قبل أن تبدأ الحياة بالحدوث على الإنترنت، مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، كانت، وربما لن تصدق ابنتي ذلك، تحدث في الواقع، خصوصاً العلاقات العاطفية تحديداً.
كان الناس فعلاً يتبادلون رسائل ورقية، يتهادون زهوراً أو كتباً ويَشِمُون قلوباً على زنودهم، ثم يتشاجرون لأسباب سخيفة غالباً، ويشطبون تلك القلوب بالمشارط الحادة، وينتهي كل هذا كما بدأ، كأنه حلقة من مسلسل فاشل.
كنوع من التذكير بحياة كانت تحدث سابقاً في مكان آخر، غير لوحات المفاتيح والنصوص التنبؤية والإيموجي، يقدّم "متحف القلوب المكسورة" في زغرب عاصمة كرواتيا، فكرة جنونية عن العلاقات العاطفية التي تنتهي نهايات سيئة.
قبل أن تبدأ الحياة بالحدوث على الإنترنت، مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، كانت، وربما لن تصدق ابنتي ذلك، تحدث في الواقع، خصوصاً العلاقات العاطفية تحديداً.
بدأت الفكرة في عام 2006، حين خطر لزوج من العشاق، تركا بعضهما بعد قصة حب طويلة، هما دراسين جروبشيتش وأولينكا فيشتيكا، فكرة أن يعرضا الأشياء التي تبادلاها خلال علاقتهما، ثم في السنين اللاحقة تم استقبال العديد من الأشياء من أزواج آخرين: دمى محشوة ملونة، أوراق صغيرة مكتوب عليها ملاحظات غرامية، كـ"أحبك كأنك كوبي المفضّل"، "لا تنس الزبالة وأنت نازل"، "لبنة، بطاطا، فروج، سائل جلي" أو "من بعدك كرهت كل الرجال"، علب عطر فارغة، مناديل ورقية مطبوع عليها آثار شفاه بالروج، حذاء تم إهداؤه في فالنتاين ما، ألبسة داخلية مثيرة، أزرار معاطف، بيجامات حريرية، زجاجات نبيذ، واقيات ذكرية، فوط صحية حتى...
لاقى المعرض نجاحاً غريباً ومستمراً، لدرجة أنه الآن ثمة 56 معرضاً مماثلاً في 20 دولة مختلفة، بعضها ثابت طوال العام، يتبنى الفكرة ذاتها ويروّج لها ويستقبل السيّاح.
واجه هذا المشروع انتقادات متعددة من "نقاد الفن" المحنّطين بالنظريات الفنية، قائلين: "هذا ليس فناً"، فردّ المنظمون: "نحن لا نعتبره كذلك، إنه عاطفة سائلة فحسب".
الحياة لا تحدث هنا
عندما اكتشفت الحقيبة الأولى التي أهديتها لحبيبتي، في سلة النفايات، بعد عشر سنوات من الزواج، عرفت أن شيئاً ما انكسر (ليس قلبي بالتأكيد، فلا أظنّ أني أمتلك واحداً، ويشهد الله أني لم أر دماً ينزف مني منذ زمن، بل قهوة محمرّة ونيكوتين فحسب)، لكن هذا يعني أني لا أستطيع المشاركة في متحف كهذا، بل ربما يكون "متحف الضفادع المحبة لموسيقا الجاز"، أو "متحف الأسماك الممارسة للاستمناء" مناسباً أكثر لشخص مثلي.
أجزم أن متحفاً من هذا النوع في سوريا سيتحوّل فجأة، من معرض عاطفي رقيق، إلى فرصة لتضخّم الذات الوطنية الرديئة على حساب الذات الإنسانية الهشة والخفيفة، ستزداد فيه الأحذية العسكرية وتقلّ رسائل الاستغاثة والخوف، سيرتفع قرع الطبول وتقل الأغاني العاطفية
إنه ببساطة عرض حيّ لشيء يكاد يندر وجوده الحالي في علاقات اليوم الغريبة، عرض عواطف مجففة كعقود البامياء، على هيئة هدايا وملاحظات مكتوبة على البراد أو على المرآة في الحمام. ربما الاعتراض يأتي من مكان إقامة العرض العاطفي هذا، "المتحف"، حيث من المعتاد أن يعرض المتحف تماثيل نادرة، أثرية أو في طريقها لأن تصبح كذلك، لكن العواطف البشرية أيضاً قد ينطبق عليها الشيء نفسه: في طريقها لأن تصبح نادرة.
"كانا اثنين
أهدته قلماً للكتابة
وأهداها حذاء خفيفاً للنزهات
بالقلم كتب لها: وداعاً
وبالحذاء الخفيف ذهبت لتودعه."
في هذه القصيدة اللطيفة لرياض صالح الحسين، نلمس القيمة الهشة للعلاقات العاطفية، لكن أيضاً نتحسس بدقة أثرها في النفس وما يتبقى منها، بعد "تحطم القلوب"، إذ يبدو أن الأحذية الخفيفة، وبالرغم من خفّتها، تتمتع بطبيعة أقوى وقدرة أكبر على الاستمرار.
كما أن الفرد، في وجوده اليومي، زائل وهش وسريع العطب، ولجعله ملموساً ينبغي توثيقه، تسجيل وجوده المتغير في كل لحظة.
نسيت أن أقول إن الحقيبة المرمية في سلة المهملات كانت صالحة للاستعمال: مرة أخرى يتفوّق الجلد الصناعي على العواطف البشرية.
متلازمة القلب المكسور
هي حقيقية كما القطط السوداء، وبالرغم من أنه يتم الخلط بينها وبين النوبات القلبية الاعتيادية، إلا أنها موجودة في سجل الأمراض بل وتحمل اسماً حتى: "تاكو-تسوبو"، رغم أني أميل لإعطائها اسماً آخر، مشتقاً من أسماء مجموعة من الزوجات اللواتي لا يتمتعن بذاكرة جيدة، الحبيبات ضعيفات الإرادة أمام متاجر المجوهرات والفتيات الخائفات من التغيير، وطبياً لا تعتبر هذه المتلازمة خطيرة للغاية، خصوصاً بالنسبة للرجال، فهي عند النساء تبلغ خمسة أضعافها عند الرجال، ذلك أن قلوب الرجال، كما تعلمن، مصنوعة من مواد أشد صلابة، كنعال الأحذية الإيطالية مثلاً.
ثمة داخل كل منا ما يكفي من الألم والوحدة لدراسة العصور القديمة جميعها، منذ أن اكتشفنا النار وحتى بدأنا في استخدامها لحرق المارشميللو، يكفي أن نتوقف دقائق ونتمعّن في عيون بعضنا البعض لنرى موجز تاريخ اليأس الكلّي.
أفكار لمتاحف أخرى
فيما مضى، خطر لي أن متحفاً مماثلاً قد يكون جديراً بالتواجد في سوريا، لكن هذه المرة مع القلوب المكسورة بطريقة مختلفة، قلوب الأمهات، الزوجات والحبيبات، اللواتي فقدن أحباءهن في الحرب السورية: رسائلهم النصية، أفلامهم وأغانيهم المفضلة، متعلقاتهم الشخصية، حمّالات مفاتيحهم، بناطيلهم، ستراتهم، علب تبغهم، ما تبقى منهم إثر الاعتقال، التفجير أو الهجرة... لكني أجزم أن متحفاً من هذا النوع في سوريا سيتحوّل فجأة، من معرض عاطفي رقيق، إلى فرصة لتضخّم الذات الوطنية الرديئة على حساب الذات الإنسانية الهشة والخفيفة، ستزداد فيه الأحذية العسكرية وتقلّ رسائل الاستغاثة والخوف، سيرتفع قرع الطبول وتقل الأغاني العاطفية، وسترتفع صور السيد الرئيس على الساعات والقمصان وتنخفض صور الموتى والمفقودين، فالوطنيون، كما نعلم، يفسدون الوطن.
أو ربما "متحف الانتحار"، ويكون على هيئة صالة كبيرة، تحوي الأشياء التي استخدمها المنتحرون والرسائل التي كتبوها قبل أن يموتوا: حبال مجدولة من قمصان عتيقة أو من ملاءات الأسرّة، بنادق حربية، شفرات حلاقة، حبوب الفاليوم المتبقية، ثم اكتشفت فشل المشروع، ذلك أن البعض ينتحر عبر الصلاة، والبعض عبر الزواج: كيف أستطيع أن أضع جامعاً، بمئذنته وإمامه ومصلّيه، في صالة عرض، أو كيف سأقنع عائلتين كاملتين (مع شاهدين اثنين وقاض شرعي) بالإضافة لمئتين من المدعوين، بالوقوف لساعات في متحف.
الفكرة الأخيرة هي "متحف الحيوانات المستعملة للنوم"، هي ليست زرافات محشوة، دببة أو ما شابه من الدمى التي يحتضنها الوحيدون ليناموا بسلام، هي أقرب ما تكون لحوارات نجريها قبل النوم، نقوم بمنحها جلداً ملوناً ونظن أنها قد تصلح للغفران، لكنها محشوة بالألم العاري، بالأحلام المذبوحة والدموع الصامتة، أشواكها بارزة، كالأفكار الأخيرة التي تراودك وأنت تشرف على السقوط في هاوية النوم: "لماذا لم أقل تلك الجملة" أو "كيف أستطيع أن أتخلص من الذنب"، هذه أفكار نعم، لكن نستطيع أن نصنع لها متحفاً على هيئة أكواب مطبوع عليها أغان عاطفية، لوحات قديمة لابنة في الخامسة، صور بالأبيض والأسود لعائلة تبدو سعيدة، خواتم زفاف، ملابس قطنية تستخدم للجنسين، رسائل مكتوبة بالرصاص في السجن، مشاعر مجدولة على هيئة شعر أشقر طويل طويل كالندم.
ماذا يوجد في الجوارير المغلقة؟
لا أظن أننا نحتاج بعد الآن لمتاحف، وعملية دراسة الأجناس البشرية، طرق حياتهم وأساليب عيشهم لا تحتاج متحفاً بعد الآن، نستطيع أن نجدها على يوتيوب وفي الكتب الكثيرة والدراسات: كل منا أصبح متحفاً بمفرده، داخل دهاليزنا وممرّاتنا الجوفاء، داخل عقولنا الفارغة إلا من الصناديق الزجاجية وإطارات اللوحات الخشبية يكمن أكثر من معرض وأكثر من متحف، ثمة داخل كل منا ما يكفي من الألم والوحدة لدراسة العصور القديمة جميعها، منذ أن اكتشفنا النار وحتى بدأنا في استخدامها لحرق المارشميللو، يكفي أن نتوقف دقائق ونتمعّن في عيون بعضنا البعض لنرى موجز تاريخ اليأس الكلّي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...