ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل داعياً فيها إلى إجراء المفاوضات "على الطريقة اللبنانية… لا العربية أو الفارسية".
هذا الإرباك، عدا عن أسبابه السياسية المتراكمة داخلياً بين الطرفين الحليفين في الظاهر، يُظهر في حال وضعه ضمن إطاره الدستوري أن بري كان قد تجاوز صلاحيات رئيس الجمهورية الذي أوكله الدستور عقد الاتفاقات الخارجية والمعاهدات الدولية، مع العلم أن أي اتفاق حدود لن يكون دستورياً قبل إبرامه من مجلس النواب.
"إذا نجح الترسيم، ووُفِّق الجيش ولبنان، خصوصاً بالنسبة إلى البلوك 8 و9 في البحر، فهناك مجال كبير أن يكون أحد أسباب سداد ديوننا"، كان ذلك أيضاً ما قاله بري في مؤتمره الصحافي، مشيراً إلى أن الاتفاق حصل في 9 تموز/ يوليو الماضي، ومؤكداً فيه على التحليلات بأن وضع لبناني الاقتصادي كان عاملاً أساسياً في التسريع بإنهاء الاتفاق، في وقت أصر على أن العمل عليه بدأ قبل زمن ولا يتقاطع بأي شكل مع "توجهات العرب" للتطبيع.
وكان لبنان قد وقع عام 2018 أول عقد له للتنقيب البحري عن الغاز والنفط في مياهه الإقليمية مع شركات فرنسية وإيطالية وروسية، وشمل العقد مساحة متنازع عليها مع إسرائيل، بينما أعلنت الحكومة الإسرائيلية، من جهتها، في أيار/ مايو عام 2019 عن موافقتها بدء المباحثات مع لبنان برعاية الولايات المتحدة "لحل النزاع الحدودي".
برغم محاولة الجانب الرسمي اللبناني التأكيد على أن الاتفاق يحافظ على مبادئ لبنان في عدائه لإسرائيل، إلا أن ذلك لم يحُل دون انطلاق موجة انتقادات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تسخر من الاتهامات العشوائية التي تُساق كل مرة بحق ناشطين بالتعامل مع إسرائيل ومن الحملات الإلكترونية التي تواجه بتهم العمالة كل نقد لـ"الثنائي الشيعي" و"العهد" (رئاسة الجمهورية)، في وقت يجلس الطرف اللبناني في القاعة نفسها مع الإسرائيلي لترسيم الحدود. وتم تداول تعليقات ساخرة حول تهديدات إزالة إسرائيل من الوجود، وشعارات "الموت لأمريكا"، في وقت يحضر الأمريكي كوسيط في المفاوضات باعتباره "طرفاً نزيهاً".
هذه الانتقادات ردّ عليها الجمهور المؤيد للثنائي بالقول إن الجانب اللبناني يذهب إلى التفاوض من منطلق قوة، متهماً المنتقدين بالترويج للتطبيع برفضهم لمفاوضات تأتي خارج دائرة التطبيع التي يرغبون بها. في المقابل، كان هناك طرف ثالث رحّب بالحلول الدبلوماسية وخيار الترسيم لكنه انتقد كيل السلطة بمكيالين في مقاربتها لمسألة العداء مع إسرائيل.
"حزب الله يتولى زمام القيادة"
أشار بيان صادر عن وزير الخارجية الأمريكي إلى أن "الاتفاق من شأنه أن يؤدي إلى مزيدٍ من الاستقرار والأمن والازدهار للمواطنين اللبنانيين والإسرائيليين على حد سواء"، لافتاً إلى "طلب كل من البلدين أن تشارك الولايات المتحدة كوسيطٍ وميسّر في المناقشات البحرية".
ونشرت وزارة الخارجية كذلك حواراً هاتفياً جرى بين صحافيين ومساعد وزير الخارجية لمكتب شؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر قال فيه: "الإعلان هو إطار عمل لبدء المناقشات، لكنه ليس الاتفاق الفعلي على ترسيم الحدود البحرية أو حول تقاسم الموارد المحتملة. سيكون ذلك موضوع المناقشات التي ستجري بين الجانبين"، مضيفاً "بناء على طلب الوزير بومبيو، سأقوم بتمثيل الولايات المتحدة في الجولة الأولى من المحادثات التي ستعقد في الأسبوع الثاني من تشرين الأول/أكتوبر في مقر الأمم المتحدة في الناقورة".
"المحادثات ستكون أول مفاوضات بين البلدين حول شؤون مدنية منذ 30 عاماً"... طَرَح إعلان التوصل لاتفاق بدء مفاوضات ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان برعاية أمريكية تساؤلات عدة حول توقيت الخطوة وأبعادها، في وقت اختلف الجانبان على توصيف شكل المفاوضات
وكان الجانب اللبناني قد قال إن المفاوضات ستتطرق أيضاً إلى الحدود البرية المتنازع عليها، لكن إسرائيل والولايات المتحدة ذكرتا الحدود البحرية فقط. وقال شينكر: "كانت هناك مناقشات حول الخط الأزرق سابقاً، ونحن نرحّب في هذه المرحلة بالخطوات التي اتخذها الطرفان لاستئناف المناقشات على مستوى الخبراء بشأن نقاط الخط الأزرق المتبقية التي لم يتم حلها بهدف الوصول أيضاً إلى الاتفاقات على ذلك. هذا مسار منفصل ومن الواضح أنه نقاش تقليدي بين الإسرائيليين واللبنانيين واليونيفيل".
وعندما سُئل شينكر عما إذا وافق حزب الله على المفاوضات أجاب بأنه "من يتولى زمام القيادة في هذه المسألة، وهذا كل ما علي قوله"، رافضاً في المقابل ما قيل عن تداخل العقوبات التي فرضتها أمريكا على مسؤولين لبنانيين وشخصيات على صلة بحزب الله مع مسألة التفاوض.
"وجهاً لوجه"
يتنازع لبنان وإسرائيل على نحو 860 كيلومتراً مربعاً (330 ميلاً مربعاً) من البحر الأبيض المتوسط ضمن مناطقهما الاقتصادية الخالصة، وتصاعدت مخاطر النزاع مع بدء إسرائيل وقبرص باستغلال الغاز البحري شرقي البحر المتوسط ، تاركين لبنان يبحث عن دفعة مماثلة بدت ملحة مع تفاقم أزمته الاقتصادية.
وعزّزت إسرائيل من اعتمادها على الغاز في الاقتصاد، حيث وقعت عقود تصدير مع الأردن ومصر بمليارات الدولارات، فيما لا تزال كمية الغاز في المنطقة البحرية اللبنانية غير واضحة رغم توقيع الحكومة عقود تنقيب مع شركات أجنبية.
من جهتها، قالت وزارة الطاقة الإسرائيلية إن المحادثات ستكون أول مفاوضات بين البلدين حول شؤون مدنية منذ 30 عاماً. وقال وزير الطاقة يوفال شتاينتس الذي يُفترض أن يرأس الوفد الإسرائيلي في المفاوضات المقبلة: "نأمل أن يكون لبنان عاصمة عالمية للغاز الطبيعي وأن يطور كل موارده الطبيعية"، مضيفاً "لا نريد أن نرى لبنان ينهار".
في المقابل، لم يتوقع وزير الطاقة الإسرائيلي أن تؤدي المحادثات إلى "خرق سريع" في القضايا الأخرى بين البلدين، معلقاً "لا أعتقد أن لبنان سيتحول إلى أبو ظبي بسبب هذا… ليس لدي أي أوهام"، كما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز".
كان لافتاً استخدام الصحافة الإسرائيلية تعبير "وجهاً لوجه" في المفاوضات، في مقابل حرص اللبنانيين على وصفها بمفاوضات "غير مباشرة".
وبحسب صحيفة "هآرتس"، شكر شتاينتس وزير الخارجية الإسرائيلي غابي آشكينازي وفريقه ورئيس مجلش الأمن القومي مئير بن شابات وفريق الذين "يراقبون مسار المفاوضات عن كثب".
أما آشكينازي فرحب، بدوره، بالخطوة، قائلاً إنها "أتت بعد ثلاث سنوات من التواصل الدبلوماسي" وإن "نجاحها يعني المزيد من الاستقرار للمنطقة".
وكان لافتاً استخدام الصحافة الإسرائيلية تعبير "وجهاً لوجه" في المفاوضات، في مقابل حرص اللبنانيين على وصفها بمفاوضات "غير مباشرة" وبأن الحديث مع الإسرائيليين سيكون عبر الوسيط الأمريكي. في حالة المفاوضات التي يُفترض البدء بها قريباً، فإن التعبيرين لا يجافيان الحقيقة، لكن كل طرف كان حريصاً على استخدام ما يلائمه من تلك "الحقيقة".
وقال أساف أوريون، وهو عميد إسرائيلي متقاعد شارك في محادثات ما بعد الحرب مع لبنان عام 2006، إنه عندما بدأت تلك الاجتماعات أثار اللبنانيون "ضجة" بشأن الجلوس في الغرفة نفسها مع الإسرائيليين، لكنهم استقروا بعد ذلك على فصل طاولات الإسرائيليين واللبنانيين بطاولة للأمم المتحدة.
عام 2012، قدّم الموفد الأمريكي هوف اقتراحاً لحل النزاع البحري مع إسرائيل عُرف بـ"خط هوف"، يعطي لبنان 500 كلم مربع وإسرائيل 360 كلم مربعاً من المساحة المتنازع عليها... رفض لبنان المقترح كما رفض مقترحات أخرى بعده. اليوم يعود إلى مفاوضات يقول مراقبون إنها ستكون مختلفة
وبما يخص المفاوضات الجديدة، علق أوريون بأنه "في البداية، رفض اللبنانيون التحدث مباشرة إلى الإسرائيليين، وأخبروا مسؤولي الأمم المتحدة بالرسالة التي يجب نقلها، حتى لو سمع الإسرائيليون اللبنانيين يتحدثون. في النهاية، بدأوا يتحدثون مع بعضهم البعض مباشرة".
وقال أوريون إن المحادثات الجديدة مهمة لأنها ستتجاوز القضايا الأمنية، معلقاً "هذه هي المرة الأولى التي نتجاوز فيها النطاق الضيق للقضايا العسكرية والأمنية والدفاعية وننتقل إلى نطاق أوسع من مناقشات الطاقة والحدود"، ومشيراً إلى إن الاتفاقية الناتجة قد تستبعد حتى المنشآت البحرية من الاستهداف في حالة الحرب.
مسار التفاوض السابق
في نيسان/ أبريل الماضي، أعلن لبنان أن التنقيب الأولي في المنطقة التي تعرف باسم "بلوك 4" أظهر آثاراً للغاز، لكن لا توجد احتياطيات مجدية تجارياً، فيما لم يبدأ باستكشاف منطقة أخرى هي بلوك 9، وهي الأكثر إثارة للجدل حيث تدعي إسرائيل ملكيتها لجزء منها.
سنوات عدة مضت على بدء مشاريع ترسيم الحدود البرية والبحرية بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، ومنذ عام 2000، وهو تاريخ ترسيم الخط الأزرق، بقيت 13 نقطة عالقة لا تزال إسرائيل تتجاوز فيها الحدود البرية، أما في ما يخص البحرية منها فقد رفض لبنان خططاً أمريكية عدة للترسيم البحري منذ عام 2008، يقول خبراء إنها أفقدته الـ860 كيلومتراً من المنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة.
وكان لبنان قد وقّع، عام 2007، مع قبرص اتفاقية حول تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. تمّ رسم تلك الحدود بخط وسط مؤلف من ست نقاط، بينما لم تُحسم إحداثيات النقطتين 1 و6، أي طرفي خط الحدود البحرية بين لبنان وقبرص، وتُرك الأمر إلى حين استكمال ترسيم الحدود من جهة الشمال مع سوريا، ومن جهة الجنوب مع إسرائيل.
في عام 2010، استغل العدو الإسرائيلي هذه الثغرة في الاتفاقية بين لبنان وقبرص، وبدلاً من ترسيم حدوده مع قبرص اعتباراً من النقطة 23، بدأ من النقطة 1 حتى النقطة 12.
وفي عام 2012، قدّمت الولايات المتحدة الأميركية عبر موفدها فريديريك هوف اقتراحاً لحل النزاع البحري مع إسرائيل، برسم خط عُرف بـ"خط هوف"، يعطي لبنان حوالي 500 كلم مربع، وإسرائيل حوالي 360 كلم مربعاً، من أصل المساحة المتنازع عليها. وكان هذا الخط يمتد من ثلاثة أميال من الشاطئ الى نقطة تقع بين النقطة 1 والنقطة 23.
بعد ذلك، ظهرت معطيات تشير إلى إمكانية حصول لبنان على مساحات إضافية تجنبه خسارة الـ360 كلم مربعاً المقترحة من الجانب الأمريكي، إلا أن الأخير اقترح أن يكون خط هوف خطاً مؤقتاً وليس حدوداً نهائية (يشبه مفهوم الخط الأزرق البري) سمّي الخط الأبيض، لكن الجانب اللبناني رفض ذلك خشية اعتبار الإسرائيلي المؤقت دائماً، كما تعامل مع الحدود البرية.
وفي العام الماضي، تدخل مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد لإحياء المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية، بعد توقف مهمتي الوسيطين الأمريكيين السابقين هوف ومن بعده آموس هولكشتاين. وفي أيار/ مايو 2019, قام ساترفيلد بجولة واسعة بين لبنان وإسرائيل لم تثمر بدورها عن إيجاد آلية نهائية للمفاوضات تلبي الشروط اللبنانية، لا سيما وأن مقاربته كانت شبيهة بتلك التي قدمها هوف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...