شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بائع الفريسكا وسيدة القطار... لماذا يغضب البعض من نجاح الصدفة؟

بائع الفريسكا وسيدة القطار... لماذا يغضب البعض من نجاح الصدفة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 15 سبتمبر 202002:33 م

يقول الكاتب الأفغاني خالد حسيني: "الحقيقة أننا جميعاً ننتظر، ننتظر رغم ضآلة الاحتمالات، ننتظر حدوث شيء استثنائي يقلب حياتنا"، شخصياً تنطبق تلك المقولة على بضع سنتيمترات داخل عقلي، بعيداً عن باقي المساحات الواقعية الشاسعة فيه.

وأظن أن جميعنا كذلك أيضاً، نحلم بحل سحري يُنهي معاناة ما تشغل بالنا، نشاهد فيلماً أو مسلسلاً تُغير الصدفة الحسنة مجريات أحداثه، فنتمنى لو أن نفس المؤلف كان مسؤولاً عن كتابة مسار حياتنا: قريب مجهول نرث منه ثروة أو اكتشاف ضخم نجده تحت أرجلنا فيعلي من قدرنا، هكذا ببساطة، وبلا كل تلك التعقيدات التي بنينا على أساسها خطتنا الأولى الأصلية، الكدّ والتعب والكفاح والسقوط ومواصلة النهوض، هذه هي الخطة الأصلية، أما الخطة البديلة المنتظرة فهي ضربة حظ أو ضغطة زر كاميرا.

في مصر، بين الفترة والأخرى، لابد وأن يبتسم الحظ لأحدهم، فقط لأنه كان صيداً لكاميرا جوال، لقطة واحدة في العمر تحوز على ملايين المشاهدات تكفي لتُصبح الخطة المنتظرة، تكرر ذلك وسوف يتكرر، وفي كل مرة يشعر البعض بالسعادة والبعض الآخر بالغضب، أما السعادة فربما مصدرها الأمل بأن تلك الأشياء الاستثنائية التي تحدث عنها خالد حسيني حقيقية بالفعل، والغضب فقد يكون مصدره إما الشعور بالظلم وهشاشة الميزان الذي يوازن كفتي الاجتهاد والصدفة، أو لأن هذا الغاضب مر بنفس تجربة هذا المحظوظ، ولكن لم تلتقطه الكاميرات فبقي في سبيل كفاحه.

قصص نجاح بلا خطة

ثلاث قصص ألقت علينا بظلالها في أقل من شهر، جعلت الأمل يزداد وكذلك الغضب، أولها بائع متجول يكسب لقمة عيشه من التجارة في فاكهة التين الشوكي، اختار منطقة التجمع، إحدى المناطق الراقية في القاهرة، والبعض يقول إن اختياره لم يكن موفقاً، ذلك بعد انتشار مقطع فيديو لسيدة تصر على إفساد بضاعته رغبة منها بأن يرحل عن المنطقة، اتضح فيما بعد أنها موظفة بجهاز القاهرة الجديدة، وتم نقلها بعد الواقعة لتعسفها في تنفيذ الإزالة والسلوك غير القانوني الذي اتبعته.

ما إن مضت ساعات قليلة على انتشار المشهد، حتى أصبح عزت الزاهي، بائع التين الشوكي، مثار حديث الجميع تقريباً، من تصريحات صحفية إلى مداخلات تليفزيونية، أظهر في واحدة منها رغبته بالعمل داخل نادي الزمالك، لعشقه الكبير للنادي منذ أمد بعيد ولو أُسنِدت إليه أعمال النظافة، ولم يمر الكثير من الوقت حتى تحققت رغبته، بعد إعلان رئيس نادي الزمالك تعيين الزاهي داخل النادي بالفعل، بنفس مهنته كبائع تين شوكي، دون أي تكاليف تخص إيجار مساحة الأرض التي سيحتلها، ولعل الجميع يعلم أن بيع مثل تلك الفاكهة داخل ناد يرتاده آلاف المواطنين يومياً أفضل بكثير من أي مكان آخر، عوضاً عن تمكن الزاهي من العمل داخل جدران معشوقه الزمالك.

أظن أن جميعنا يحلم بحل سحري يُنهي معاناة ما تشغل بالنا، نشاهد فيلماً أو مسلسلاً تُغير الصدفة الحسنة مجريات أحداثه، فنتمنى لو أن نفس المؤلف كان مسؤولاً عن كتابة مسار حياتنا

القصة الثانية كان بطلها الشاب إبراهيم عبد الناصر، بائع الفريسكا الذي التقط له مقطع فيديو يبدي فيه رغبته الالتحاق بكلية الطب في جامعة الإسكندرية، إبراهيم حقق النتيجة المرجوة منه بمجموع 99.6% بالثانوية العامة، لكن كلية الطب تحتاج لمصاريف أخرى لا يستطيع توفيرها، وهو الذي يتجول حاملاً على كتفه صندوق الفريسكا ليجلب مصاريفه اليومية بالكاد.

الفيديو حقق مشاهدات كبيرة، ما أجبر وزارة التعليم العالي على التكفل بجميع مصاريف إبراهيم الدراسية، ثم توالت الهدايا من سيارات ومساعدات مادية ودراسية جديدة لإبراهيم، وهكذا غيرت دقيقة واحدة مسار حياة بائع الفريسكا بالكامل.

القصة الثالثة منذ أيام، إذ لم تكن صفية أبو العزم تعلم بأن بادرة طيبة سوف تقوم بها لاحقاً في هذا اليوم قد تحمل لها أضعاف ما أرادت تقديمه، المقطع الذي حصد تعاطف وغضب الجماهير تمثل في محصل قطار يسخر من مجند بالقوات المسلحة ويطالبه بدفع قيمة التذكرة أو تسليمه للشرطة العسكرية، وبعد شد وجذب، قررت صفية التدخل والتطوع بدفع قيمة التذكرة، قبل أن يرفض المجند ذلك ويمزق النقود من يد المحصل ويدفع هو أجرته بنفسه.

في نفس اليوم، كتب العديد عن هذا الموقف النبيل كما وصفوه، وأطلقوا على السيدة صفية لقب سيدة القطار، وما هي إلا أيام قليلة حتى انهالت الهدايا عليها، بداية من هاتف "آيفون" من الرئيس السيسي ورحلة عمرة من بعض رجال الأعمال، مروراً بمجوهرات باهظة من أحد محال الذهب الشهيرة، وصولاً إلى تعيينها بالمجلس القومي للمرأة، قد يكون ذلك أكبر استثمار حلمت به هذه السيدة، إذ إن ثمن التذكرة التي أرادت دفعها لا يتخطى الثلاثة وعشرين جنيهاً مصرياً فقط.

تلك القصص ليست حكراً على مصر، ومن الطبيعي أن نشاهدها في بلاد أخرى كثيراً، ربما أن سرعة استجابة الجهات المعنية مع كثرة حالات توثيق هذه المشاهد هو ما أضفى طابع أن الخطة المنتظرة البديلة أصبحت هدفاً قد يسعى له البعض بدلاً من الانتظار. لكن في كل الأحوال، القصص الثلاث المذكورة، إن أمعننا النظر في ظروف أصحابها، لوجدنا أن شعور السعادة بما حققوه أو حُقِق لهم هو الشعور الطبيعي، فهؤلاء مثلنا تماماً، يقفون في نفس الطابور الذي ذبلت أرجلنا من الوقوف فيه، طابور انتظار الأشياء الاستثنائية التي ربما تحدث لنا فتجعل حياتنا أسهل، فقط أسهل لا أكثر من ذلك.

السبب الذي يجعل من غضب البعض منطقياً هو علاج الحالة دون غيرها، أعني بذلك أن بالتأكيد هناك كثير من الباعة الجائلين الذين يرجون موقعاً أفضل لترويج بضاعتهم، والعديد من المتفوقين الذين يحلمون بكلية ما اجتهدوا في الدراسة لنيلها

السبب الوحيد الذي يجعل من غضب البعض منطقياً هو علاج الحالة دون غيرها، أعني بذلك أن بالتأكيد هناك كثير من الباعة الجائلين الذين يرجون موقعاً أفضل لترويج بضاعتهم، والعديد من المتفوقين الذين يحلمون بكلية ما اجتهدوا في الدراسة لنيلها، ولم يسعفهم رصيدهم البنكي غير الموجود أصلاً وينتظرون منحة كمنحة إبراهيم، أما عن سيدة القطار، فمعظم الغضب كان في سبيل تحسين ظروف سفر المجند نفسها، وأن تحقيقه الشخصي الذي يثبت أنه في فترة التجنيد يجب أن يكون كافياً للحصول على تذكرة مجانية، وهو الشاب الذي أوقف حياته بضع سنوات حتى ينتهي من فترة التجنيد تلك بلا مقابل يذكر، بل إن معظم الجنود يتحملون تكاليف إضافية أيضاً.

عدا ذلك، فالغضب ربما غير مبرر، على الأقل بالنسبة لمن سيرحبون بصدف النجاح إن أتتهم ولن يترفعوا عنها. الغاضبون من القصص المذكورة يشبهون كثيراً النكتة التي تتحدث عن رجلين حكم على كليهما بالإعدام، مع إمكانية تحقيق طلب واحد لكل منهما، أحدهما عرف عنه رغبته الملحة في شقاء الآخرين، فبينما طلب الأول أن يرى والدته قبل تنفيذ الحكم، طلب الآخر ألا يرى الأول والدته. وأخيراً فالحياة شاقة بما فيه الكفاية ولا تحتمل كل تلك التنافسية والجدية المفرطة في مواجهتها، لذا لنبتسم للحظ السعيد الذي صافح هؤلاء حتى يتذكرنا، فربما يأتي مجدداً ليصافحنا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image