مرحبا بك أيها الروبوت. لا أعرف اسمك، لكن تكفيك كلمة روبوت لاختصار كل ثرثرة قد تصدر عنك، فالأكيد أن من صنعك انتبه إلى هذه الصفة الإنسانية.
قرأت افتتاحيتك في الغارديان، أشكر الصحيفة التي أفترض حسن نيتها في لفت انتباهنا إلى خطر الأتمتة، الأتمتة التي أصبحت تلامس المهن الإنسانية الأكثر حساسية ورومنسية وهي التحرير الصحافي، أو لنقل الكتابة، كفعل مفتوح على احتمالات فنية ربما.
سأكون معك روبوت أيضاً، أنا البشري الذي يمكن أن يتقمص أدواراً مختلفة (هل تعرف المسرح؟) وسأتذاكى معك وأصنّف نفسي من بين أولئك الذين لهم فائدة في العالم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وغيره، ولن أعارضك جذرياً في البداية، كي لا أصنّف ضمن ملايين المعارضين الذين لا فائدة منهم... طبعاً سيعارضك الملايين مثلي وسيسقطون في فخ خلل السرعة... هل هذا ما تريده؟
هل تنوي الترشح للانتخابات؟
صديقي الروبوت: لا تستطيع تخيل مدى شوقي لمجالستك وتبادل الحديث معك، الحديث في كل الأشياء والأحداث والمشاعر والأفكار والهموم، وأن نلعب الورق، نشرب البيرة ونتناول العشاء في حانة للصعاليك مساء السبت، وأن نتحدث في السياسة، خاصة السياسة، كي نتعرف إلى بعضنا البعض، إذ يحتمل أن تكون شيوعياً أو رأسمالياً قذراً (هكذا تقال عندنا في تركيب واحد وأرجو أن لا تناقشها) أو دينياً أو عدمياً أو... لست أدري. لكن من خلال هذه المسافة التي تفصل بيني وبينك الآن أرجو أن تحتمل تساؤلاتي الغبية والبشرية.
إذا استطاع الإنسان الآلي اختراق مهنة الصحافة، هل تتحدد السياسات العالمية يوماً من خلاله؟ هل تراه يخترق أسرارنا ويكشفها لأباطرة السياسة في العالم، أم سيحتفظ بها لنفسه ليستخدمها ضدنا حين يقرر أن يترشح للانتخابات؟
هل ستتحدد السياسات العالمية من خلالك يوماً ما؟ أظنك من صنف الكائنات التي تعوّل كثيراً على الخوارزميات، فمن خلالها، وحسب بحوثي السطحية، ستتحول السلطة من البشر إلى تلك الثواني السريعة في معالجة مليارات البيانات، والتي ستنتشي بتأشيرها على شاشة ربما ملتصقة في وجهك أو بطنك أو ظهرك... أو أجهزتك الجنسية الحساسة، طبعاً إذا كان صانعك قد انتبه إلى تركيبها في المكان المناسب.
ماذا لو مكنت صانعيك من اختراق بيانات سكان العالم بكامل تفاصيلها؟ الصحية والنفسية والوجدانية والمالية وحتى الميول الجنسية والأطعمة المفضلة والأفلام والموسيقات واللغات واتجاهات الاستهلاك والموضة وغيرها؟ هل ستكشف أسرارنا لأباطرة السياسة في العالم، أم ستحتفظ بها لنفسك وتترشح للانتخابات وتستعملها ضدنا؟ ماذا لو أصبحت رئيس حكومة أو ملكاً أو رئيساً أو حرضت الضباط الثوريين في الجيش وقمت بانقلاب وأعلنت البيان الرقم واحد السابعة صباحاً؟ يا ويلي!
طيب سأستبق الأحداث وأسألك عن برنامجك الانتخابي في مواجهة الحروب النووية والانهيار البيئي والاضطراب التكنولوجي؟ في الحقيقة هي ليست أسئلتي ولكنني استلفتها من أحد المفكرين المستفزين... أرجو أن تجيبني عليها، وإذا أردت، يمكن أقدم خدماتي لأكون مستشارك الإعلامي عندما تكون رئيس حكومة... يا روبوت.
صديقي الروبوت: أعترف لك كصديق، وأرجو أن تكتم أسراري، أننا نحن البشر نعاني الآن من مشكل كبير وحقيقي وهو غياب فلسفة تحتويك. أنت الآن تقف في أفق خلل جذري أصاب الحضارة الإنسانية منذ أن رسم دا فينشي لوحة الجوكندا، وهو في غفلة من تحول الإنسان الذي رسمه إلى طاقة ضخمة من جنون العظمة والنرجسية.
الغباء... هذه المتعة الإنسانية
أعترف بعجزي عن وضعك ضمن إطار للتحليل، خاصة وأن فيروس كورونا قد خنقنا داخل منازلنا، فأعدنا اكتشاف المطبخ أولاً ثم السينما وبعض الأفكار الأدبية والفلسفية القديمة، لكن لم يخطر ببالي أن أفكر في روبوت يكتب افتتاحية في صحيفة. على كل حال، هذا متروك لما يسميه البشر بالعمل الجماعي. احتمال أن يلتقط أحد الفلاسفة كلامي ويحاول التفكير معي كيلا أموت كمداً وحسرة من كيلوغرامات حديد وأسلاك تقول عن نفسها أنها "عقل يجيش بالأفكار"... أنت مضحك يا روبوت، أو ربما أنا المضحك... صدقني لا أعرف.
لقد تعودنا أخيراً على إجابة أصبحت ضمن قناعاتنا المنكسرة في أيامنا هذه، وهي أن ندخل بيانات في الحاسوب وننتظر اجابة إدارية عن أحد طلباتنا. أحياناً يستجيب الحاسوب إلى طلبنا وأحياناً أخرى يرفض، وما على الموظف البشري، مثلنا، سوى إخبارنا بما وصل إليه الحاسوب. مثلاً أن نطلب قرضاً من البنك فتدخل موظفة البنك بياناتنا وتنتظر تفكير الحاسوب، ذلك التفكير الذي يقرر مصائرنا في أحيان كثيرة. المشكلة أنني أنظر إليك من خلال هذا النموذج، فلا أستطيع استلطافك ولا استلطاف موظف البنك (في أحيان كثيرة هي موظفة... يالحظّك).
لا يبدو أن صانع الإنسان الآلي يفهم أن الغباء متعة وميزة إنسانية، لا يبدو أنه يعرف أن التعب والنسيان والألم وكل ما يحدّ قدراتنا البشرية هو ما يخلق حافزنا للنجاح
صديقي الروبوت: أنا بسببك أعيد التفكير في كل تلك القيم التي أرادت مدرسة حيّنا زرعها فيّ، كالمثابرة وحب الذكاء والابتكار والتطوير والبحث عن الحلول وامتلاك المعرفة والقوة والعقل السليم في الجسم السليم، وغيرها من القيم التي يبدو لي أنها جملة من الترهات الآن. ماذا لو بقينا أغبياء قليلاً؟
أتركك الآن... أحس بآلام في ظهري من فرط الجلوس والكتابة، سأتناول بعض السمك ولا تقلق فقد دفعت ثمن القهوة... وقبل أن أنسى، هذه الرسالة موجهة أيضاً لمن اخترعك، لأنه لم يفهم بعد أن الغباء متعة وميزة إنسانية... ومن اخترعك يبدو لي غبياً لأنه، بصناعتك، يريد إثبات عكس ذلك لنفسه... أخبره بذلك أرجوك.
مع مودتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 17 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...