تفاجأ الشاب محمد (21 عاماً) بدورية شرطة قوامها ستّة أفراد تعتدي عليه بالضرب المبرح وترديه أرضاً، صباح الثاني من أيلول/ سبتمبر، بينما كان يقف أمام الصراف الآلي لأحد البنوك في شمال قطاع غزة.
كان يريد سحب بعض المال اللازم لشراء احتياجات أسرته المكوّنة من عشرة أفراد، والتي تخضع كغيرها من سكان القطاع لحالة الحجر المنزلي وحظر التجوّل التي فرضتها الحكومة التابعة لحركة حماس منذ 24 آب/ أغسطس الماضي.
يقول الشاب لرصيف22: "الجهات الرسمية، وعبر منصاتها المختلفة، سمحت للناس بالخروج ضمن الحد المعقول لتلبية الاحتياجات الأساسية خلال فترة حظر التجوّل، وأنا لم أترك البيت للتنزه. خرجت لجلب الطعام وبعض اللوازم الأساسية لأسرتي، ولم يكن بحوزتي مال، فاضطررت للتوجه نحو الصراف الآلي حيث تفاجأت بالاعتداء الذي تسبب لي بجروح في جسدي وكدمات وصداع شديد في الرأس".
وأوضح أنّه حاول شرح سبب خروجه لأفراد الشرطة، لكنّهم لم يستمعوا له وزادوا في الاعتداء عليه أمام المارة الذين كان عددهم في الشوارع المجاورة وقت الحادثة بالعشرات، أيّ أنّه لم يكن وحده في الطريق.
الاعتداء على محمد لم يكن الوحيد الذي ارتكبته الشرطة وأجهزة الأمن الغزّية، فبحسب بيان صادر عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، تمّ "رصد عدة حالات لمواطنين، في محافظتي خانيونس وشمال غزة، اعتدت عليهم الشرطة بالضرب المبرح واعتقلت عدداً منهم، وقامت بحلق شعر وتعذيب بعضهم وهم في أماكن الاحتجاز، لعدم التزامهم بحظر التجوّل المفروض من قبل السلطات في غزة لمواجهة انتشار جائحة كورونا".
وتجيز المرجعيات القانونية لأجهزة الأمن استعمال العقوبة لفرض الإجراءات الاضطرارية والإجبارية على المواطنين، لكن في حدود معيّنة كي لا يؤدي تجاوزها إلى مشاكل مجتمعية، وتنحصر تلك الحدود بين الغرامة المالية والاعتقال، بحسب الباحث القانوني محمد أبو هاشم.
ويقول أبو هاشم إن "للشرطة التي لعبت حتى هذا الوقت دوراً جيداً في أزمة كورونا داخل غزة الحق الكامل في فرض حظر التجوّل، لكن ضمن القانون، ودون اعتداءات مباشرة، لأنّ هناك عدداً كبيراً من الطرق التي يمكن لأفراد الأمن استعمالها لفرض الإجراءات على الناس المنهكين أصلاً بفعل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشونها منذ عدّة سنوات".
وتجاوز عدد الإصابات بفيروس كورونا الألف في قطاع غزة، وتناشد وزارة الصحة باستمرار المواطنين بضرورة الالتزام بـ"إجراءات الوقاية من كورونا"، للحد من انتشار الفيروس، خاصة بين الأطفال وكبار السن، وتقول إنّها تعاني عجزاً كبيراً في المعدات والمستلزمات الطبية، بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع منذ نحو 14 عاماً.
وفي الخامس من أيلول/ سبتمبر، حذّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة، من تداعيات فيروس كورونا والحصار الإسرائيلي على الصحة النفسية للفلسطينيين في القطاع، وأوضحت في بيان أنّ هناك "أجواءً من الخوف والإحباط داخل القطاع يغذّيها حظر التجوّل للوقاية من كورونا، وارتفاع درجات الحرارة، وانقطاع التيار الكهربائي".
وأضافت أنّ "النظام الصحي في القطاع يعاني من نقص حاد في الإمكانيات، وهو ما يحول دون قدرته على التعامل مع تفشٍ وبائي ضخم"، وأن "ما يتوفر من أسرة وأجهزة تنفس صناعي في وحدات العناية المركزة لا يكفي إلا لعلاج عدد قليل من الحالات الحرجة".
دون مراعاة للظروف
المواطن ساهر (38 عاماً) يقطن في منطقة "الفالوجا"، شمال القطاع، روى لرصيف22 أيضاً قصة اعتداء تعرّض له. قال: "يوم الخميس الماضي، خرجت وقت الظهيرة تجاه أحد المحال التجارية لشراء بعض المواد الأساسية للبيت، وعند وصولي إلى أول حاجز شرطة، أخبرتهم بمقصدي، فسمح لي أحد الضبّاط بالمرور، وفي الطريق صادفتني دورية محمولة، فنزل أفرادها وأرادوا اعتقالي، وحين رفضت اعتدوا عليّ لفظياً".
"أخبرتهم أنّ الضابط الآخر هو مَن سمح لي بالمرور"، يروي، لكن ذلك لم يشفع له. اعتدوا عليه بالضرب المبرح، دون مراعاة لوضعه الصحي ولا حتّى للحالة العامّة المأساوية التي يعيشها الناس.
في مخيم جباليا، شمال القطاع كذلك، سُجّل عدد من الانتهاكات، لا سيما في الفترة التي شددت فيها الأجهزة الأمنية إجراءاتها بسبب ظهور إصابات جديدة بالفيروس.
يقول الشابّ إبراهيم (27 عاماً) الذي تعرّض لاعتداء مباشر بالهراوات هو ومجموعة من جيرانه، بينما كانوا يجلسون في أحد المناطق القريبة من بيتهم: "درجة الحرارة في غزة مرتفعة جداً، وبيوت المخيم ضيقة تشبه الأفران ولا يمكن أبداً تحمّل الجلوس فيها في ظل انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، هذا عدا عدم وجود مقومات الحياة الأساسية والمواد الغذائية".
"ضرب مبرح واعتقال وحلق شعر وتعذيب في أماكن الاحتجاز"... هكذا تتعامل حركة حماس مع منتهكي حظر التجوّل المفروض من قبل السلطات في غزة لمواجهة انتشار فيروس كورونا
وأوضح لرصيف22 أنّهم يلجأون إلى الشارع، "ليس لكسر قرارات الشرطة والجهات الصحية، بل لأنّنا لو بقينا داخل المنازل سنمرض من ظروفها السيئة".
أمّا عامل المياومة إبراهيم خليل (30 عاماً)، والذي اعتاد على العمل على سيارة أجرة خلال الفترة التي سبقت الأزمة وفرض حظر التجوّل، فقرر افتتاح "بسطة" صغيرة لبيع الخضار لسكان حيه الذي يقع في بلدة بيت لاهيا، ليتمكن من توفير قوت يوم أبنائه.
روى أنّه أمّن الخضار من المزارعين، وافتتح البسطة في الرابع من أيلول/ سبتمبر، لكنّه تفاجأ بعد ساعة بقدوم سيارة أمنية حملته إلى مركز الشرطة حيث احتُجز لساعات قبل أن يوقّع تعهداً بعدم افتتاح بسطته، على الرغم من وجود كثير من الباعة في المناطق الأخرى داخل محافظات القطاع، يعملون دون وجود قيود أمنية عليهم.
إبراهيم يؤكّد أنّه لا يستطيع في هذه الأيام الإيفاء بمتطلبات أطفاله الأربعة، وأنه لم تصله أيّ مساعدات من الجهات الحكومية أو الخاصة.
وتداول ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي من مناطق مختلفة داخل قطاع غزة عدداً من الصور والفيديوهات التي يظهر فيها أفراد الشرطة وهم يعتدون على المواطنين والبيوت، ويضربون بقوة شباباً وأطفالاً. ومن بين الحوادث اللافتة واحدة تعرّضت لها عائلة القصاص في مدينة خانيونس جنوب القطاع.
وظهر في أحد الفيديوهات أفراد أمن يضربون أبواب منازل تلك العائلة بقوة لاقتحامها، ويعتدون على الشباب والنساء، ثم بعد ذلك يتسلق رجال من الأمن الحائط، وينزلون داخل البيوت، ويعتقلون عدداً كبيراً من أفرادها. وصاحبت عملية اقتيادهم إلى سيارات الشرطة، اعتداءات جسدية ولفظية عليهم، إضافة إلى تهديدات متنوعة.
تفتيت للنسيج المجتمعي
يقول رئيس المعهد الفلسطيني للاتصال والتنمية فتحي صبّاح إنّه "لا يمكن بأيّ حال تبرير اعتداء الشرطة على المواطنين، فالقانون الفلسطيني واسع وفيه الكثير من البنود التي تعالج مخالفات المواطنين".
وأكد أنّه "لا يجوز مقابلة الانتهاك باعتداء، فالمواطن حسب وجهة نظر الشرطة، بخروجه من المنزل خلال فترة حظر التجوّل، ينتهك الإجراء الحكومي والقانون، ولكن ذلك يواجَه بالقانون وليس بالضرب والاعتداءات الجسدية واللفظية، لأنّ الشرطي مهمته ضبط القانون وليس خرقه".
مكافحة انتشار كورونا لا تبرّر انتهاك حقوق الإنسان... "اعتداء الشرطة في غزة على المواطنين وحطها من كرامتهم في الشوارع هو انتهاك للقانون الفلسطيني والمواثيق الدولية، ويؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، ويزيد من الفجوة الموجودة أصلاً بين الناس والسلطة الحاكمة"
وذكر صبّاح لرصيف22 أن "اعتداء الشرطة في غزة على المواطنين وحطها من كرامتهم في الشوارع، هو انتهاك للقانون الفلسطيني والمواثيق الدولية، ويؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، ويزيد من الفجوة الموجودة أصلاً بين الناس والسلطة الحاكمة".
وشرح أن أوضاع المواطنين في غزة، في ظل انقطاع التيار الكهربائي وتردي الأحوال الاقتصادية، قد تدفع بهم إلى الشوارع، وهذا الأمر يجب على الشرطة تفهمه، والتعامل معه بحكمة عالية، "لأنّ المواطنين في هذه الحالة، يخرجون مضطرين، ولو توفّرت لديهم سُبل الحياة الجيدة لكان التزامهم سيكون حديدياً"، منوّهاً إلى أنّ خروقات حظر التجوّل الحاصلة في غزة طفيفة، ولا تستوجب العنف، لأنّه يمكن السيطرة عليها بسهولة.
بالعودة إلى الباحث أبو هاشم الذي أكّد على أنّ "الضرب مرفوض بكلّ الأحوال، والاعتداء به على أي مواطن يدعو للقلق"، يشير إلى أن أسباب عنف الأجهزة الأمنية مع المواطنين خلال فترة حظر التجوّل تعود إلى ضعف إمكانيات الشرطة وقلة تدريبها على أساليب التعامل مع المواطنين والسيطرة على المتمردين منهم.
وقال: "تجد الشرطي يتعامل مع المواطن بلا إنسانية، وما يقوم به هو جزء من ثقافة المجتمع الفلسطيني العنيف"، مضيفاً أنّ أحد الأسباب أيضاً هو غياب المحاسبة وحالة الردع الحقيقية للمنتهكين والمتجاوزين.
"هناك تعامل دائم بهذه الطريقة (العنف والضرب) مع كل مَن يخالف الأوامر"، يقول أبو هاشم ويضيف أنه "على الرغم من وجود هيئات يمكن للمواطنين الرجوع إليها لتقديم شكوى ضد أفراد الأمن، إلّا أن ذلك لا يحقق شيئاً لأصحاب الحقوق، لأن عمل المؤسسات ضعيف، كما أنّه لا يوجد لدى المواطنين وعي كافٍ باللجوء إليها".
ويضيف: "لم أسمع في حياتي أنّ تلك الهيئات عاقبت شخصاً اعتدى على المواطنين، إلّا في حال تم التركيز على القضية كثيراً في الإعلام، وأقصى ما يمكن أن يعاقَب به المعتدي هو الاعتذار".
يذكّر أبو هاشم بالانقسام الفلسطيني الداخلي الذي وقع في صيف 2007، ويقول: "لو كانت السلطة الحاكمة منتخبة من الناس لأطاعوا أوامرها بلا أي تجاوزات"، مؤكداً أنّ الشرطة لا يجوز لها استخدام العنف إلّا للدفاع عن النفس، وبالقدر المحدود الذي يدفع الضرر.
انتقادات حقوقية
أدان المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان "أي تعسف في استخدام الصلاحيات الاستثنائية المخولة للسلطات في ظل هذه الحالة، وهو ما يسيء للجهود الجبارة التي تقوم بها الأجهزة المختصة في مواجهة تفشي الوباء"، كما أدان "بنفس الدرجة أي تجاوز من قبل المواطنين لإجراءات الوقاية من انتشار جائحة كورونا".
وشدّد على ضرورة "التزام الشرطة بالقانون في التعامل مع المخالفين، وتجنب التعسف في استخدام الصلاحيات التي تخولها حالة الطوارئ بما ينال من كرامة وحقوق المواطنين".
وأكّد المركز في بيان أصدره في الخامس من أيلول/ سبتمبر أنّ "هناك حقوقاً لا يجوز تقييدها بأي حال وفي أي وقت، وخاصة الحق في عدم التعرض للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والقاسية والحاطة بالكرامة، وفق ما أكدته المادة (4) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966".
وبيّن أنّ "آخر الحالات التي وثّقها هي الاعتداء على المواطن محمود بربخ (30 عاماً) بالضرب المبرح، في محافظة خان يونس أثناء عودته من السوق، والاعتداء على مواطنين من عائلة عبد الباري، في جباليا، أثناء عملهم في السوبرماركت الخاص بهم، ووقعت كلتا الحادثتين بتاريخ 3 أيلول/ سبتمبر 2020".
وشدّد البيان على أن "استخدام الضرب ضد المواطنين في الشوارع وأماكن الاحتجاز وحلاقة الشعر تعتبر من ضمن التعذيب والمعاملة اللاإنسانية والحاطة بالكرامة المجرّمة بالقانون الدولي والمحلي في كل الأحوال، بما فيها حالة الطوارئ".
وطالب "النيابة العامة بالعمل على مراقبة مدى التزام الجهات التنفيذية بحدود الصلاحيات المخولة في حالة الطوارئ، وتوجيه الجهات المختصة بضمان التزام أفراد الشرطة باحترام القانون والكرامة الإنسانية في التعامل مع المواطنين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...