شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الكابويرا... خفة الجسد بمواجهة ثقل العالم

الكابويرا... خفة الجسد بمواجهة ثقل العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 12 ديسمبر 201903:33 م

الوزن: 78كغ

الطول: 188 سم

السلاح المفضل: القدمين

النمط القتالي: كابويرا

الجملة المفضلة: "ó pai ó".

ولد إدي في عائلة غنية من البرازيل، كان يعلم منذ صغره أنه يوماً ما سيتولى إدارة أعمال العائلة، كان محبوباً في مسقط رأسه، إذ عامل جميع الناس على قدم المساواة. في أحد الأيام عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، وأثناء عودته إلى المنزل من المدرسة، شاهد والده يتعرض لإطلاق النار.

كان والد إدي يحاول الإطاحة بعصابة خطرة، ما إن تيقنت من أن لديه أدلة كافية لإلقاء القبض على أفرادها، حتى قاموا باغتياله، لكن وأثناء لفظه لأنفاسه الأخيرة، قال لابنه إدي: "الآن ليس وقت القتال، اعترف بالجريمة كذباً واختبئ في السجن. هناك فقط ستكون آمناً".

حقق إدي رغبة والده الأخيرة، وانتقل الطالب النموذجي من حياة ترف إلى حياة السجن بتهمة القتل، كان الأمر أشبه بالجحيم بالنسبة له، وبقي هاجسه طوال الوقت هو الانتقام من قتلة والده، وفي أحد الأيام أثناء أعمال شغب في السجن، رأى إدي رجلاً عجوزاً يقاتل بأسلوب يُسمّى كابويرا، على مدى السنوات الثماني التالية، أتقن إيدي الكابويرا، وأصبح مستعداً للبحث عن القتلة والانتقام لوالده.

الحكاية السابقة ابتكرها مطورو لعبة الفيديو Tekken الشهيرة، لتكون تاريخاً لشخصية إيدي كودو، راقص الكابويرا. بصورة أدق، اللعبة القتالية الراقصة المشروطة بالموسيقى، وفيها يتنافس مقاتلان وسط جوقة من الناس الذين يصفقون ويغنون، بسبب استخدام المقاتلين تقنيات أكروباتية لمهاجمة الخصم والدفاع عن النفس، كما يمكن ممارسة الكابويرا بشكل فردي، وفي كلا الحالتين يضبط الرقصات إيقاع أنغام آلة بسيطة جداً تدعى البيرينباو، مؤلفة من قوس مصنوع من قصب البامبو غالباً وسلك فولاذي متصل بنهايات القوس، وفي إحدى نهايات القوس يوجد الرأس المصنوع من القرع.

ولدت الكابويرا من رحم إحدى أكثر القصص إيلاماً في تاريخ البشرية فهي فن قتالي ممزوج بحركات راقصة من أصل إفريقي، إذ ولدت من الحاجة إلى الدفاع عن النفس ضد الاعتداءات المتكررة من ذوي البشرة البيضاء على العبيد الأفارقة

عندما نشاهد حلقة كابويرا تبدو لنا كعرض مسرحي غنائي راقص أكثر منه فن قتالي، فالكابويرا لا تعتمد على العنف بل على الخفة، الانسيابية، سرعة البديهة والانسجام مع الخصم في أخذه وردّه، فتبدو كسؤال وجواب بين روحي المقاتلين

العجوز الذي قابله أيدي في السجن، يمتلك أصلاً حقيقياً في الواقع، وهو ما يعرف باسم "الميستري" أو المعلم، وعادة هو الأكثر خبرة في ممارسة هذه الرياضية، كما أنه معلم روحي وأخلاقي، ولفهم أصل التسمية أكثر التقينا مع الميستري بوب، واحد من أقدم معلمي "الكابويرا" في جزيرة فلوريانوبوليس في جنوب البرازيل، الذي صرّح لرصيف22: "كابويرا كلمة بلغة (توبي-جواراني) وهي لغة السكان الأصليين للبرازيل، ولها معنيين: الأول هو (حشائش الأدغال المقطوعة) ويأتي ذلك من أن العبيد كانوا يهربون إلى الأدغال من أسيادهم مستخدمين تقنيات هذا الفن القتالي، إذ كانوا يشكلون مجموعات تحولت إلى مجتمعات تدعى بالكيلومبوس، التي كانت خارجة تماماً عن سيطرة السلطة البرتغالية، أما المعنى الثاني فهو: (قن الدجاج)، المكان الذي مكث الكثير من العبيد فيه أثناء فترة عبوديتهم"، يذكر لنا بوب أثناء حديثنا معه أغنية "الكابويرا" وهي:

"ما هذه السفينة التي وصلت الآن؟

إنها سفينة الرقيق

لم يفقدوا إيمانهم

خلقوا السامبا والكابويرا والكندومبليه

ما هذه السفينة التي وصلت الآن؟

إنها سفينة الرقيق من أنجولا

مقيدون بالسلاسل

في قبضة السفينة".

الصور 1 و2 و3 للمعلم بوب

التاريخ الدموي للكابويرا

ولدت الكابويرا من رحم إحدى أكثر القصص إيلاماً في تاريخ البشرية، لكن لا يمكننا البت في أي قرن تماماً كانت نقطة انطلاقها، لكن بعض المراجع تشير أنها بدأت في القرن السادس عشر أو السابع عشر، إلا أنها قطعاً ولدت مع قدوم العبيد من أنجولا إلى البرازيل، اللتين كانتا مستعمرتين برتغاليّتين آنذاك، وظهرت حينها كحالات فردية في بعض المناطق ثم أخذت بالتطور.

يقول الاعتقاد السائد إن الكابويرا كانت عبارة عن رقصة إفريقية جلبها معهم الأنجوليون جاهزة، لكنها حقيقة فن قتالي ممزوج بحركات راقصة من أصل إفريقي، إذ ولدت من الحاجة إلى الدفاع عن النفس ضد الاعتداءات المتكررة من ذوي البشرة البيضاء على العبيد الأفارقة، إلى جانب كونها محاولة لبعث الهوية المغتصبة، إذ كانت الحاجة ملحة لخلق قاسم مشترك يوحد صفوف العبيد، يحافظ على جزء من ثقافتهم الأم و ينقلها عبر الزمن، ويقول ميستري بوب: "كان التعبير عن الثقافة الإفريقية جرماً، ولم يقتصر ذلك على "الكابويرا"، وحتى قبل العبودية كانت النظرة الدونية إلى الإنسان ذي البشرة السوداء مهيمنة، وإثر ذلك تطورت هذه النظرة إلى العبودية ومنها إلى العنصرية التي تمتد إلى يومنا هذا كاستمرارية لمعتقد خاطئ أسس منذ زمن غابر".

لم تظهر الكابويرا بشكل فعلي في الثقافة البرازيلية إلا بداية العام 1930، وحتى ذلك التاريخ كانت جرماً يعاقب عليه بالسجن لمدة سنتين ونصف. إلا أن انتشارها في الثقافة الشعبية لم يكن محض صدفة، إذ قام الميستري الشهير "بيمبا" بتطوير تقنيات جديدة للعب الكابويرا تختلف عن المدرسة الأنجولية الأم، وبموافقة الرئيس البرازيلي جوليتو فارغاس الذي شجع في ذاك العام الفنون الشعبية، وتمسك بالهوية الثقافية البرازيلية والإفرو-برازيلية، ما أكسب الكابويرا قيمة جديدة في المجتمع.

الفرق الواضح بين مدرسة أنجولا وتلك التي أسسها "بيميا" وطورها من بعده "باستشينيا" وغيره، هو أن كابويرا أنجولا، وهي الأقدم، أبطئ، وذلك لعدم إظهار أي شكل من أشكال العنف أو التنافس المحظور بين العبيد بموجب القانون، فالنقلات سلسة والضربات قريبة من الأرض، بعكس تلك "الجديدة"، السريعة ذات الضربات الجافة والإيقاع السريع.

يرى الميستري بوب أنه لا يمكننا تحديد متى وكيف بدأت الكابويرا بالتحول من قتال للدفاع عن النفس إلى كابويرا أنجولا ثم إلى إقليمية بيمبا، وصولاً للنمط المعاصر المستخدم بكثرة اليوم، فمثلاً نحن لا نعرف متى أضيف "البيريمباو" إلى هذا الفن القتالي. ويضيف: "الكابويرا هي ثورة الطبيعة ضد الظلم وعدم المساواة عبرنا نحن البشر، هدف الكابويرا يخلقه ممارسها بحسب حاجته وظروفه المحيطة التي تفرض عليه أن يثور بشكل ما، هي تستجيب لصرخة الطبيعة المتألمة لما يجري، وعبر ممارس الكابويرا تنبثق هذه الثورة وتبعاً لذلك لا يمكننا تأطير الكابويرا، فهنالك تقنيات عديدة لكن كل منا يستطيع أن يضيف إليها شيئاً جديداً نابعاً من ثورته الخاصة".

الكابويرا في سوريا

عام 2006 جاء إلى دمشق من ألمانيا الكابويريستا طارق الصالح، والتقى "بولو دو جاتو"-اسم وهمي- والذي كان مهتماً بالكابويرا وممارساً لها كونه لاعب جمباز وراقص، ولأنها تحمل "سحراً غريباً لطالما شده إليها". أسس طارق لمشروعه "بدنا كابويرا" والذي يدعى اليوم "capoeira for refugees" لتعليم الكابويرا مجاناً للاجئين العراقيين والفلسطينيين ومدارس الأحداث وغيرها، بمساعدة عشرين شاباً وفتاة، من بينهم أخوة "بولو دو جاتو"، وفي عام 2013 وبسبب تواجد بولو في مدينة الرقة حيث المدارس متوقفة عن العمل، عاد لتدريب الكابويرا وتلقى الدعم من منظمات ومنها منظمة "بدنا كابويرا" لتأمين مكان وجمع الأطفال للقيام بالنشاط.

يقول دو جاتو في وصف تلك المرحلة: "تفاجأت بإقبال الأطفال لتعلم الكابويرا، فقد وصلت أعداد المتدربين أحياناً لثمانين متدرباً ومتدربة، مجتمعين على حب هذا الفن، وبدورها الكابويرا غيرت الكثير وقدمت لنا جميعاً سبباً ودافعاً جديداً للحياة حينها".

بعد دخول داعش إلى الرقة كان من الصعب على بولو دو جاتو أن يكمل مشروعه بعد استفسارات عديدة من قبل تنظيم الدولة عن "الشاب الذي يعلم الأطفال أغاني مسيحية"، لكن مساعديه أكملوا لسنة أخرى داخل أحد المنازل. وبعد انقطاع دام عدة سنوات، عادت الكابويرا منذ شهر تقريباً إلى إحدى المخيمات بمساعدة بولو دو جاتو، من خلال دروس يقدمها عن طريق الإنترنت لمساعديه وطلابه في الرقة. لتثور الكابويرا مرة أخرى على الواقع المر. ويضيف دو جاتو: "لم تساعد الكابويرا الاطفال والشبان داخل سوريا فقط، ففي كل مكان جديد كنت أحمل الكابويرا معي لتجمعني بالقلة من ممارسيها، وتخفف عنا وطئة غربتنا. لقد أثبتت أنها حركة ثورية، وكانت بالفعل جزءاً لا يتجزأ من الثورة السورية، غيرت حياة الكثيرين وأنستنا همومنا".



سألنا الميستري بوب ذا السادسة والستين عاماً، عن رأيه بتجربة الكابويرا في سوريا وخصوصاً في الرقة، فأجاب: "على الكابويرا دائماً أن تعبر الطرق المظلمة، ولا مكان لها في الأوساط البرجوازية، وإن وجدت فيها فهي لأغراض مادية بحتة. حتى في البرازيل، تمارس غالباً في أكثر المناطق فقراً وأكثرها حاجة لهذا الفن الذي يعتبره بدوره سلاحاً روحانياً وليس مادياً. فإذا لم نستطع التكلم والتعبير عن هول ما يحدث، فأجسادنا تستطيع!

ومن هنا تأتي أهمية الكابويرا في سوريا، فالميستري الذي يلمس جوهر هذا الفن يعلم تماماً كيف يحصِّن أرواح تلاميذه من الشرور المحيطة بهم في مناطق الحروب والأزمات"، الأهم أننا عندما نشاهد حلقة كابويرا تبدو لنا كعرض مسرحي غنائي راقص أكثر منه فن قتالي، فالكابويرا لا تعتمد على العنف بل على الخفة، الانسيابية، سرعة البديهة والانسجام مع الخصم في أخذه وردّه، فتبدو كسؤال وجواب بين روحي المقاتلين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image