لطالما اعتادت إيفون سرسق، المعروفة باسم "الليدي كوكرن"، احتساء الشاي بعد الظهر، في قصرها الواقع في منطقة الأشرفية اللبنانية، إلا أن الانفجار الضخم الذي هزّ مدينة بيروت في 4 آب/ أغسطس، أدى إلى إلقائها على بعد أمتار من الشرفة، الأمر الذي تسبب بإصابتها بجروح وكدمات، بالإضافة إلى تضرر قصرها الذي يعتبر تحفة فنية وجوهرة نفيسة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على حادثة المرفأ وتدهور صحتها، أغمضت "سيدة القصر" عيونها ليل أمس إلى الأبد، وأطفأت شمعة حياتها عن عمر ناهز 98 عاماً.
فمن هي هذه السيدة الأرستقراطية التي عشقت بيروت حتى الرمق الأخير، ودافعت طوال حياتها عن التراث المعماري؟
مشوار حياتها
منذ بنائه في العام 1860، تمكن "قصر سرسق" من الصمود بوجه الحرب العالمية الأولى والثانية، كما كان شاهداً على الاحتلال العثماني، الانتداب الفرنسي واستقلال لبنان، غير أن انفجار بيروت شكل ضربة قاسية له ودمره بلحظات معدودة.
وإثر سقوط الواجهات الزجاجية بشكل كامل وأسقف القصر المزخرفة بأيادي حرفيين لبنانيين وأوروبيين، أصيبت "الليدي كوكرن" بجروح وكدمات، فتم نقلها إلى المستشفى إلا أن قلبها لم يحتمل، على ما يبدو، مشهد الدمار الذي أصاب مدينتها الحبيبة، فاستسلمت للموت.
تعتبر إيفون سرسق من الوجوه البارزة في بيروت منذ الستينيات، فهي رائدة في مجال الثقافة، ومن المدافعات "الشرسات" عن تراث بيروت والأبنية المعمارية القديمة
تنتسب إيفون سرسق إلى واحدة من العائلات الأرثوذكسية العريقة في الأشرفية، ولدت في 18 مايو 1922، وهي الابنة الوحيدة للأرستقراطي ألفريد سرسق، الذي لعب دوراً سياسياً بارزاً في عهد الإمبراطورية العثمانية، أما والدتها فهي دونا ماريا تيريزا سيرا دي كاسانو، ابنة فرانشيسكو سيرا، دوق كاسانو السابع.
في العام 1946، تزوجت إيفون من السير الإيرلندي ديسموند كوكران، بعد أن تعرفت عليه في منزل حبيب طراد، الوصيّ الذي اختارته العائلة لها بعد وفاة والدها.
ورثت "الليدي كوكرن" قصر سرسق وعاشت فيه حتى مماتها، ورحلت مصطحبة معها اجزاء من بيروت طالما أحببناها.
الدفاع عن التراث
تعتبر إيفون سرسق من الوجوه البارزة في بيروت منذ الستينيات، فهي رائدة في مجال الثقافة، ومن المدافعات "الشرسات" عن تراث بيروت والأبنية المعمارية القديمة في وجه الهجمات العمرانية التي أرادت تغيير ملامح بيروت القديمة والأثرية.
كرّست "سيدة القصر" حياتها للوقوف في وجه محاولات تشويه التراث اللبناني، وإعادة بناء التراث المعماري الذي دمرته الحرب الأهلية، وخاضت مسيرة طويلة من النضال الثقافي والفني.
ففي العام 1960، أسست جمعية Apsad التي تعنى بحماية المواقع والمنازل القديمة، كما ترأست متحف سرسق من العام 1960 حتى العام 1966، وعملت على إطلاق "صالون الخريف" بنسخته اللبنانية، والذي كان له الفضل في اكتشاف العديد من المواهب ومساعدة فنانين/ت ناشئين/ات على شق طريقهم/نّ نحو النجومية والشهرة، على غرار ميشال بصبوص، إيفيت الأشقر، إيلي كنعان، بول غيراغوسيان، عارف العبد، عادل صغير...
هذا وقد حرصت "الليدي كوكرن" في اليوم الوطني للتراث من كل عام، على فتح أبواب قصرها أمام الزوار، ليتجولوا في أرجائه ويعاينوا عن قرب قيمته التاريخية والفنية.
مجزرة أثرية
لطالما حلمت إيفون سرسق بوطن تسود فيه القيم ويربط التراث بين جذور الإنسان وأرضه، وأحبت "سيدة القصر" مدينة بيروت العابقة بالتاريخ والتراث وحزنت على الأحوال التي وصلت إليها بسبب بعض "المخربين".
الليدي كوكرن" ولدت مع ولادة لبنان الكبير، وغابت في ذكرى مئويته
وبالرغم من أنها كانت قليلة الكلام ولا مكان للانفعالية في أجوبتها، إلا أنه وفي إحدى المقابلات التي أجريت معها خلال التسعينيات، وصفت عملية إعادة الإعمار الفوضوية والتي كانت مدفوعة بالأرباح، في العاصمة بعد الحرب الأهلية المدمرة، بأنها ليست أكثر من "مجزرة أثرية".
وبعد مرور عقد على طوي صفحة الحرب اللبنانية، قالت سرسق بمنتهى الصراحة والشفافية: "بيروت التي كانت يوماً ما بهجة البحر الأبيض المتوسط، تحولت إلى ساحة خردة"، إلا أنها أعربت عن ثقتها بعودة هذه المدينة مرة أخرى "حديقة الشرق الأوسط".
رحلت "سيدة القصر" تاركة وراءها إرثاً ثقافياً كبيراً وقصراً عابقاً بالتاريخ يشكل الذاكرة التراثية والثقافية في لبنان
بالأمس، خسر لبنان وجهاً بارزاً بعد أن توقف قلب إيفون سرسق تماماً، كما توقفت عقارب الساعة في مدينة بيروت، عند الدقائق الأولى بعد السادسة مساء من يوم 4 آب/ أغسطس، وانتهى مشوار حياة "الليدي كوكرن" التي ولدت مع ولادة لبنان الكبير، وغابت في ذكرى مئويته، دون أن ترى "بيروتها المنكوبة" وحجم الخسائر الفادحة التي طالت قصرها، على الصعيدين التراثي والفني، نظراً لما يتضمنه من مقتنيات وقطع فنية تاريخية نادرة لا يمكن تعويضها مادياً.
رحلت "سيدة القصر" تاركة وراءها إرثاً ثقافياً كبيراً وقصراً عابقاً بالتاريخ يشكل الذاكرة التراثية والثقافية في لبنان، باعتباره شاهداً بجدرانه وباحاته ولوحاته الزيتية وجدارياته الأثرية وثرياته النادرة، إضافة إلى أبوابه الحديدية والنحاسية، على أمجاد الماضي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين