شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يا شهرزاد… كلنا قد نكون الحكاية

يا شهرزاد… كلنا قد نكون الحكاية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 14 سبتمبر 202003:20 م

 تقول الرواية: نجت شهرزاد من الموت بفضل الحكايا، ونالت بها قلب شهريار الملك، الذي كان رجلاً عادلاً قبل أن يكتشف خيانة زوجته التي عشقها، ليكره إثر ذلك كل النساء وليأخذ بقتلهن في صبيحة دخلته... إلى أن قدّمت له شهرزاد حكاياتها بدل الجسد، لتفعل الحكايات ما عجزت عن فعله القبلات.

وهكذا في حكاية ألف ليلة وليلة، اختارت شهرزاد الحكاية كبديل عن الجنس، وكان فيها من الإغواء ما يكفي للمتعة، نشوة الحديث الصافي والرغبة في السرد، ليكون شهريار مستمعاً حقيقياً، ولربما من حينها اشتهرت النساء برواية الحكايات.

وكان للأمهات نصيب من إرث شهرزاد في الروي، فكانت الحكايات الليلية خلاص الأمهات من عناء النهارات الطويلة، وبها أيضاً اشتهرت المقاهي في بلاد الشام والعراق، ففي الشام كان الحكواتي وفي العراق القصخون؛ وهو الراوي الذي يحفظ حكايات أمه ليكبر ويتصدر مقاهي الرجال الشعبية، خاصة في السهرات الرمضانية، وينقل قصص الحب والهيام وبطولات فرسان العرب، فقبل أن تكون السينما وقبل الإعلام والتلفاز وحدها كانت حكايات النساء أولاً.

إن أهم دور للفيسبوك في هذه المرحلة هو تحويل الفضيحة من غشاء البكارة إلى التحرش.

"احكي يا شهرزاد"

عام 2009 اختار الكاتب وحيد حامد، اسم "احكي يا شهرزاد" لفيلمه الذي أخرجه يسري نصر الله، وحصل حينها على إعجاب النقّاد والجمهور. الفيلم الذي مضى عليه أكثر من عشرة أعوام ومع ذلك يكفي أن تشاهده اليوم لتشعر، وللأسف الشديد، أنه ابن وقتنا، إذا ما تجاهلنا التطور الذي شهدته السينما المصرية.

يتناول الفيلم قصص النساء الخام، بلا "فاونديشن" يخفي آثار العنف على وجوههن، بلا "كونسيلر" يخفي فساد الطبقة السياسية وأثرها على المجتمع، وبدون "هايلاتر" يجعل من العائلات الأرستقراطية لمّاعة.

فبطلة الفيلم التي تجسد دورها منى زكي، مذيعة جريئة تنبش عش الدبابير كما يُقال، تحاول الابتعاد في برنامجها عن المواضيع السياسية المثيرة للجدل بناء على طلب زوجها (لعب دوره الممثل حسن الرداد) الصحفي الذي يسعى للوصول لرئاسة تحرير الجريدة التي يعمل بها من خلال التملق لشخصيات سياسية فاسدة.

لتجد بطلة الفيلم نفسها فجأة تُعدّ برنامجاً عن النساء، عن معاناتهن، آلامهن وقهرهن، لتظهر على الشاشة حكايات الكبت الجنسي وإنكار رغبة النساء في المجتمع العربي، لتدرك بعد قليل أن قضية النساء ليست بعيدة عن السياسة، على العكس تماماً، فبالعودة إلى جذورها تجد أن الظلم كان سياسياً منذ البدء، لتجد أن أصل المشكلة غياب القانون الذي يحمي النساء.

فتلجأ البطلة في كل حلقة من حلقات برنامجها لاستضافة امرأة تحكي حكايتها، ليسلط الضوء من خلالهن، الكاتب العبقري وحيد حامد، على مشكلات النساء التي تكاد تكون منسية تماماً في مجتمعنا، بدءاً من الفقر لدرجة العدم، مروراً بالفصام الذي يفرضه علينا واقعنا، لتعيش النساء حياة لا تشبههن لكنها ملائمة لاسم العائلة ومستواها الاجتماعي، ليصل للاستغلال الجنسي والعنف.

في ظل غياب قوانين تحمي النساء من التعنيف والتحرش والاغتصاب والاستغلال الجنسي، لوحظ لجوء أغلب السيدات واللواتي من بيئات اجتماعية مختلفة، لمنصات افتراضية آمنة لسرد ما يتعرضن له، فالحكاية هي الملجأ الوحيد

"مساحات افتراضية آمنة"

وبالعودة لاسم الفيلم، نجده مناسباً جداً لنعنون به صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، لنعنون به حياتنا التي لا وجود لقانون يحمي شهرزاد فيها من سلطة الأب، الزوج، العائلة، العشيرة، المدينة والمجتمع.

ففي ظل غياب قوانين تحمي النساء من التعنيف والتحرش والاغتصاب والاستغلال الجنسي، لوحظ لجوء أغلب السيدات واللواتي من بيئات اجتماعية مختلفة، لمنصات افتراضية آمنة لسرد ما يتعرضن له، فالحكاية هي الملجأ الوحيد.

فبعد أن كان الإنترنت مجرد شبكة للهاربين من مراقبة المخابرات، للشبقين أصحاب الرغبات الجنسية المكبوتة، وساحة للشتائم بأسماء وهمية، أصبح منصة لمن يبحث عن العدل ولو كان مجرد اعتراف بالحق.

ولعل التجربة الأكثر تنظيماً حتى الآن هي "دفتر حكايات" وهي منصة لمجموعة من النسويات المصريات المستقلات، المؤمنات بحق تواجد النساء في مساحات آمنة، إذ تعطي المدونة فرصة السرد بحرية مطلقة للنساء بدون الحاجة لذكر المعلومات الشخصية، نظراً لإدراكهن مدى خطورة الإفصاح عنها.

"العقاب المجتمعي أولاً"

إلى جانب التجربة المصرية، فإن الصفحات السورية كان مختلفاً قليلاً، فاشتعل الحديث عن شخصيات تُحسب على الوسط الثقافي والنسوي أيضاً، تدافع ضمنياً عن العنف أو تبرره، لتتسع دائرة الحملة من فضح المتحرشين إلى فضح مدعيي الثقافة وقادة الفكر التحرري الداعمين للثورات، وليكون الحل هنا هو الرفض المجتمعي.

ففي علم الاجتماع، يطرح الباحثون العقاب المجتمعي والذي يتضمن الإقصاء والنبذ والرفض مثلاً، كنوع من العقوبات التي يفرضها المجتمع على الفرد الذي يخالف الأعراف وأخلاقيات البيئة التي نشأ فيها، ولعل هذا ما يحاول اليوم رواد مواقع التواصل الاجتماعي فعله.

فاليوم ليس من الضروري أن يتوقف التحرش عن قناعة بقدر ما هو من المهم أن يتوقف حتى ولو عن خوف من الفضيحة المجتمعية، ليكون أهم دور للفيسبوك في هذه المرحلة هو تحويل الفضيحة من غشاء البكارة إلى التحرش.

لتسقط أساطير مقدسات المجتمع الذي ننشأ فيه، فيسقط شعار "البيوت أسرار" أمام سلامة النساء المعنَّفات، وتسقط كليشيهات متل "أبصر شو كانت لابسة"، "أبصر شو عاملة"، أمام فضح المتحرش.

تقول ليلى 27 سنة، متزوجة منذ سنتين وقد رفعت دعوى طلاق إثر معرفتها بخيانة زوجها، عن طريق رسائل وصلت لحسابها على الفيسبوك: "حتى لو وجد قانون الآن، هل من قانون سيجرم الخيانة الزوجية مثلاً؟ منذ سنتين أعيش مع زوجي وهو ناشط حقوقي، يُحاضر في النسوية ويخونني مع أخريات، ولقد قام بتعنيفي حين طلبت الطلاق. هل سيوجد قانون يحاسب مرتكبي الجرائم العاطفية بتهمة المساس بكرامة النساء؟

وحتى لو اختفت آثار الكدمات، هل سيعرف أحد حجم المرارة والإهانة حين تتلقى امرأة صفعة من زوجها؟

صفعة واحد كانت تكفي لأعرف أنني، ولمدة سنتين، تقاسمت سريري مع وحش متنكر... لقد كنت أنام بين ذراعي كائن همجي".

وتكمل ليلى: "أمام كل ما عشته ليس لي إلّا أن أحذّر امرأة قد تكون بعدي. في هذه المرحلة، ليس لنا نحن النساء إلا الفيسبوك لنسند بعضنا قبل أن نهوي".

كلنا قد نكون الحكاية، الحكاية التي نحكيها، مثلما فعلت شهرزاد، للحفاظ على أرواحنا وأجسادنا، لأننا وبكل يوم  نغامر بأنفسنا وبحياتنا. نحن بخطر فقط لأننا نعيش بأجساد أنثوية، نناضل للبقاء على قيد الحياة، ولننال عقد ملكية جهازنا التناسلي

"نخاف لأننا نساء"

في المشهد الختامي لفيلم وحيد حامد تظهر المذيعة بطلة الفيلم في برنامجها وآثار الكدمات على وجهها وذراعيها، وتقول: "عمري ما كنت أتصور إن أنا اللي بحكي حكايات الناس أتحول لحكاية".

ولعل أغلب الحملات على المنصات الإعلامية تنطلق من هذا المشهد نفسه، سواء أكانت لفضح المتحرشين أو المعنفين وما إلى ذلك... لأننا كلنا قد نكون الحكاية، الحكاية التي نحكيها، مثلما فعلت شهرزاد، للحفاظ على أرواحنا وأجسادنا، لأننا وبكل يوم في الشرق الأوسط نغامر بأنفسنا وبحياتنا. نحن بخطر فقط لأننا نعيش بأجساد أنثوية، نناضل للبقاء على قيد الحياة، ولننال عقد ملكية جهازنا التناسلي.

نحكي لأننا نخاف في باصات النقل الداخلي، في أماكن عملنا، في التجمعات، في الشوارع، وحتى في بيوتنا وحين نقع في الحب!

ونخاف لأننا نحكي... فماذا لو أن النساء اللواتي قتلهن شهريار كنّ ضحايا قصصهن؟ ثم نجت شهرزاد لأنها لم تفصح عن نفسها بل استخدمت الحكايات لتروي تجارب عاشتها؟

ليكون الموت في الحكاية والنجاة فيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image