كثيراً ما نسمع أشخاصاً من حولنا يتذمّرون ويشتكون من أن "شبح الماضي" يلاحقهم، يمنعهم من المضي قدماً في حياتهم ومن الاستمتاع بحاضرهم وباللحظات الآنية التي يعيشونها، والحقيقة أنهم ليسوا مخطئين في مزاعمهم.
إن كل يوم يمرّ في حياتنا هو ثمرة ما نحمله على كاهلنا من تجارب ماضية قد تقف عائقاً بيننا وبين أنفسنا، ومهما حاولنا التخلص من ماضينا ومن شريط ذكرياتنا فإن تأثير التجارب التي مررنا بها سيبقى يرافقنا، يحدد من نحن عليه اليوم ومن سنكون عليه في المستقبل.
من هنا من الواجب أن نلتفت إلى الماضي لكي نتأكد من التئام الجروح العاطفية التي اعتقدنا لوهلة بأن الزمن قادر على تضميدها، قبل أن نكتشف حقيقة أنها لا تلتئم بسهولة، بل وتترك ندوباً تكون في بعض الأحيان ظاهرة وعميقة.
ندوب عميقة
تشبه الجروح العاطفية التي نحملها من الماضي الجروح الجسدية التي، وبالرغم من أنها قد تلتئم بسرعة، إلا أنها قد تترك ندوباً عميقة في حال لم يتم التعامل مع الجرح الأساسي بشكل صحيح.
يعتقد الكثير من الناس أنه نستطيع أن ننسى حدثاً ما ونحذفه من ذاكرتنا بمجرد التوقف عن التفكير به، لكن الرغبة في أن يكون ذلك صحيحاً وما يحصل على أرض الواقع هما شيئان مختلفان، إذ إن معظم الجروح العاطفية التي تعود إلى الماضي ستبقى في منطقة اللاوعي، وبقدر ما نحاول الهروب من الأحداث والمواقف الصعبة وتجاهلها، فإن الذكريات لا تتركنا وتستمر في تقييدنا.
مهما حاولنا التخلص من ماضينا ومن شريط ذكرياتنا فإن تأثير التجارب التي مررنا بها سيبقى يرافقنا، يحدد من نحن عليه اليوم ومن سنكون عليه في المستقبل
ونحن كبشر دائماً في عجلة من أمرنا، بحيث أننا نحاول أن نوازن بين إجهادنا وقلقنا، والذي بدوره يتغذى من كمية الضغوطات والمسؤوليات الملقاة على أكتافنا. وهكذا، مع مرور الوقت تزداد الأعباء وننسى مدى أهمية التئام الجروح، وكل هذا يجعلنا ننفصل عن جوهرنا وعن روحنا.
في هذا الصدد، تحدث موقع Exploring your mind عن 3 جروح عاطفية يمكن أن تحوم فوق حياتكم وتسحبكم إلى الأسفل.
الجروح العاطفية المتعلقة باحترام الذات
هناك أوقات يتعرض فيها حبكم لذاتكم للخطر بسبب بعض التجارب السابقة، والواقع أن كل أنواع الرفض يمكن أن تؤدي إلى المعاناة لكونها تسبب ألماً ما من أحد محصن ضده.
ولكن عندما يكون الرفض ثابتاً أو عندما يحدث في سن مبكرة أو يأتي من قبل أعز الناس على قلبكم، فهذا يعني بأنه يتعيّن عليكم التعامل مع جرح عاطفي يصعب الشفاء منه بسهولة، فالاستهزاء، الإهانة، النقد المستمر واللوم غير المنصف كلها أمور ضارة وتؤثر سلباً على الشخص المتلقي.
بمعنى آخر، يمكن القول إن التعرض لشخصكم هي من الجروح العاطفية من الماضي التي يمكن أن تثقل كاهلكم طوال حياتكم، بخاصة وأن هناك بعض الأنواع من الجروح التي لا يمكن الشفاء منها بالكامل، لكن إذا تعاملتم معها بشكل صحيح، يمكنكم دائماً إحداث فرق، فلا يجب أن تسمحوا لأحد بالتأثير بشكل سلبي على ثقتكم بأنفسكم وتفاؤلكم بشأن الحياة.
الجروح العاطفية المتعلقة بالاستقلالية
تظهر الجروح العاطفية المرتبطة بالاستقلالية في المواقف التي يكون فيها شخص ما مسيطراً جداً عليكم، فيستخدم تلك القوة بشكل تعسفي، الأمر الذي يلحق الكثير من الضرر بالشعور الشخصي بالاستقلالية.
تأتي هذه الجروح من مختلف الأفعال والتصرفات التي تحاول تقييد حريتكم وقدرتكم على اتخاذ القرارات، كانتقادكم بشكل مستمر ومعاقبتكم لأسباب غير واضحة، بالإضافة إلى التعامل معكم بطريقة مهينة وكأشخاص غير كفوئين وعديمي الفائدة.
يمكن أن تسبب هذه الأنواع من الجروح العاطفية في خلق صعوبة في القيام بأي مبادرة أو منعكم من اتخاذ القرارات بشأن أشياء معينة، الأمر الذي يجعلكم إما خاضعين للآخرين أو شديدي التمرد من دون أي سبب واضح لذلك.
الجروح العاطفية المرتبطة بنقص عاطفي
إن أصعب الجروح العاطفية هي تلك المرتبطة بنقص في العاطفة والمودة، أي عندما يتم التخلي عن شخص ما أو رفضه عاطفياً. وفي العادة، يتسبب بعض الآباء في هذا النوع من الجروح أثناء تربية أولادهم، وذلك قد يكون نابعاً من تعرضهم للأذى العاطفي في طفولتهم، فيكررونه مع أطفالهم دون أن يدركوا.
في الكثير من الأحيان، يمكن أن تؤدي الجروح المتعلقة بنقص العاطفة إلى الشعور بالوحدة الشديدة بخاصة في لحظات الضعف، الأمر الذي يجعل المرء يعتقد أن لا أحد يراه مهماً، كما أنه يعطيه فكرة أن لا أحد يفهمه أو يقبله.
يمكن أن يكون لهذه الجروح الناتجة عن قلة المودة عواقب وخيمة على أي شخص يعاني منها، ففي بعض الأحيان يصبح المرء معتمداً بشدة على الآخرين، ما يخلق لديه حاجة دائمة للحصول على موافقة الأطراف الأخرى، فيحاول إرضاء الجميع طوال الوقت، وغالباً ما ينسى الالتفات إلى نفسه تماماً، كما أن حالته المزاجية تصبح مقرونة بمواقف الآخرين ومزاجهم.
عملية الشفاء من الجروح
هذه "العيّنة" من الجروح العاطفية التي ذكرناها في السطور السابقة، يمكن أن تعرقل سير حياتكم، بحيث أنها في العادة تمنعكم من النمو والتطور على الأقل في جانب واحد من شخصيتكم، وعليه، من المهم للغاية أن تلتفتوا إلى التجارب السابقة التي كان لها تأثير كبير على حياتكم اليومية، فالانكباب على الماضي سيحثكم على التفكير حول ما حدث بالضبط وكيف أثر عليكم.
تشبه الجروح العاطفية التي نحملها من الماضي الجروح الجسدية التي، وبالرغم من أنها قد تلتئم بسرعة، إلا أنها قد تترك ندوباً عميقة في حال لم يتم التعامل مع الجرح الأساسي بشكل صحيح
في حديثها مع موقع رصيف22، كشفت الأخصائية في علم النفس لانا قصقص، أن كل شخص سبق وأن تعرض لموقف صادم أو ضاغط، شعر خلاله أن كرامته قد تعرضت للإهانة وأن صورته الداخلية قد اهتزت، فهذا الأمر سيترك آثاراً وتداعيات نفسية عليه.
وأوضحت قصقص أنه في العادة لا يعبّر الكثير من الأشخاص عن المواقف السلبية التي سبق وأن تعرضوا لها في حياتهم، كما أنهم لا يواجهون الطرف الذي ألحق الأذى بهم، ما يترك في ذاكرتهم جرحاً غير ملتئم، من المحتمل أن يظهر ويطفو على السطح من جديد مع كل موقف مماثل يتعرض له هؤلاء الأشخاص.
وتحدثت لانا عن النقص العاطفي الذي يترك جرحاً عميقاً في نفوس الأفراد، بخاصة في حال بدأ في مراحل مبكرة من حيواتهم، وتحديداً في مرحلة الطفولة: "هذا الإهمال العاطفي والمقرون بحالة الرفض يجعل الولد يشعر بأنه غير مرغوب به، الأمر الذي قد يسبب جرحاً نرجسياً، لأنه يشكل تهديداً لوجود الشخص ويجعله يشعر وكأنه غير مرئي وسط المحيطين به، وبخاصة أهله الذين من المفترض أن يكونوا مصدر للحب والأمان بالنسبة إليه".
وبحسب قصقص، فإن هذه الجروح النفسية العميقة والناجمة عن الحرمان العاطفي قد تجعل المرء ينخرط في المستقبل في علاقات سامة وغير صحية، تتسم بالتفاوت في القوة والسلطة: "بكون الشخص عم بيتنازل عن أمور معيّنة لحتى يحصل على هيدا الحب يلي فقدوا من هوي وزغير"، مضيفة بأن هذه الحلقة المترابطة، بدءاً من الطفولة وصولاً إلى مرحلة البلوغ، تتسم بتكوين علاقات اجتماعية غير صحية ومبنية على ذكريات أليمة وتجارب مريرة لم تتم معالجتها بطريقة مناسبة، فتجعل المرء عرضة للعنف اللفظي والجنسي ولمواقف تشكل خطراً على صحته النفسية.
من هنا شددت لانا قصقص على ضرورة لجوء الشخص المعني إلى أخصائيين/ات نفسيين، بهدف مساعدته على بناء علاقات اجتماعية صحية وفهم ذاته ومشاعره بصورة أفضل.
باختصار، بقدر ما نتجاهل جروحنا العاطفية، فإن هذا لا يمنعها من ترك بصماتها على دماغنا وسلوكنا وحتى على خياراتنا.
والحقيقة أننا غالباً ما نميل إلى "جرّ" صدمات الطفولة، أو الأحداث العاطفية المهمة التي كان لها تأثير على حياتنا، إلى مرحلة البلوغ، ولكن إذا لم نتمكن من رؤية وتحليل ما حدث بشكل عقلاني، فإن شفاء الجروح العاطفية سيكون مستحيلاً، بل إن هذه الجروح ستبقى مفتوحة إلى ما لا نهاية، وسوف يستمر النزيف بغض النظر عن محاولة تجاهلها.
وبالتالي من المهم إيجاد طريقة ما لإنقاذ أنفسنا ولو كان ذلك بخطوات صغيرة وبسيطة، فبإمكاننا مثلاً النظر إلى الحزن في عينيه لمعرفة ما يحاول إخبارنا به أو إيجاد طريقة لاستهلاك الطاقة التي تأتي من عواطفنا السلبية دون الإضرار بأي شخص، هذا ونحتاج أيضاً إلى محاولة إعطاء لحظة راحة لقلقنا حتى يتمكن من استعادة نبضه الطبيعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...