لا تخلو أيام الغزيين من سماع قصص غريبة، غالباً ما ترتبط بأنماط فكرية وأخلاقية وجدت لها مكاناً في أذهان العديد من الأشخاص والجماعات، وتعززت بفعل تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يعيشها السكان منذ حوالي 13 عاماً.
ولعل من أبرز تلك الأنماط القصص التي تتعلق بنشاط السحرة والمشعوذين الذين ينتشرون في أماكن مختلفة على طول القطاع، ويعملون على جذب أشخاص من خلال إقناعهم بأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبوه إيجاباً لدى أصحاب الحالات ذات العلاقة بالاضطرابات النفسية، أو ما يدعون بأنه "مس من الجن".
يسلط هذا التقرير الضوء على بعض الحالات التي لجأ أصحابها إلى السحرة والمشعوذين في غزة، ويرصد نتائج تلك التجربة والأسباب الواقعية التي قد تدفع بأصحاب العلاقة نحو خيار مماثل، إضافة إلى رأي الجهات المسؤولة وتعاملها مع الظاهرة.
قصص مختلفة
شاعت بين المواطنين في قطاع غزة، خلال شهر تشرين الثاني/ أكتوبر عام 2018، قصة شاب ثلاثيني قُتل شمالي القطاع على يد مشعوذ ادّعى أنه يُخرج جنياً مسّه.
حينذاك اعتقلت عناصر الشرطة المشعوذ وأقارب الشاب الذين شاركوا في تكبيله وضربه، بينما أوضحت العائلة أن أهل الشاب كبلوه واقتادوه إلى الرجل الذي يدعي "التدين"، وطلبوا منه إخراج الجني من جسمه.
وفي منتصف شهر كانون ثاني/ يناير الجاري، تداول مواطنون على مواقع التواصل تفاصيل قصة شابٍ يبلغ من العمر 25 عاماً، يقطن وسط قطاع غزة، وتوفي داخل برميل لجمع المياه في منزله.
وعلم رصيف22 من أحد أبناء المنطقة التي يسكنها الشاب أن وفاته جاءت بعدما زار مع أفراد من أسرته أحد "الشيوخ" للعلاج من "المس الجني"، ووصف لهم "الشيخ" خطة علاجية تضمنت إدخال الشاب برميل المياه وإغلاقه عليه، وحين فعل ذلك فارق الحياة.
وقبل حوالي 10 أعوام، عاشت عائلة تقطن في مدينة خان يونس، جنوبي القطاع، حادثة غريبة مع ابنتها التي كانت تتخصص إدارة الأعمال في إحدى الجامعات الغزية.
وقتها، لاحظت العائلة تغيرات في تصرفات الفتاة اليومية، وبدا عليها الاضطراب في كلامها وفي حياتها بشكلٍ عام، وفقاً لما يوضح أحد أفراد العائلة لرصيف22، مبيّناً أنّ إحدى الجارات نصحت والدتها باصطحاب الشابة لأحد "الشيوخ" في المنطقة، كونها قدّرت حينذاك أنّها "مصابة بمس جنّي".
يضيف المصدر الذي طلب إخفاء هويته بسبب حساسية هذه القضايا بين سكان القطاع: "حصل ذلك فعلاً، وحين زاروا الشيخ، عادت الوالدة بمجموعة أوراق صغيرة مكتوب عليها عبارات مختلفة، هي جزء من العلاج، وفي ورقة أخرى، كتب ′الشيخ′ لها نصائح للتعامل مع ابنتها، تقوم على التعنيف اللفظي والجسدي"، لافتاً إلى أن ذلك الأمر لم يرقه حينذاك، وحمل تلك الأوراق لطبيبٍ مختص بالأمراض النفسية، وشاوره بالأمر، وعلم منه أن قريبته وابنتها وقعتا ضحية دجل أحد الأشخاص.
قصة أماني
تروي أماني (36 عاماً) لرصيف22 أنها لاحظت قبل حوالي عشرة أشهر اضطرابات نفسية لدى طفلها الذي يبلغ من العمر 9 سنوات، وهذا ما أثّر كثيراً على مستواه الدراسي، لافتة إلى أنها لم تكثرت للأمر في البداية واعتقدت أن ما لديه لا يتعدى نوبة خوف أو مرضٍ عادي، ستزول آثارهما بالدواء الروتيني.
وفاته جاءت بعدما زار مع أفراد من أسرته أحد "الشيوخ" للعلاج من "المس الجني"، فوصف لهم "الشيخ" خطة علاجية تضمنت إدخال الشاب برميل مياه وإغلاقه عليه، وحين فعل ذلك فارق الحياة... جولة على عالم السحر والشعوذة في غزة
بعد استمرار الحالة لأكثر من أسبوع، قررت أماني اصطحاب الطفل للمستشفى، لكن هناك أخبرها الأطباء أنه لا يشكو شيئاً.
وتذكر أماني أنها عادت بالطفل للبيت وهي بحالة من العجز، وعندما شرحت ما جرى لإحدى أخواتها، اقترحت الأخيرة عليها زيارة أحد "الشيوخ" لقراءة القرآن على رأس الطفل و "تكبيسه" باللغة العامية، وهذا ما حصل فعلاً.
زارت الأم والطفل ومعهما الخالة "الشيخ" الذي يقطن في أحد مناطق شرقي غزة، وهناك فوجئتا بطلب الأخير منهما ترك الطفل لديه في الغرفة والانتظار في الخارج.
لبّت الأختان طلبه، لكنهما ما لبثتا أن سمعتا صراخ الابن، وعلى الفور دخلت الأم للمكان لتجد الابن مكبلاً من قدميه والرجل يضربه بحبلٍ أسود ويتمتم عبارات غريبة، فغضبت وحملت ابنها للخارج، بعدما وبّخت من وصفته بـ"مدّعي التدين". منذ تلك اللحظة زادت معاناة الطفل وآلامه النفسية، كما أشارت الأم في حديثها.
وكانت الشرطة في قطاع غزة قد ألقت القبض في نهاية عام 2018 على "ساحرٍ"، قالت إنه "بث الفتنة والفرقة بين الناس، وانتقل بين أماكن مختلفة من قطاع غزة، وعكف على إثارة البلبلة من خلال استغلال ثقة المواطنين به"، واتهمته الشرطة كذلك بـ"تدمير عدد من العائلات، لا سيما تلك التي تقطن في مخيم البريج وسط القطاع، وهو المكان الأبرز الذي كان يتردد إليه".
الحالة النفسية الصعبة لسكان القطاع
يشير الباحث عبد الله شرشرة إلى أن قطاع غزة يشهد بين الفترة والأخرى حالات وفاة لمواطنين نتيجة قيام بعض السحرة والدجالين بطقوس ما يعرف باستخراج الجن، شارحاً أن الضحايا يُصنّفون في خانة المصابين بمرض الفصام الذي يعتبر من الأمراض النفسية، ويُستدل عليه من خلال أعراض لها علاقة بالهلوسة السمعية والبصرية، حيث يتخيّل المرضى سماع أصوات أو مشاهدة أشخاص بهيئات معينة، فيعتقد ذووهم أنهم مصابون بـ"مس شيطاني".
ويوضح، في حديثه لرصيف22، أن ما يعزز ذلك الاعتقاد هو الطبيعة المجتمعية، شارحاً: "في قطاع غزة يزيد الأمر بسبب الحالة النفسية الصعبة التي يمر بها المواطنون، وفقاً لما ورد في بيانات صادرة عن الجهات الرسمية".
ويلفت شرشرة إلى أن وزارة الصحة في القطاع تتحمل جزءاً مهماً من مسؤولية إقبال المواطنين على السحرة والدجالين، كونها "الجهة التنفيذية المسؤولة عن تطبيق قانون الصحة العامة الفلسطيني الذي يحظر على أي شخص ممارسة الطب أو التظاهر بممارسته بأي شكل، إلا إذا كان مصرحاً له بذلك".
والجدير ذكره أن التقارير الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن 210 آلاف مواطن في غزة يعانون اضطرابات صحية نفسية وخيمة أو متوسطة، وفي المقابل هناك مستشفى حكومي واحد يختص بعلاج الأمراض النفسية، ولا يتسع إلا لحوالي عشرة أسرّة.
وفي دراسة حديثة أجراها الطبيب عايش سمور من قطاع غزة، تبيّن أن نسبة مرض الفصام في قطاع غزة 1.6% بينما نسبة المرض العالمية لا تزيد على 1%، كما أن نسبة الإصابة بحالات الاكتئاب الشديدة العالمية تتراوح بين 5 و7%، بينما في غزة تصل إلى 10%، وارتفعت الإصابة بحالات الاكتئاب الخفيفة في غزة إلى 30%، علماً أنها لا تتعدى في العالم 20% حداً أقصى.
دخلت الأم لتجد ابنها مكبلاً من قدميه والرجل يضربه بحبلٍ أسود ويتمتم عبارات غريبة، ومنذ تلك اللحظة زادت معاناة الطفل... جولة على عالم السحر والشعوذة في غزة
هذا الواقع يحمّل، من وجهة نظر شرشرة، الجهات الرسمية جزءاً آخر من المسؤولية، ويقول: "لو توفرت الإمكانات المناسبة لعلاج المرضى النفسيين على الطريقة العلمية الصحيحة، لما لجأ الناس للسحرة والدجالين".
ويلفت، في ختام حديثه، إلى أن "إجبار مئات الحالات التي لا تمتلك الإرادة الحرة على العلاج بواسطة الضرب والعنف والضغط النفسي الشديد، يُعتبر انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وأن سماح الأجهزة الحكومية بحدوثه، وغض الطرف عنه لا يعفيانها من المسؤولية كونها جزءاً من هذا الانتهاك وشريكاً فيه".
المتابعة الرسمية
في تصريحات سابقة لوزارة الداخلية في غزة، أوضح مسؤولون فيها أن "أركان الوزارة عملت على إصدار قرار للحد من ممارسة أعمال الشعوذة والسحر في قطاع غزة، وحظرت التعامل مع كل ما يتعلق بها من دجل وتغرير منذ أكثر من ست سنوات"، مشيرين خلال أحاديثهم إلى أن القضية تظهر من وقتٍ لآخر، لكنها لا تعتبر ظاهرة منتشرة بشكلٍ كبير، على الرغم من وجود عدد من الحالات التي تأثرت بها وذاع صيتها بين المواطنين.
وجاء كذلك، ضمن التصريحات، أن الجهات الشرطية والقانونية تتابع نشاط بعض الأشخاص الذين تشك في كونهم سحرة ومشعوذين، من خلال أساليب خاصة. ومن طريق التتبع والتحقيق، تبيّن لها في عدد من المرات أن طالبي مساعدتهم هم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة، وبعضهم من أصحاب السوابق الجنائية الأمنية والأخلاقية.
ولفت المسؤولون إلى أن الشرع أجاز قتل الدجالين الذين يمتهنون السحر والشعوذة، ويتعمدون إيقاع الضرر بالناس، لكن الوزارة لا تمتلك سلطة إرساء القواعد الشرعية.
وفي نهاية العام الماضي، عكفت الجهات الرسمية في غزة على تأسيس لجنة وطنية تهتم بـ"متابعة السلوك القيمي للمواطنين، وبمشاكل القطاع الأخلاقية المختلفة، مثل التسول والسحر والشعوذة والتخابر مع إسرائيل وتعاطي المخدرات وغيرها"، وتعمل تلك اللجنة التي تضم أعضاءً من جميع الوزارات الحكومية، على "تعزيز الوعي لدى شرائح المجتمع بأهمية الأخلاق، والقيم الدينية والوطنية، وحماية المجتمع من السلوكيات السلبية عبر معالجتها والحد منها".
وفي مختلف الأراضي الفلسطينية، تنتشر منذ عشرات السنوات فكرة تعامل المواطنين مع السحرة والمشعوذين، إذ يبيّن عدد من استطلاعات الرأي وجود عدد غير قليل من الناس يؤمن بفكرة التعامل معهم، ويقر بقدرتهم على علاج بعض الحالات التي يعتقد أنها "متلبسة بالجن"، وعلى إثر ذلك يتعرض المواطنون لحالات نصب واحتيال، بعضها يؤدي لخسارات مالية تصل أحياناً لآلاف الدولارات، وبعضها الآخر يؤدي لأمراض نفسية وعنف، قد يصل في بعض الأوقات حد القتل.
يُذكر أن المادة 471 من قانون العقوبات الفلسطيني رقم 16 الصادر عام 1960، تعتبر ممارسة السحر أو الشعوذة مخالفة ويعاقب عليها بالسجن، بينما يقع كل من يتعاطى مع ذلك الفعل قصد الربح تحت طائلة المسؤولية، ويشمل ذلك الفعل مناجاة الأرواح أو التنويم المغناطيسي أو التنجيم أو قراءة الكف أو قراءة ورق اللعب، وكل ما له علاقة بعلم الغيب.
ويشير القانون إلى مصادرة الألبسة والنقود والأشياء المستعملة في هذه الأفعال، وإذا كرر المواطن المخالفة يعاقب بالحبس حتى ستة أشهر وبالغرامة حتى عشرين ديناراً، ويمكن إبعاده إذا كان أجنبياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت