شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سباحة وصيد وعناق الأحبة… عن السياحة الجبلية في

سباحة وصيد وعناق الأحبة… عن السياحة الجبلية في "بني مطير" التونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 8 سبتمبر 202004:59 م

لم تعد شواطئ البحر المكتظة والنزل الفاخرة تستهوي العديد من العائلات والشبان، رغم الإغراءات الكبيرة والتخفيضات المقدمة من المطاعم وفضاءات الترفيه، حيث راح البعض يبحث عن وجهة جديدة غير مستهلكة، تجمع بين حب المغامرة والهدوء، بعيداً عن ضوضاء المدن والرفاهية المصطنعة، وذلك من أجل الاستمتاع بفترة نقاهة، بعد موسم طويل ومنهك زادته جائحة كورونا أوجاعاً وآلاماً.

على إحدى هضاب جبال خمير الشاهقة، شمالي غربي تونس، تتربع قرية "بني مطير" الساحرة، المعروفة بمعمارها الفريد وطبيعتها النادرة الخلابة التي تبعد 170 كلم عن العاصمة، والتي تستهوي عدداً كبيراً من الزائرين وأحباء الطبيعة، أطلق حبيب المومني، مشروعه السياحي على حافة سد بني مطير الواسع، وبين أشجار الكالتوس والصنوبر العالية.

ويتمثل المشروع في بيوت خشبية استقرت على ربوة بالقرب من السد، مجهزة بكل التجهيزات العصرية، من سخانات ومكيفات للتبريد وثلاجات، كما تحتوي على ساحة واسعة تطل مباشرة على حافة السد، وتقابلها جبال شاهقة وبيوت مشيدة بما يتماشى وتضاريس المنطقة المعروفة بطقسها البارد وتساقط الثلوج في الشتاء، كما تلف الغابات والمروج المكان من كل حدب وصوب، ما يقدم لنا صورة رائعة عن المكان.

ويستمتع الزائرون هنا بالطبيعة الخلابة، دراسة المغاور، مراقبة الطيور، التخييم مع الأصدقاء، التمارين الرياضية، ركوب الدراجات الهوائية والمشي في المسالك الجبلية التي تغطيها ظلال الأشجار صيفاً وتكسوها الثلوج شتاء.

البداية

يقول حبيب المومني إنه استلهم فكرته من خلال تجربته الخاصة في الحياة، حيث كان يتنقل باستمرار بين المدينة وقريته، وقد تبين له البون الشاسع بين الراحة النفسية والجسدية والأمنية التي توفرها الطبيعة، وبين ضوضاء المدينة وصخبها اللامتناهي.

وانطلق في تجسيم فكرة المشروع بعد ثورة 2011، حيث لم يتمكن هو وبقية المجموعة التي معه من الحصول على مكان للتخييم، عندها تحول إلى منطقة بني مطير وهي أرض أجداده، وأقام عليها في البداية بيتاً واحداً من أغصان الغابة (العشة) ومعها مرحاض، قبل أن تتطور الفكرة التي لاقت رواجاً كبيراً منذ انطلاقتها.

"جاءت فكرة السياحة الجبلية لتقلب الطاولة على الجميع، وتعلن نفسها موضة جديدة في عالم السياحة، حيث تحمل في جرابها العديد من المفاجآت، وتقدم نفسها على أنها مزيج بين الراحة النفسية،حب المغامرة، الرياضة، ركوب الكاياك، قيادة الدراجات الهوائية"

واستعان المومني بخبرة أصدقائه الذين كانوا يعملون معه في الكشافة، وقاموا بتنظيف المكان الذي كان يحتوي على مستنقع، ليتحول إلى بيوت من الخشب مجهزة بجميع اللوازم الضرورية وفضاءات للتخييم.

وتلقى المومني ورشة في المهن الخضراء مع الصندوق العالمي للطبيعة لكسب مزيد من الخبرة في المجال وتقديم أفضل الخدمات، كما يواصل حتى اليوم دورته إيماناً منه بأن النجاح يبنى على المعرفة بقوانين العمل وإجراءاته.

ويقول المومني إن هناك إقبالاً من جميع الفئات العمرية، حيث يأتي إلى هنا فنانون ورجال أعمال وطلاب وغير ذلك للاستمتاع بالجو العام وخوض تجربة جديدة في حياتهم.

ويؤكد المومني، الذي كان يعمل كقائد لفرقة تابعة للكشافة التونسية، أن هناك إقبالاً كبيراً على السياحة الجبلية، خاصة في فصلي الصيف والشتاء، حيث يأتي هؤلاء للاستمتاع بالمناظر الجميلة والنسيم العليل.

صحة

المختص في علم النفس، منير الأحمدي، يشير إلى أن ارتباط الإنسان بالطبيعة حقيقة وواقع لا يمكن تجاهله مهما تطور الإنسان والصناعة والتكنولوجيا، فهو يبقى دائماً بحاجة إلى الغوص في تفاصيل الطبيعة والتأمل في ثناياها، ما يمنحه راحة نفسية ويرفع عنه غمام القلق والتعب الذي يخيم عليه نتيجة ضغوط الحياة اليومية.

"صحيح أن المدن توفر لك جميع الإمكانيات، من سرعة وراحة وتطور تكنولوجي وغيره، إلا أنها تبقى منقوصة من أهم عنصر فعال لعقل الإنسان وجسمه وهي الراحة النفسية".

ويتابع الأحمدي: "إن قضاء وقت أطول في أحضان الطبيعة كفيل بأن يجعلنا أكثر سعادة، ويُنصح به خاصة للأفراد الذين يعانون من الاكتئاب والقلق، وحتى الذين لديهم مشاكل زوجية، بحيث تمنحك الطبيعة طاقة بديلة تساعد العقل والجسم على الاسترخاء والتفكير بروية".

كما يشير الأحمدي إلى أن "قضاء يوم في الطبيعة بعيداً عن الأبواب الموصدة والجدران الإسمنتية سيجعلك سعيداً تماماً، وينطبق ذلك دائماً على الناس المهووسين بحب الطبيعة، والذين يقبلون على العيش في أحضانها، ولا يتماشى ذلك مع بعض الأطراف الذين يخافون من الطبيعة، اعتقاداً منهم أن هناك ثعابين وحيوانات مفترسة ستأكلهم، وهو ما يجعلهم يفكرون دائماً في كيفية البقاء على قيد الحياة، ولا يستمتعون باللحظة".

متعة

"أتينا إلى هذا المكان أنا وأصدقائي بحثاً عن الراحة النفسية والاسترخاء وللاستمتاع أيضا بالمناظر الجميلة، وخاصة ممارسة الرياضة في المسالك الجبلية، بعد أشهر من الانكماش بسبب الحجر الصحي الذي فرضته الدولة، ما ساهم في زيادة وزني بشكل ملحوظ"، هكذا تقول أحلام (27 عاماً)، لرصيف22.

وتؤكد زميلتها نرمين (29 عاماً)، والتي تعمل في موقع إلكتروني لقناة تلفزية، أن فترة الحجر الصحي التي قضتها في المنزل، بالإضافة إلى الأسلوب الجديد الذي باتت تستعمله المؤسسة من خلال العمل عن بعد، سبّبا لها نوعاً من الملل والاكتئاب حيث تقضي 24 ساعة داخل المنزل. وقد وجدت في هذا المكان خير رفيق لتغيير الأجواء وطرد القلق والاكتئاب.

وتضيف نرمين أن الوضع هنا مختلف تماماً، حيث تفتح عينيك على منظر سد بني مطير الشاسع والهادئ وظل الأشجار وزقزقة العصافير ورائحة الزعتر وإكليل الجبل، وهو عنصر كاف بالنسبة لها للشعور بالسكينة بعيداً عن القلق والاكتئاب الذي يفرضه نسق الحياة السريع والدقيق في المدينة، والذي لا يحتمل التأخير، حيث تطارد يومياً القطارات والحافلات والتاكسي، إضافة لزحمة المدينة الذي بات لا يحتمل، حسب قولها.

وعن طريقة قضاء اليوم هنا، تقول نرمين لرصيف22: "كل التفاصيل هنا رائعة، حيث يتم صباحاً تناول الفطور الذي يوفره لنا مركز التخييم، ثم ننطلق في جولة داخل المسالك الجبلية بين مدينتي عين دراهم وبني مطير، نلتقط الصور تحت الشلالات، نتسابق، نركض، نغني، نصيح، نتسلق الأشجار، وتنتهي الجولة بتناول الغداء في سهل في أعماق الجبال، ثم نعود إلى المخيم لتبدأ جولة أخرى من المتعة، فهناك من يذهب لأخذ قسط من الراحة، وهناك من يركب أمواج سد بني مطير للتجديف بالقوارب، كما لعشاق صيد السمك أيضاً نصيب، حيث يذهبون لاصطياد الأسماك استعداداً لحفل الشواء ليلاً، ومنهم من يذهب في جولة على الدراجات الهوائية".

"يأتي الليل وتنطلق حفلات الشواء وإعداد الطعام، وسط أجواء هستيرية، حيث يتجاذب الأصدقاء أطراف الحديث ويقومون بألعاب ترفيهية لتنتهي السهرة بعناق الأحبة"

"يأتي الليل وتنطلق حفلات الشواء وإعداد الطعام، وسط أجواء هستيرية، حيث يتجاذب الأصدقاء أطراف الحديث ويقومون بألعاب ترفيهية لتنتهي السهرة بعناق الأحبة".

سياحة بديلة

يقول الصحفي معز العويني، وهو من المولعين بالطبيعة: "منذ أن طغت مظاهر التمدن والتحضر على حياتنا انقطعت صلتنا بالبيئة الطبيعية، وأصبحنا أكثر ارتباطاً بما تمليه علينا الحياة اليومية ومشاغلها التي لا تنتهي، وحتى وسائل الترفيه والاستجمام انحصرت في قضاء ليال وأيام في أحد النزل، وهو الأمر الذي أصبح مملاً للبعض، إضافة إلى غلاء أسعار تلك الأماكن التي أصبحت حكراً على طبقة معينة".

يضيف العويني لرصيف22: "في المقابل، جاءت فكرة السياحة الجبلية لتقلب الطاولة على الجميع، وتعلن نفسها موضة جديدة في عالم السياحة، حيث تحمل في جرابها العديد من المفاجآت، وتقدم نفسها على أنها مزيج بين الراحة النفسية،حب المغامرة، الرياضة، ركوب الكاياك، قيادة الدراجات الهوائية، التجول في المسالك الجبلية والتخييم والسهرات التي تتخللها طاولات من المشاوي والمشروبات بأنواعها".

"إضافة إلى فوائدها الصحية والنفسية، فإن أسعارها معقولة وفي متناول جميع الطبقات، وهو ما يقدمها شوط آخر على البقية، حيث يكون سعر الليلة في البيوت الخشبية بالنسبة لـ 5 أفراد بـ 10 دولارات للفرد، وتزيد التكلفة كلما قل عدد الأفراد، حيث تصل إلى 15 دولاراً للشخصين. وبالنسبة لأسعار التخييم فالسعر يتراوح بين دولارين ونصف إلى 4 دولارات".

ويضيف العويني لرصيف22: "التخييم في الطبيعة يمنحك جرعة جديدة من الحب والأمل وصفاء الروح، لذلك عادة ما نلجأ لتلك الأماكن لنحكي همومنا ونبكي أحزاننا وننسى كل الجراح التي عشناها سابقاً، وننفث السموم التي تجرعناها داخل المدن، ونأخذ زادنا ونصيبنا من الهواء النقي والنسيم العليل، لنعود في أحسن حال".

جنة ضائعة

يقول صاحب مركز التخييم الحبيب المومني إنه تم اتخاذ إجراء بإدراج بلدية بني مطير ضمن المناطق المصنفة سياحياً، خاصة في ظل ما يتوفر فيها من مقومات طبيعية وجمال ساحر، إلا أن هذا القرار لم يتم تفعيله على أرض الواقع. حيث لم تشهد المنطقة أي تحسينات رغم الأموال الكبيرة التي رصدتها وزارة السياحة.

ويضيف محدثنا أنه مازال يواجه بعض الصعوبات مع بلدية المنطقة، رغم أن لديه ترخيصاً بعدما استكمل جميع الإجراءات مع محافظ الولاية.

ويشتكي سكان المنطقة من البنية التحتية المهترئة، كما يطالبون بالمزيد من العناية بالمدينة التي تدر على الدولة أموالاً طائلة من عائدات السياحة، وتساهم بصفة مباشرة في تدوير عجلة الاقتصاد وتقليل نسب البطالة.

ويقول ربيع (39 عاماً)، حلاق، متحسراً على حال قريته لرصيف22: "كان بإمكان الدولة أن تستثمر في هذه القرية الفريدة في جمالها وطبيعتها وتضاريسها لتكون منارة سياحية، لأنها تستقطب الزائرين في كل الفصول، عكس بقية المدن التي تنتهي فاعليتها بانتهاء فصل الصيف، لكن للأسف بقيت بني مطير… تلك الجنة الضائعة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard