لا تشبه العلاقات العاطفية التي نعيشها على أرض الواقع بالضرورة قصص الأفلام التي نراها في الأفلام أو نختلس النظر إليها عبر صفحات الكتب والروايات، ولا تكون النهايات دائماً مرضية كما يحدث في العالم الافتراضي، والذي غالباً ما نشهد فيه انتصار الحب الذي يتكلل بالزواج وتأسيس عائلة سعيدة، فتنهمر دموعنا فرحاً عندما نعلم أن البطلين تمكنا من تحدي جميع الصعوبات وتجاوز العوائق، وذلك لكي ينعما بحياة سعيدة معاً.
أما في الواقع، فقد تتحول بعض العلاقات العاطفية إلى "ساحة قتال" بين طرفين يحاول كل واحد منهما تغيير الآخر، وذلك كي يكون مجرد نسخة مطابقة له، ومع ذلك نرى في الكثير من الأحيان طرفاً يرفض بشكل قاطع إنهاء العلاقة مع الحبيب/ة أو حتى الاعتراف بفشلها، فيحارب حتى الرمق الأخير من أجل إعادة كسب قلب الآخر، يقدم التنازلات تلو التنازلات ويحاول في كل مرة إصلاح ما لا يمكن إصلاحه، وكل ذلك من أجل الحفاظ على علاقة "أصبحت في خبر كان".
لماذا يجد البعض صعوبة في الانفصال عن الآخر وقول كلمة "وداعاً"، من دون أن يكون هناك ألم ولوعة و"دراما"؟ ولماذا يسعى البعض بشتى الطرق لإنعاش علاقة ولدت ميتة؟
قرار الفراق
عندما نقع في الحب، نعتقد غالباً أن العلاقة بيننا وبين الشريك/ة ستستمر إلى الأبد. نأمل أن يكون هذا هو الشخص الذي سنشيخ معه، ونظن أن حبنا قوي لدرجة أنه ما من شيء قادر على التفريق بيننا، غير أننا سرعان ما نكتشف أن علاقتنا مليئة بالمطبات والأشواك، فيفكر أحدنا في كيفية وضع حدّ لهذه العلاقة.
من أكثر التجارب التي يخشى منها الكثير من الناس هي الاضطرار لإنهاء العلاقة العاطفية، بحيث غالباً ما يكون هذا القرار صعباً، سواء كان ذلك للشريك/ة الذي يقرر إنهاء العلاقة أو للطرف الآخر الذي يتلقى هذه "الصدمة".
لماذا يجد البعض صعوبة في الانفصال عن الآخر وقول كلمة "وداعاً"، من دون أن يكون هناك ألم ولوعة و"دراما"؟
وفي حين يعتقد البعض أن إنهاء علاقة عاطفية هو أمر سهل ولا يحتاج سوى لبضع كلمات يتم تردادها أحياناً بشكل "أوتوماتيكي"، كأن يقول أحدهما للآخر: "أنت تستاهل كل خير. أنا لا أناسبك. حياتك مع غيري ستكون أفضل بالنسبة إليك..."، فالحقيقة أن قرار الفراق ليست مهمة سهلة، بل قد يترتب عليه آثاراً نفسية على كلا الطرفين.
في هذا الصدد، أكد الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، أن الانفصال بحد ذاته أمر صعب، ويشبه إلى حدّ كبير الموت وألم فقدان شخص مقرب: "هناك حالة فقدان معينة يعيشها الشخص مع الانفصال، وحزن كبير قد يكون مشابهاً على الصعيد النفسي لحالة الفقدان التي نشعر بها عند موت شخص قريب"، مضيفاً: "الانفصال يعني أن هناك شخصاً نفقده ولو كان لا يزال على قيد الحياة، مع كل ما يحمله الفقدان من مشاعر مؤلمة، مثل الخسارة، التعود، التعلق، الاعتمادية، الوحدة والإحساس بأننا سنكون وحيدين في هذا العالم، من دون شريك/ة".
وتحدث رستم لموقع رصيف22 عن مرارة الانفصال والمراحل المختلفة التي قد نمر بها، من الغضب والإنكار ولوم الذات والاكتئاب: "هيدي الصعوبة كلها بتيجي بسبب هيدا الإحساس، إنو عم نفقد حدا قريب"، وفق قوله.
وكشف هاني أن البنية النفسية والتجارب الشخصية كلها أمور تلعب دوراً في تحديد مفهوم المرء للعلاقة، كيفية الشفاء من العلاقات السامة أو التمسك بها وعدم الرغبة في التخلي عن الطرف الآخر، حتى ولو كان ذلك يعني الخضوع للابتزاز العاطفي أو للشخص النرجسي الذي يدمر الآخر، وفي الوقت نفسه يجعله يتعلق به عاطفياً بشكل مرضي.
أوضح رستم أن تصرفات الفرد وردة فعله على مسألة الانفصال كلها تكون نابعة من بنيته النفسية: "إذا أنا بحس بالذنب وكتير عاطفي، فبصير بلوم حالي وبكون صعبة عليي إني أترك، لأنو عندي إحساس بالذنب تجاه الآخر، إذ أنا نرجسي أو عنيد بصير بحس إنو بدي كسر الشخص الآخر قبل ما أتركه...".
هذا وشدد هاني على أهمية أن يحدث الانفصال بشكل هادىء بين الطرفين: "لازم يكونوا عم بيحكوا بالموضوع ويتفاهموا ويتفقوا، إنو هيدي العلاقة هي عبارة عن علاقة ثنائية موجود فيها شخصين بيتحملوا القرار بالتساوي مع بعض، ويكون في حقوق عم بياخدوها، حتى ولو كان حق معنوي على شكل اعتذار أو رد اعتبار، وما يعاقبوا حالن على صعيد فردي، يعني ما حدا يحس إنو هوي مذنب بالانفصال، هالشي طبيعي بيصير دايماً بالعلاقة".
وفي نهاية حديثه، نوّه رستم بأنه من المهم تسليط الضوء على كافة العلاقات العاطفية الموجودة في المجتمع: "المجتمع يتكون من الـ heterosexual (متباين الجنس) الـ bisexual )ثنائي الجنس) الـ homosexual (مثلي الجنس) ومختلف الهويات الجندرية، وبالتالي من المهم تسليط الضوء على هذه الفئات جميعها، لأننا في نهاية المطاف نتحدث عن أشخاص، باختلاف توجهاتهم/نّ وميولهم/نّ وهوياتهم/نّ الجنسية، يعانون بنفس القدر على صعيد المشاعر والصحة النفسية".
محنة حقيقية
في حين يسعى البعض للانفصال على الفور، عندما يجدون أنفسهم في علاقة لم تعد تسعدهم وتجلب لهم المشاكل والمتاعب، فإن قرار الانفصال بالنسبة للآخرين ما هو إلا محنة حقيقية، وذلك لعدة اعتبارات من بينها:
نكران الذات: بشكل عام، نحن لا نريد أن نؤذي شركاءنا ونهتم بما يريدون، وقد نضطر للبقاء في علاقة عاطفية حتى ولو كان ذلك على حساب سعادتنا الشخصية.
يقول الكثير من الناس إنه من الصعب عليهم إنهاء العلاقة، على الرغم من أنهم ليسوا سعداء ولا يشعرون بأن هناك "كيمياء" بينهم وبين الشريك/ة، ومع ذلك، لا يبدون قادرين على تجاوز الأمر ببساطة والانفصال دون "دراما"، وذلك لأنهم يخشون إيذاء الطرف الآخر.
في هذا الصدد، كشفت دراسة نشرت في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، أن السبب وراء تأجيل الكثير منّا لقرار الانفصال ليس نابعاً من الأنانية، بل على العكس، قد يكون وليد نكران الذات.
في التجربة الأولى، تم تعقب العلاقات الرومانسية لـ 1348 مشتركاً/مشتركة على مدار 10 أسابيع، وفي التجربة الثانية، تمت متابعة 500 مشترك/ة يفكرون في الانفصال خلال فترة شهرين. في كلتا الحالتين، وجد الباحثون أن مدى احتمالية إفصاح شخص ما عن رغبته في الانفصال، يعتمد إلى حد كبير على مقدار الألم الذي يشعر بأنه قد يسببه للشخص الآخر.
بمعنى آخر، عندما فكر هؤلاء بأن قرارهم بالانفصال سيجعل الشريك/ة يعاني ويتألم، فإنهم وجدوا أنفسهم غير قادرين على اتخاذ هذه الخطوة، وعدلوا عن رأيهم، أي أن مجرد التفكير بأنهم "مسؤولون" عن معاناة الآخر هو أمر يشلّهم ويمنعهم من اتخاذ أي خطوة.
الشفقة وتجنب الأذى: كم من الأفراد يبقون مع شركائهم بدافع الشفقة والخوف من إيذائهم؟
والواقع، إن معرفة كيفية التعامل مع مسألة الانفصال هو أمر أساسي لجعل هذه الخطوة غير مؤلمة قدر الإمكان.
بالطبع قد يكون من الجيد إعطاء العلاقة فرصة لمعرفة ما إذا كانت الأمور قد تشهد تحسناً في الفترة المقبلة، ولكن عندما يقول شريككم مراراً وتكراراً إنه لم يعد يرغب في البقاء معكم، فلماذا العناد والتمسك بفكرة البقاء مع شخص لا يريد أن يكون معكم؟
التعلق المرضي: عندما يرفض الشريك/ة إنهاء العلاقة رغم استحالتها، فقد يكون هذا أحد أعراض الارتباط غير الصحي أو التعلق المرضي، والذي يكون في الغالب نابعاً من إقدام المرء على وضع سعادته بين يدي شريكه، وبالتالي فإنه سيشعر بالإحباط إذا قرر الآخر إنهاء علاقته به، غافلاً أن السعادة تعتمد عليه وحده دون سواه.
كيف ننفصل عن الآخر بسلاسة؟
في بعض الأحيان، قد تنجح المحاولات الحثيثة التي يبذلها المرء من أجل الحفاظ على العلاقة، ولكن عندما يقرر أحد الطرفين بشكل نهائي وقاطع الابتعاد والانفصال، معرباً ببساطة عدم رغبته في البقاء في العلاقة، فهذا يعني بأنه يجب على الطرف الآخر أن يتقبل الموضوع ويتعلم كيفية المضي قدماً في حياته.
والواقع أنه لا توجد طريقة "صحيحة" أو "أفضل" للانفصال، فكل علاقة مختلفة وكل شخص له سماته الشخصية وطبعه الخاص، ومع ذلك تحدث موقع verywell mind عن بعض النقاط التي من شأنها جعل الانفصال العاطفي أكثر سلاسة، بخاصة في حال كنتم من يبادر لإنهاء العلاقة:
الاعتراف بالألم: لا يوجد انفصال من دون ألم أو أذى، وبمجرد أن يعترف المرء بذلك، يمكن الاستعداد أكثر لهذه الخطوة.
التحدث وجهاً لوجه: إذا سبق وأن تعرضتم للإقصاء والرفض عن طريق الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني، فهذا يعني أنكم تعرفون جيداً ما معنى ألا يكلف الآخر نفسه عناء إخباركم شخصياً بمشاعره تجاهكم. لماذا تفعلون الشيء نفسه مع الحبيب/ة؟ إن الشريك/ة يستحق المصارحة وجهاً لوجه.
"هناك حالة فقدان معينة يعيشها الشخص مع الانفصال، وحزن كبير قد يكون مشابهاً على الصعيد النفسي لحالة الفقدان التي نشعر بها عند موت شخص قريب"
الصراحة من دون إعطاء الكثير من التفاصيل: كونوا صريحين ولكن لا تدخلوا في الكثير من التفاصيل. بشكل عام، يريد الطرف الآخر معرفة سبب الانفصال، وفي حين أن عبارة "أنت/ي مروع/ة في السرير" أو "تفتقر إلى الطموح" قد تبدو كإجابات صادقة وشفافة، إلا أنها تجرح شريككم. بإمكانكم استخدام جمل انعكاسية مثل "لا أشعر بأننا متوافقين" أو "لا أعتقد أن أهدافنا طويلة المدى تتوافق بعد الآن" للتعبير عن مشاعركم. حاولوا الابتعاد عن استخدام الكليشيهات مثل "لست أنت السبب، إنما أنا".
تجنب "شيطنة" الآخر: لا أحد كامل وكلنا لدينا أخطاء وعيوب، وعليه، فإن تحويل الشريك/ة إلى شخصية شريرة هو أمر غير مفيد على الإطلاق، بل يجب علينا أن ننظر إلى أنفسنا ونحاول فهم مشاعرنا الخاصة، بمعزل عما قام به الآخر معنا.
منح الوقت للحزن: حتى ولو كنتم من قرر الانفصال، فلا شك أنكم ستمرون بفترة من الحزن والألم وستحتاجون للتكيف مع وضعكم الجديد، من هنا من الأفضل أن تحيطوا أنفسكم بأشخاص تحبونهم، وأن تفعلوا الأشياء التي تدخل إلى قلوبكم الفرح والسعادة، هذا وتذكروا أن البكاء والشعور بالحزن هو أمر طبيعي خلال هذه المرحلة.
بغض النظر عن مدى اليأس الذي تشعرون به، يجب ألا تجبروا أنفسكم ولا ترغموا أحداً على البقاء في علاقة عاطفية لا تجلب لكما السعادة، لا أحد ملك لكم ولستم ملك أحد. نحن في الواقع خلقنا أحراراً، وكما ننخرط بعلاقة عاطفية بحرية، يجب أن نكون قادرين على الانفصال من العلاقة بنفس مقدار الحرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...