شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"المصريون لم يعودوا يأبهون بالجودة"... دراما صناعة الأثاث في دمياط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 16 سبتمبر 202005:22 م

في وسط تجريف هائل للطبقة الوسطى في مصر، الذي يرجعه البعض لعهد الانفتاح الذي بدأه الرئيس الأسبق أنور السادات، أو جمال عبد الناصر، والبعض يرجعه لعهود أقدم، كالاحتلال العثماني، حيث احتكرت تركيا مواهب مصرية مرتبطة بالصناعات المحلية، ولكن يظل هناك استثناءات ظلت باقية ومنافسة بشكل ما حتى الآن، مثل صناعة الأثاث في دمياط.

قلما يخلو منزل من الأثاث الدمياطي، فقد اشتهر لفترات طويلة نظراً لصناعته عالية الدقة، وأسعاره التنافسية، مقارنة بالخشب والأثاث المستورد من الخارج، ربما إلى ما قبل غزو المنتجات التركية والصينية الأسواق المصرية.

في ظل كل تلك المعطيات، استطاع صانع الأثاث الدمياطي اكتساب شهرة عالمية، حيث أصبح علامة مسجلة، ليس في مصر وحدها، ولكن في الشرق الأوسط كله.

"بين كل ورشة وورشة ورشة"

دمياط، تلك المحافظة المصرية الصغيرة، التي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وينتهي عندها فرع النيل الشهير الذي حمل اسمها، يعمل ربع سكانها، الذي تخطى عددهم مؤخراً مليون ونصف نسمة، في صناعة وتجارة الأثاث.

إذا تنقّلت بين أنحاء دمياط، سواء قراها أو مدنها، سوف يلفت انتباهك على الفور عدد الورش الخاصة بصناعة الأثاث، ولكل مرحلة صنَّاعها المتميزون الذين يتقنون حرفتهم فصاروا أساتذة، فما بين ورش "الأستروجية، والأويمجية، والمنجدين، والمدهباتية" تنتقل قطعة الخشب لتتحول في النهاية لقطعة فنية تنافس عالمياً.

"بعد أن كانت دمياط مقصد كل عروسين في مصر، يشترون منها قطع الأثاث المميزة بسعر معقول، أصبحوا يفضلون المنتجات الصينية والتركية لانخفاض سعرها، لكنهم لا ينتبهون لانعدام جودتها"

دمياط وحدها فيها أكثر من 40 ألف ورشة متخصصة في صناعة الأثاث، يعمل بها ما يقرب من 200 ألف عامل، وهناك ما يقرب من 100 ألف آخرين يعملون في تجارة وتسويق الأثاث.

لذلك وبحسبة بسيطة، تجد أن أكثر من ربع سكان المدينة الصغيرة يعملون في صناعة وتجارة الأثاث، وفقاً لما صرح به محمد الزيني، رئيس الغرفة التجارية بدمياط، في أحدي لقاءاته التليفزيونية مع الإعلامي محمد خير، فالمحافظة وحدها تنتج 75% من إنتاج مصر من الأثاث.

وأضاف الزيني في لقائه، أن دمياط كانت تصدر 25% من إنتاجها من الأثاث سنويا للدول الأوربية والعربية، لكن للأسف تراجعت نسبة التصدير إلى 10% فقط، نتيجة زيادة الأسعار المبالغ فيه بعد تعويم الجنيه المصري في السنوات الماضية، كما أن تجارة الأثاث للأسف الشديد أصابها الركود المحلي، بسبب فتح الباب أمام استيراد الأثاث الصيني والتركي، وهو ما ضرب صناعة الأثاث في مقتل.

وناشد الزيني الحكومة المصرية بضرورة وضع مواصفات قياسية تحكم عمليات الاستيراد، فلابد من استيراد منتج بنفس جودة المنتج المصري، حتى لا يتأثر الاخير.

لكن لدخول صناعة الأثاث إلى دمياط، وتميزها محليا وإقليميا حكاية قد لا يعرفها الكثيرون في مصر وخارجها، فكيف ومتى دخلت صناعة الأثاث إلى دمياط؟

البداية في بلاد الشام

التقى رصيف22 بالمحاسب محمود سعيد الجندي، والبالغ من العمر 37 عاماً، والذي أكد أن جده الذي ولد في دمياط في عام 1880 كان هو أول من أدخل تلك الصناعة الى دمياط.

فقد كان محمد فهيم الابن الأكبر للدمياطي الشهير سيد الجندي، أحد أكبر تجار الحرير في دمياط في تلك الفترة، وكثيراً ما كان يسافر إلى بلاد الشام لجلب بضاعته، وفي أكثر من رحلة اصطحب ابنه الأكبر محمد فهيم، صاحب الاسم المركب، الذي اختصره الكثيرون بعد ذلك إلى فهيم.

كان الأب سيد الجندي حريصاً على تعليم ابنه فهيم أصول المهنة وأسرارها، إلا أن الابن الشاب كان قد اتخذ قراره، فهو لن يعمل في تجارة الحرير كوالده وجده، تلك التجارة التي لم تجذبه مثلما فعلت صناعة الأثاث وتجارته. ففي ببلاد الشام، بحسب محمود الجندي، تعرَّف فهيم على قطع أثاث جديدة لم يكن لها وجود في مصر في تلك الفترة.

كان المعروف حينها في مصر حتى بدايات القرن العشرين هو السرير النحاسي أو الحديدي وصندوق الملابس الخشبي التقليدي الذي كان جزءاً أساسياً من جهاز أي عروس، لكن هناك في بلاد الشام رأى "الدولاب، والكومودينو، والشوفونيرة والتسريحة" وغيرها من قطع الأثاث التي أدهشته، وأثارت فضوله، فقرر أن يتعرف على أسرار صناعتها، وتعلم أسسها من صناعها في بلاد الشام، وقد فعل.

عاد فهيم إلى دمياط، وفتح ورشته الأولى التي كانت بمثابة النافذة التي تعرف منها أهل دمياط على صناعة الأثاث بكل تفاصيلها، وشاهدوا لأول مرة قطع أثاث لم يسمعوا عنها من قبل، فجذبهم الأمر، وخصوصاً أنهم يعشقون العمل وتعلم كل جديد.

رأى فهيم الجندي أبو صناعة الأثاث في دمياط "الدولاب، والكومودينو، والشوفونيرة والتسريحة" وغيرها من قطع الأثاث في بلاد الشام، فاندهش، وقرر أن يتعرف على أسرار صناعتها

"استغل جدي هذه الصفة في سكان دمياط، وبدأ في تأسيس أول مدرسة عملية لصناعة الأثاث على أرض دمياط، والتي كان مقرها ورشته الصغيرة، التي علم فيها الدمايطة فن "الأويمة" أو الرسم على الخشب، وهو الفن الذي برع فيه جدي والدمايطة فيما بعد، وأصبحوا يتميزون به على مستوى العالم، فقطع الأثاث المزينة بأويمة يدوية دمياطية لا تجد مثيلاً لها في العالم كله"، يقول سيد الجندي.

فن الرسم على الخشب

أحمد الأويمجي، أحد صنايعية الأويمة في دمياط، أكد في لقاء تليفزيوني مع الإعلامية لميس سلامة، أن الأويمة فن يدوي برع فيه الدمايطة منذ مرحلة رسم الشكل أو "الجملة" كما يسميها الدمايطة، على الورق، ثم تنفيذها على قطعة خشب صماء بالنحت بأدوات مختلفة، فتتحول قطعة الخشب إلى لوحة فنية متميزة، يتم تكرارها بكل براعة بنفس التفاصيل لتعطي "أساس غاية في الجمال والثراء والأناقة".


في بداية القرن لم تعرف مصر لصناعة الأخشاب وجوداً، فسافر فهيم لأوروبا، وتعرف على تفاصيل الصناعة، وأماكن استيراد الخشب، وأدخله الى دمياط عن طريق مينائها الشهير، وبدأ يعلم الدمايطة طرق تقطيعه إلى ألواح او شرائح، ليتمكنوا من تشكيلها كما يريدون، بحسب سيد الجندي.

يقول الجندي: "تمكن جدي من إقامة معرض للأثاث المنزلي في دمياط في شارع البحر في عام 1910، لا يزال موجوداً حتى الآن لكنه مغلق للأسف، فلم يكمل أحد من أبنائه مشواره".

إعلانات في أشهر المجلات

لم يكن معرض دمياط هو الوحيد الذي أسسه الجندي، لكنه أسس معرضاً آخر يحمل اسمه في القاهرة، ليكون أول معرض للموبيليا في مصر، وتم افتتاحه في عام 1926 في شارع صبري أبو علم، وهو المعرض الذي أصبح له أكثر من فرع في القاهرة بعد ذلك، حيث كانت موبيليا فهيم الجندي من أفخم ما يمكن للأثرياء اقتناءه، وكانت إعلاناتها تتصدر صفحات الجرائد والمجلات، وفقا لسيد الجندي.

وكما أشار الكاتب ياسر قطامش، في كتابه "فنجان قهوة مع أفندينا" الذي صدرت طبعته الأولى في 2012، وبالتحديد في صفحته 144، أنه في مجلة الصباح عام 1940 نشر إعلاناً عن موبيليات محمد فهيم الجندي بشارع جركس.

معارض القاهرة جعلت فهيم الجندي مبتكراً للسيارة ذات الصندوق المغلق، فالحاجة أم الاختراع كما يقولون، بحسب رواية سيد الجندي.

كان المعروف حينها في مصر حتى بدايات القرن العشرين هو السرير النحاسي أو الحديدي وصندوق الملابس الخشبي التقليدي الذي كان جزءاً أساسياً من جهاز أي عروس، لكن هناك في بلاد الشام رأى "الدولاب، والكومودينو، والشوفونيرة والتسريحة" وغيرها من قطع الأثاث التي أدهشته

أما الآن، يقول أحمد المطيعي، صاحب معرض أثاث في دمياط، فإن الأثاث الدمياطي "يواجه ركوداً في السوق بسبب ارتفاع أسعار الأخشاب المبالغ فيه، وهو ما انعكس على أسعار المنتجات".

ويشير المطيعي إلى تغيرات أصابت الزبون المصري بسبب الظروف الاقتصادية، يقول لرصيف22: "بعد أن كانت دمياط مقصد كل عروسين من مختلف المحافظات المصرية، يشترون منها قطع الأثاث المميزة بسعر معقول، أصبحوا يفضلون المنتجات الصينية والتركية التي غزت الأسواق المصرية مؤخراً لانخفاض سعرها، لكنهم لا ينتبهون لانعدام جودتها، ولم يتبق لدمياط سوى الزبون الخبير الذي يبحث عن قطعة أثاث تقاوم الزمن".

يخشى المطيعي وآخرون من أن يطالهم التجريف أيضاً، وتتراجع مكانة الأثاث الدمياطي إقليمياً وعالمياً كما تراجعت محلياً، فالركود له انعكاسات على سوق التوظيف، حيث تتراجع أجور العاملين، وتزداد الرغبة عند أصحاب الخبرة والمخضرمين في صناعة الأثاث في السفر لخارج البلاد، تماماً مثلما طال الكثير من المهن والوظائف في مصر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image