شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ماذا تريد منّي الدولة؟ هل أقتل وأسرق؟"... ظاهرة التهريب في المدن الحدودية التونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 5 سبتمبر 202009:59 ص

"نحمل كفننا معنا في كلّ رحلة نخرج فيها لشراء البضائع التي تقول عنها السلطات مهرّبة. لا نعرف متى يدركنا رصاص الحرس الحدودي أو الدوريات الأمنية المتمركزة بين المدن، لكنّنا لا نستطيع التخلّي عن عملنا لأنّه مصدر رزقنا وقوت يوم عائلاتنا".

هكذا بدأ حسام (اسم مستعار)، ابن معتمدية ماجل بالعباس التابعة لمحافظة القصرين الحدودية، وسط غرب تونس، في عرض قصته مع عالم التهريب.

انقطع عن الدراسة منذ عامه التاسع بسبب عجز عائلته عن توفير مصاريفه خصوصاً أنّه الأخ السادس لثلاث بنات وولدين. يؤكد أنّه لم يختر طوعاً الدخول في تجارة تخالف سياسة الدولة، ولم يشأ أن يصبح "كناطري" (مهرّب) كما يسميه الجميع، بل اضطرّ إلى شقّ طريقٍ محفوفةٍ بالمخاطر لمساعدة والده الذي كان يعمل في إحدى المزارع القريبة، بأجرٍ يومي لا يتجاوز 10 دنانير (3.67 دولاراً) مع اعتبار مصاريف التنقل التي تبلغ حوالي ثلاثة دنانير يومياً (1.10 دولارات).

يقول حسام لرصيف22 إنّ التهريب هو التجارة الرائجة في مدينته، بل في كل المحافظة التي تزوّد باقي المحافظات الداخلية بالسلع التي تكون عادةً أقلّ ثمناً من باقي البضائع، لأنّ شباب هذه المحافظة لا يملكون خيارات كثيرةٍ لتوفير قوت يومهم.

حسام يعتب على الدولة، فمحافظته كان لها فضل كبير في إشعال لهيب الثورة التي أطاحت بنظام القهر والاستبداد، وطالبت بالعدالة الاجتماعية ولم تستفد منها، بل ظلّت مهمّشة ومنسيّة، بلا مصانع توفّر العمل للشباب العاطلين عن العمل، وبلا مؤسسات تحتضنهم. يتخبّطون في جغرافيا لا تركتهم يعيشون ولا ساعدتهم على الحياة.

حين تغيب الدولة يحضر التهريب

يُعَدّ التهريب شريان الحياة الرئيسي بالنسبة لخمس محافظات حدودية، ثلاث منها على الحدود مع دولة الجزائر وهي القصرين (حيدرة، فريانة، ماجل بالعباس) وجندوبة (غار الدماء) وقفصة (أم العرائس)، ومحافظتان على حدود دولة ليبيا وهما مدنين (بن قردان) وتطاوين (الذهيبة).

يُجمع أهالي هذه المناطق على أنّ التهريب عمل متوارث تناقلته أجيال متعاقبة، في ظلّ الغياب شبه الكامل لمظاهر الدولة التي لا تحضر سوى عبر دوريات الأمن، والتي قلّما يرونها.

يقول رياض (31 عاماً)، من مدينة حيدرة الحدودية، وسط غرب تونس، إنّ "الدولة لم تقدّم لنا شيئاً، ولم تفِ بوعودها التي قطعتها لشباب المناطق التي يحاصرها الفقر والإرهاب، ولم تحقّق مطلب الثورة بإرساء العدالة الاجتماعية. بقينا في الهامش مقارنة بالمناطق الساحلية والعاصمة. ومع كلّ هذا تريد دولتنا منعنا من التجارة مع الجزائريين، أي تريد فعلاً منعنا من الحياة".

رحلات التهريب تبدأ مساءً، يروي رياض. "بعد التنسيق بين ‘التاجر’ التونسي والمزوّد الجزائري، تنطلق السيارات التي وقع الاتفاق على ملئها على الساعة التاسعة مساءً صيفاً والسابعة شتاءً، عبر مسالك فلاحية بعيدةٍ عن أعين الأمن والجمارك، لكنّها لا تتجاوز الوادي (الحدّ الفاصل بين الجزائر وتونس غرباً)".

ويضيف: "في هذه النقطة نجد مهربين من الجزائر ممّن يتكفلون بتهريب المحروقات وبعض المنتجات التموينية الأخرى من داخل دولتهم بأسعار متدنية، عن طريق الحمير أو الخيول، لتقطع الوادي، وتوزّع حمولتها على السيارات، قبل أن تعود في آخر الليل".

أقلّ سيارةٍ تحمل بضائع قيمتها لا تقل عن 30 ألف دينار (11 ألف دولار)، يشرح رياض، فيما تتجاوز قيمة حمولات بعض السيارات التي تحمل البضائع الإلكترونية المئة ألف دينار (36 ألف دولار).

ويشير إلى أن بعض المهرّبين معلومين لدى الأجهزة الأمنية والديوانية (الجمارك) لكنّهم "يشترون الطريق بمبالغ تختلف حسب المسافة والبضاعة".

يقرّ رياض بأنّ هناك أعوان أمن يسمحون لهم بالمرور دون طلب أيّ شيء ويغضّون الطرف عنهم لعلمهم بالظروف الاجتماعية القاسية التي دفعتهم إلى المغامرة في هذا العمل ووعيهم بعجز الدولة عن توفير بدائل لهم، ويكتفون بنصحهم بضرورة ترك هذا العمل الخطير والبحث عن بديل.

ورغم تغاضي السلطات الرسمية في أغلب الأحيان عن تجار التهريب لما توفره لهم من موارد مالية تعجر عن توفير بديل عنها، فإنّها تعمل في مرات أخرى على التصدّي لهؤلاء المهربين عن طريق الدوريات المفاجئة على الحدود.

مورد رزق

تعيش من التهريب آلاف العائلات التي تعوّدت على تعاطي هذا النشاط الذي يدرّ عليها أرباحاً كبيرة لا يمكن أن توفرها الوظيفة المحكومة براتب شهري، حتى لو توفّرت. يواجهون مخاطر حقيقية جراء محاولات الإفلات من رقابة أجهزة الأمن والجيش والديوانة (الجمارك).

وبحسب إحصاءات أجرتها مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء حول "السوق الموازية لبيع المحروقات"، يشغّل هذا القطاع 20 ألف شخص أغلبهم من الأطفال والشباب، ويتركز نشاطهم في مناطق الجنوب والوسط التونسي.

"نحن هنا في الجنوب لا نعتبر ليبيا بلداً مجاوراً بل بلداً أمّاً، لأنّنا نستفيد منه أكثر مما نستفيد من تونس... ماذا قدّمت لي الدولة لأحافظ على اقتصادها؟ أبحث منذ 15 سنة عن عمل... ماذا تريد مني الدولة؟ هل أتحوّل إلى مجرم أو سارق؟"

يعتقد الباحث في علم الاجتماع صلاح الدين بن فرج أنّه يجب أن نتفهم هؤلاء الشباب الذين لم يجدوا حلاً سوى المجازفة، ودخول عالم التهريب لعدّة اعتبارات، منها بشكلٍ أساسي الواقع الموضوعي الذي فُرض عليهم والمتمثل في غياب التنمية في مناطقهم التي وقع تمييز سلبي ضدها على امتداد عقودٍ، فضلاً عن أنّ الدولة نفسها شرّعت لهذا الحل الذي استسهلته كحلّ سريعٍ ومؤقت يسهّل مهام التنمية في هذه المناطق، لكنّها لم تتدارك الأمر وبقي المؤقت متواصلاً.

ويقول بن فرج لرصيف22 إنّ ظاهرة التهريب عُرفت في تونس منذ القدم، حين لم تكن الحدود بين الدول عائقاً، وتواجدت تقاليد علاقات قديمة، وعائلات متصاهرة بحكم قرب المسافات بين المدن الحدودية، سهّلت عملية تبادل السلع، والبيع والشراء، وشرّعت لنوعٍ من التعاقد غير المستقر والمغشوش بينهم وبين الدولة التي سمحت بإدخال سلعٍ دون أخرى، لكنّ الوضع تغيّر لاحقاً، إذ صار هؤلاء الشباب يدفعون ثمن كل خلاف يحدث بين الدولتين.

ويلفت إلى أنّ بعض هذه المناطق بقيت خارج حسابات الحكومات، ولم تدخلها الدولة أبداً، وظلّت مهمّشة دون طريقٍ ولا مستوصف (مركز صحي أصغر حجماً من المستشفى، لا يحتوي على غرف عمليات ولا غرف تنويم، ومهمته توفير العلاج الضروري والإسعافات الأولية) ولا ماء ولا كهرباء، وحين اجتمع ذلك مع عدم تحقيق شعارات ثورة يناير 2011، وفي مقدمتها التشغيل، ظهر جيل مستعد للانتحار مقابل العيش الكريم.

أرباح المهربين وخسائر الدولة

بحسب شهادات متطابقة أدلى بها لرصيف22 عددٌ من المهرّبين في محافظة القصرين، ويرفضون الإدلاء بأسمائهم خوفاً من ملاحقتهم أمنياً، تصل الأرباح اليومية لصغار المهربين المتأتية من تهريب المحروقات إلى 150 ديناراً (80 دولاراً)، خلال رحلة تتطلب خمس أو ست ساعات ذهاباً وإياباً، يملأ خلالها المهرّب أوعيته البلاستيكية التي يتراوح عددها بين 200 و240 وعاء يتسع كل واحد منها لـ20 لتراً، بالبنزين ثم يعود أدراجه ليقوم بتوزيعها على تجار يتوزعون على نقاط بيع على جوانب الطرقات العامة، ويرتفع السعر الذي يدفعونه كلّما بعدت المسافة عن الحدود.

أما أرباح كبار المهربين فتصل يومياً إلى 200 ألف دينار (73 ألف دولار)، وهؤلاء يعملون على نقل النفط على متن شاحنات كبيرة مهيّئة لنقل من ستة إلى عشرة أوعية بلاستيكية كبيرة سعة الواحد منها بين ألف وألفي لتر، تقوم برحلة أو اثنتين يومياً.

مقابل ذلك، يؤكّد الخبير الاقتصادي صادق جبنون أنّ الاقتصاد الموازي يكلّف البلاد خسائر كبيرة تقدّر بحوالي 31% من الناتج الداخلي الخام، لافتاً إلى أنّها تستحوذ على جزءٍ هامٍ من تجارة العملة، نظراً إلى أنّ مجلّة الصرف لا تسمح بإرساء سوق عملة في تونس.

وحذّر جبنون في حديثه لرصيف22 من أنّ الخطير في الأمر أنّ التهريب بات يعوّض غياب الدولة، إذ يشغّل بين مليون ونصف ومليون شابٍ عاطلٍ عن العمل، وأصبح ملجأ لخريجي الجامعات، أمام أنظار السلطات، وهو ما سيؤدي إلى نتائج سلبية جداً، خصوصاً إذا ما ارتبط بالجريمة المنظمة وبالإرهاب، داعياً الدولة إلى ضرورة استيعاب هذا القطاع الموازي وهيكلته.

محافظة القصرين كان لها دور كبير في الثورة التي أطاحت بنظام القهر والاستبداد، وطالبت بالعدالة الاجتماعية دون أن تستفيد منها، فقد ظلّت مهمّشة ومنسيّة. أبناؤها يتخبّطون في جغرافيا لا تركتهم يعيشون ولا ساعدتهم على الحياة

من جانبه، يؤكد المحلل و المؤرخ العسكري فيصل الشريف أنّ الدولة قادرة تقنياً على القضاء على ظاهرة التهريب، عبر تطوير الجهاز الرقابي للديوانة (الجمارك) والعسكر والحرس الحدودي، وتدعيمه بالأجهزة المتطورة، لافتاً إلى أنّ السلطات، سواء المركزية أو الجهوية والمحلية، لديها المعلومات الكاملة حول كبار المهرّبين، فيما يعلم الحرس الحدودي والجمارك والعسكر جيّداً مسالك صغار المهرّبين الخفية، ويستطيعون تعقبهم، لكنهم يراعون أوضاعهم الاجتماعية في أغلب الأحيان.

ويشدّد الشريف على أنّ الإرادة السياسية لو توفرت لتم إنقاذ الاقتصاد الوطني، عبر التعويض لهؤلاء المهرّبين وتمكينهم من مشاريع توفّر فرص عمل، أو تمكينهم من تسهيلات مالية للحصول على قروض لإنشاء مشاريع خاصة تفيد الجهات والدولة عموماً.

إما التهريب أو التنمية والتشغيل

بابتسامةٍ ساخرةٍ، يقول عماد لافي، ابن مدينة بن قردان، وهي مدينة حدودية في أقصى جنوب شرق تونس، لرصيف22: "انتشار أكشاك بيع الوقود المهرّب على امتداد المدينة، وعلى قارعة الطرقات أمر عادي هنا. غير الطبيعي هو وجود محطات وقود منظّمة، فليس هناك مَن يشتري منها، كما أنّ أغلب محلات بيع الملابس والأغذية تعتمد على السلع المهرّبة من ليبيا"، ويضيف: "نحن هنا في الجنوب لا نعتبر ليبيا بلداً مجاوراً بل بلداً أمّاً، لأنّنا نستفيد منه أكثر مما نستفيد من تونس".

عماد، رجل في الثلاثين من عمره، متزوج وأب لطفلتين، لا يخجل من المجاهرة بعمله في التهريب، ولا يمانع من ذكر اسمه كاملاً، لأنّه لا يخشى ملاحقات الدولة التي عجزت عن توفير مستوى عيش محترم له. يؤكد أنّه سعيد بمهنته لأنّه يكسب لقمة عيشه بطريقة حلال وبعرق جبينه.

ويقول بنبرةٍ حادّةٍ: "ماذا قدّمت لي الدولة لأحافظ على اقتصادها؟ أبحث منذ 15 سنة عن عمل محترم يكون بديلاً عن حرفة التهريب دون جدوى، وحاولت مرّات عدّة طلب قرض مصرفي من أجل بناء مشروع لكن طلبي يُرفَض دائماً. ماذا تريد مني الدولة في هذه الحالة؟ هل أتحوّل إلى مجرم أو سارق؟".

وبسبب تنامي ظاهرة التهريب، تتوالى أخبار مقتل مهرّبين على أيدي الجيش التونسي، حين لا يمتثلون لإشارات الوقوف، وتعقب ذلك احتجاجات عارمة للأهالي أثناء كلّ حادثةٍ من هذا النوع، آخرها في تموز/ يوليو 2020، حين خرج مئات المحتجين الذين يردّدون شعار "إما أن نعيش حياة جيّدة، وإما أن نموت جميعاً!"، احتجاجاً على مقتل شابٍ داخل سيارة تهريب خالف أوامر العساكر.

وتصدرت نساء عديدات، أغلبهن مسنّات، التظاهرة التي نددت بتهميش المنطقة والبطالة المنتشرة في صفوف شبابها، مطالبات الرئيس بزيارتها والوقوف على معاناة شبابها الذين رموا أنفسهم في المخاطر، ويتسلّلون بين رصاصات الجيش التونسي والليبي لتوفير قوت يومهم.

هذا ولا تزال الحكومات التونسية المتعاقبة غير قادرة على تنفيذ البرامج التنمويّة في المناطق الحدودية التي تحتاج إلى إيجاد بديل عن التهريب للسكان، ولا يزال ارتفاع نسبة البطالة في المحافظات الحدودية يشكّل بيئة خصبة لتركز شبكات التهريب المنظمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image