شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
تذكرة ذهاب دون عودة... كيف تحوّلت باريس من حلم مراهقتي إلى شقائي؟

تذكرة ذهاب دون عودة... كيف تحوّلت باريس من حلم مراهقتي إلى شقائي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 25 سبتمبر 202001:37 م

الرسالة البريدية الوحيدة التي وصلتني إلى دمشق كانت من باريس، من صديقة تكبرني بسبع سنوات. هي سافرت لتكمل دراستها الجامعية، وأنا كنت أعبر سنين المراهقة بحذر، وأحلم سراً بالهرب من بيتنا إلى أي مكان آخر.

بدأت أتخيل شكل باريس وأتخيل نفسي هناك، دون مشاهدة صور على الإنترنت أو خرائط غوغل، فلم يكن هناك إنترنت وقتها، وحدها الأفلام والمخيلة كانت مرجعي لبناء مدينة خيال، تتحقق فيها كل الأحلام وأعيش أخيراً كما أرغب دون قيود.

 مرت سنوات المراهقة وأنا أحيك أحلاماً عن سفري بعيداً، ودارت الأيام واشتعلت ثورة داخلي، وفي سوريا، وفي لحظة شعوري برغبة عارمة وحقيقية بالبقاء في هذا البلد والمشاركة في تحويله إلى وطن جميل، تراكمت الأحداث سريعاً لأهدد بالاعتقال، الموت أو الرحيل، فرحلت، ودارت بي البلدان والمدن لأجد نفسي على أرض واقع مدينة الخيال... باريس، لكن حين وصلتها كان قلبي قد تعلّق سهواً بدمشق. مدينة أحببتها حتى الدمعة الأخيرة فيها، وحتى آخر قبلة على باب حبيبها. جسدي في باريس وذهني في سوريا، مشغولة باستمرار بما يحدث، أتعلّق بأي خبر يبقي قلب الأمل بنجاح ثورتها وحريتها نابضاً.

لكن، حين تباطأ النبض مهدداً بخطورة موت الأمل، استسلمت لفكرة البقاء بعيداً عن سوريا في الأجل القريب، الذي لا يبدو مدى قربه واضحاً.

وعودة إلى الواقع، حصلت على أوراق اللجوء السياسي في فرنسا، كشهادة تأكيد أن في بلدي حرباً، وأن حلمي بالبقاء في مدينة الخيال قد تحقق، ولكن ليس كعابرة إلى الحرية كما حلمت في مراهقتي، وإنما كلاجئة.

هي بطاقة استقبال رسمية لدخول دوامة من الصدمات، بدأت باكتشافي لحقوقي وواجباتي، ليس كأي فرد في المجتمع بل "كلاجئة" تحديداً، فحين يتدمّر بلدك وتضطرين للرحيل حاملة معك كل الذكريات والألم والأمل، يعتبرك العالم نوعاً آخر من البشر، يطلقون على هذا النوع المنفي رأفة "لاجئين"، وعند توقيعك بالموافقة، تتنازلين عن جميع الحقوق الإنسانية الطبيعية وتدخلين برنامج اللجوء على مصراعيه: اندمجي، اعملي، احلمي بالمغادرة.

حصلت على أوراق اللجوء السياسي في فرنسا، كشهادة تأكيد أن في بلدي حرباً، وأن حلمي بالبقاء في مدينة الخيال قد تحقق، ولكن ليس كعابرة إلى الحرية كما حلمت في مراهقتي، وإنما كلاجئة.

الاندماج

 أولى خطوات المهاجر أو اللاجئ لبدء حياته الجديدة، حسب برنامج أغلب الدول الأوروبية، هو الاندماج، وتتضمن هذه الخطوة العديد من الواجبات التي تستغرق كل منها أشهر أو حتى سنوات: تعلم اللغة، التعرف على قوانين البلد الجديد، وثقافته ومجتمعه وتاريخه إلخ…

 لكن اندماجك لا يعني أنك فعلاً قد امتزجت بهذا المجتمع، حتى لو أتقنت لغته وبدأت بممارسة كل تحركاته بتفاصيلها اليومية، من عاداته الصباحية والمسائية، إلى الأحاديث السطحية التي تمرر بها وقت انتظارك في مؤسسة حكومية ما، إلى فهم البيروقراطية المتأصلة في كل ما تريد القيام به. والمضحك المبكي أن رسالة بريدية وحيدة وصلتني إلى دمشق من باريس، إلا أن باريس ومؤسساتها الخاصة والحكومية قد أغرقتني بالرسائل البريدية، لأضطر تعلّم كيفية كتابة رسالة، والتأكد من إرسالها إلى العنوان الصحيح.

بيروقراطية منهكة قد تدفعك إلى الاشتياق إلى الفساد الإداري في معظم الدول العربية، والرشوة التي تسرّع كل المعاملات الحكومية، أو الواسطة، وهي بالطبع موجودة في أوروبا إلا أنها على مستويات عالية يصعب على اللاجئ الوصول إليها. أما عن معايير المجتمع، فقد ظننت أنه من حقي الطبيعي ألا أوافق على كل معايير المجتمع الفرنسي، كما لم أوافق على كل معايير أي مجتمع آخر، لأواجه الصدمة الأولى، وهي محاولة هضم كل مواقف التنمّر التي أمر بها، لحظة معرفة الآخر أنني "لاجئة"، و طردي فوراً من طبقة الأوروبيين الحضاريين حين أقول: "أنا من سوريا"، فإذا استثنينا الفرنسيين الإنسانيين والمتعاطفين مع قضيتنا، نجد الكثير من المتذمرين، من العرب والمهاجرين بشكل عام، والراغبين بطرد كل الغرباء من بلادهم، والحجة للأسف هي تعميم صورة الإرهاب والوحشية والتخلف والسرقة على كل العرب والأفارقة، لتتحول كلمة عربي أو إفريقي إلى سبة وانتقاص، فكيف يمكنني الاندماج في مجتمع يرفضني أساساً؟

معك حق، أنا لاجئة أخرى في بلادكم الحرة... فكيف أجرؤ على طلب المغادرة بحرية؟

العمل

 بعد انتظار طويل، تحصلين على ورقة تبشرك بقدرتك أخيراً على الدخول في زحمة المجتمع العامل، لكن بالطبع عبر مجموعة قيود توضع على أي لاجئ، لضمان بقائه في صفوف الطبقة الثانية أو الثالثة من المجتمع، حتى يحصل على جنسية البلد المستضيف، أو ييأس ويعود إلى بلده.

ولكي أخفف من هول الصدمة و لا أحمّل هذا المجتمع الذي استقبلني عبئاً ثقيلاً، قررت العمل وتجنب الاتكال على المساعدات المالية التي تقدمها الحكومة الفرنسية من جيوب شعبها، رغم أنها لا تضمن إلا عدم الموت جوعاً، ولكن كبريائي منعني من قبولها، فبدأت بالبحث عن فرصة عمل يصعب العثور عليها في مهنتي، ما اضطرني أحياناً إلى العمل في مجالات أخرى، وإلقاء شهادتي وخبرتي في صندوق القمامة، وبراتب شهري بسيط جداً، لكنني مرغمة على قبول الحال إن أردت العيش بكرامة وتأمين حاجاتي الأساسية، كما أن الإقامة كلاجئ لا تعطيك الحق في العمل في أي بلد عدا بلد الإقامة، وهكذا أُجبرت على العيش بظروف قاهرة في باريس، التي تحولت من  حلمي في المراهقة إلى مدينة شقائي بعد اللجوء.

كلاجئة في فرنسا، توجّب عليّ تسليم جواز سفري السوري، وحصولي في المقابل على وثيقة سفر فرنسية لم يفهمها الكثير من موظفي المطارات المختلفة، وهكذا دخلت بجناحي المكسور قسراً والآخر طوعاً قفص اللجوء، وهل أستطيع المغادرة؟

السفر

كلاجئة في فرنسا، توجّب عليّ تسليم جواز سفري السوري، وحصولي في المقابل على وثيقة سفر فرنسية لم يفهمها الكثير من موظفي المطارات المختلفة، حتى الفرنسية منها، وهكذا دخلت بجناحي المكسور قسراً والآخر طوعاً قفص اللجوء، وهل أستطيع المغادرة؟

بالطبع يحق لي السفر، ولكن لا تحق لي الإقامة أو العمل في أي بلد آخر، ولن تستقبلني معظم البلدان بوثيقة سفر لاجئ لا تعترف بها أو تخاف من حامليها، ليتسع القفص ولكن يبقى قفصاً، فمثلاً الإمارات حيث تقيم عائلتي، لا تستقبل اللاجئين، ولن أتلقّى قبلة أمي الدافئة ولا حضن أبي الحنون، وتنتهي كل أحاديثنا الهاتفية بصلاة وأمنية: "الله يجمعنا عن قريب"، ولكن أين وكيف؟ لا نعرف. نحاول دائماً أن نبقي التفاؤل بيوم نتقابل فيه من جديد، حبيسة في بلد يدافع عن حقوق الإنسان ولا يعاملني بإنسانية. هي تذكرة ذهاب دون عودة، فكما قالت لي الموظفة الحكومية عندما جددت وثيقة السفر، وكان عليّ الانتظار مدة شهرين دون أي أوراق رسمية، فسألتها بكل براءة: هل يمكنني الحصول على ورقة تمكنني من مغادرة فرنسا إلى أن أحصل على وثيقة سفري؟ فأجابتني: أنت لاجئة أين تريدين الذهاب؟  

معك حق، أنا لاجئة أخرى في بلادكم الحرة... فكيف أجرؤ على طلب المغادرة بحرية؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image