استحوذت واقعة استشهاد حفيد الرسول، الحسين بن علي، في كربلاء، في العاشر من المحرم 61 هـ، على قدر هائل من الأهمية والاعتبارية في العقل الشيعي الجمعي، إذ جرى استحضارها كل عام، كما ارتبطت بمجموعة من الطقوس والشعائر، التي أثّرت في المجال العام وتفاعلت مع الواقع السياسي، من خلال رفع شعار: "كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء".
هذا التأثير تجلى في العديد من الصور، ومن أهمها مجموعة من العبارات والتراكيب اللغوية البلاغية ذات الدلالات القوية، العابرة للزمان والمكان، والتي توثقت صلتها بشخصية الحسين على مر الأجيال.
وفي حين تتفق بعض تلك العبارات مع الظروف التاريخية العصيبة التي وقعت فيها أحداث كربلاء، فإن البعض الأخر منها قد أُنتج بواسطة المخيال الشيعي الخصب، ذلك الذي تشكلت ملامحه فيما يزيد عن الأربعة عشر قرناً.
"لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"
لما كانت المصادر الشيعية قد أكدت على أهمية حادثة استشهاد الحسين في كربلاء، وعلى مركزيتها في تشكيل التاريخ الإسلامي كله، فإنها قدمت مجموعة كبيرة من الروايات المُنذرة بوقوع تلك الحادثة، والتي نُسب بعضها للرسول نفسه.
أنذر الحسن، وهو على فراش الموت، أخاه الحسين بهول المصاب الذي سيلاقيه في أرض كربلاء، بقوله: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" لتبقى هذه العبارة حاضرة، تتردد أصداؤها في الوعي الشيعي الجمعي، مبرزةً حجم التضحية التي قدمها الحسين
أحد أهم تلك الروايات، تلك التي أوردها محمد باقر المجلسي، في كتابه "بحار الأنوار"، والتي جاء فيها أن الحسين لما بكى بكاءً مراً وقت احتضار أخيه الأكبر، الحسن بن علي، فإن الحسن قد هدأ من روعه، وأخبره أن ما يعاني منه الآن لن يساوي شيئاً أمام هول المصاب الذي سيلاقيه الحسين في أرض كربلاء.
وبحسب ما جاء في الرواية على لسان الحسن: "إن الذي يؤتى إلي سُم يُدس إلي فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدنا محمد صلى الله عليه وآله وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، تمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء، حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار".
هذه الصورة المستقبلية القاتمة، ستقدم إرهاصاً لما سيجري بعد أحد عشر عاماً كاملة في أرض العراق، وستظل جملة "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" حاضرة، تتردد أصداؤها في الوعي الشيعي الجمعي، لتبرز حجم التضحية التي قدمها الحسين يوم ألطف، رغماً عن معرفته بمصيره المحتوم، فيما يشبه نبوءات العرافين المأساوية التي لطالما ظهرت في سياقات الملاحم والميثولوجيا اليونانية القديمة.
"أتعرف ما معنى الكلمة؟"
في العام ستين من الهجرة، توفى الخليفة الأموي الأول، معاوية بن أبي سفيان، في دمشق، وسارع ابنه وولي عهده، يزيد، بمطالبة المسلمين بالبيعة، فأرسل إلى والي المدينة الوليد بن عتبه، يأمره بضرورة التحصل على بيعة الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير تحديداً، لكونهما أهم أقطاب المعارضة المتوقعة في ذلك الوقت.
بحسب ما تتفق عليه المصادر التاريخية، فإن كلاً من الحسين وابن الزبير قد رفضا بيعة يزيد، وسارعا لمغادرة المدينة وتوجها لمكة. هذا الموقف تحديداً، استوقف العديد من الشعراء والكتاب والمبدعين، الذين عملوا على تحليل أسباب رفض الحسين للمبايعة، وذهبوا إلى أن رفضه كان مبنياً بالأساس على إحساسه بحجم المسؤولية المُلقاة على كاهله، وبأن تلك الكلمة البسيطة التي يطالبه والي المدينة بترديدها، سوف تفتح الباب واسعاً أمام تغول السلطة الأموية والقضاء المبرم على أي معارضة لها.
من أهم من عبّر عن ذلك المعنى، الشاعر المصري عبد الرحمن الشرقاوي، في مسرحيتيه "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً". الشرقاوي كتب في صفحة الإهداء، مفسراً لاختياره شخصية الحسين تحديداً، لبطولة أحداث روايته: "إلى ذكرى أمي أهدي مسرحيتي (الحسين ثائراً) و(الحسين شهيداً). لقد حاولت من خلالهما أن أقدم للقارئ والمشاهد المسرحي فيه أروع بطولة عرفها التاريخ الإنساني كله دون أن أتورط في تسجيل التاريخ بشخوصه وتفاصيله التي لا أملك أن أقطع فيها بيقين، إلى ذكرى أمي التي علمتني منذ طفولتي أن أحب الحسين، ذلك الحب الحزين الذي يخالطه أغلب الإعجاب والإكبار والشجن، ويثير في النفس أسى غامضاً وحنيناً إلى العدل والحرية والإخاء وأحلام الإخلاص".
في منولوج الكلمة، وهو واحد من أهم المنولوجات الواردة في المسرحية، يكثف الشرقاوي الحديث عن رفض الحسين لبيعة يزيد، فيقول على لسان الأول موجهاً خطابه لوالي المدينة:
"أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة فى كلمة... دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة نور... وبعض الكلمات قبور
بعض الكلمات قلاع يعتصم بها النُّبل البشري
الكلمة فُرقان ما بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور... ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم!
الكلمة زلزلت الظالم... الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة
شرف الله هو الكلمة."
هذا المنولوج اشتهر كثيراً بعدما أداه العديد من الفنانين، حتى صار لصيقاً بذكرى استشهاد الحسين في كربلاء، وصار من المعتاد أن يتم استحضاره في كل ذكرى لعاشوراء.
"قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"
بعد أن استقر الحسين بن علي في مكة، أرسل له شيعة الكوفة عشرات الرسائل، طالبوه فيها بأن يقدم عليهم لينصروه ويبايعوه ويوفروا له الحماية والدعم.
على سبيل المثال، يذكر ابن جرير الطبري، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، نموذجاً لرسالة من تلك الرسائل، وقد جاء فيها: "إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي فأقدم علينا". أيضاً، وبحسب ما يذكر ابن شهر أشوب المازندراني، في كتابه "مناقب آل أبي طالب"، أن مجموعة من كبار الشيعة قد أرسلوا يستقدمون الحسين، فكان مما جاء في رسائلهم إليه: "إنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضرَّ الجناب وأينعت الثمار وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت فإنّما تقدم على جندٍ لك مجنّدة".
ستظل الرسائل المتكررة من الكوفيين للحسين حاضرة في الوعي الشيعي، لتشهد على حجم الخيانة التي تعرض لها الحسين، وكيف أن الجزء الأكبر من أهل الكوفة قد تخلوا عن نصرته، ليتحقق فيهم قول الفرزدق للحسين: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك"
الحسين، رد على تلك الرسائل، مبدياً موافقته المبدئية على الانتقال للكوفة، وبحسب ما يذكره أبو حنيفة الدينوري، في كتابه "الأخبار الطوال"، فإن الحسين قد بعث برده إلى الكوفيين: "مِن الحُسينِ بن عَلي إِلى مَن بلغهُ كتابي هذا مِن أوليائِه وَشيعَتِه بالكوفة: سلامٌ عليكم، أما بعد: فَقَد أتَتْني كُتُبكُم، وفهمتُ ما ذكرتُم مِن مَحبَّتِكم لِقُدومِي عَليكم، وأنا بَاعثٌ إِليكم بِأخي وابنِ عَمِّي وثِقتي من أهلي مسلم بن عقيل، لِيعلمَ لِي كُنْهَ أمْرِكُم، ويكتبَ إِليَّ بما يَتبَيَّن له من اجتماعِكُم، فإن كان أمرُكم على ما أتَتْني بِه كُتُبُكم، وأخبَرَتني به رُسُلُكم، أسرعتُ القُدومَ إليكُم إِن شَاء اللهُ، وَالسَّلام".
الرسائل المتكررة من الكوفيين للحسين، ستظل حاضرة في الوعي الشيعي عبر العصور، لتشهد على حجم الخيانة التي تعرض لها الحسين، وكيف أن الجزء الأكبر من أهل الكوفة قد تخلوا عن مساندة حفيد الرسول بعد فترة قصيرة، ليتحقق فيهم قول الفرزدق للحسين: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك".
"هيهات منا الذلة"
في طريقه إلى الكوفة، فوجئ الحسين بجيش الأمويين وقد أحاط به، وتأكد حفيد الرسول من نكث الكوفيين لوعودهم التي سبق وأن قطعوها له في رسائلهم. جيش الأمويين طالب الحسين بالاستسلام بدون قيد أو شرط، وبأن يصطحبه معه إلى الخليفة يزيد، ليرى فيه رأيه، ويحكم عليه بما يستحق.
حفيد الرسول رفض الاستجابة لتلك المطالب، وخطب في الجيش المحاصر له، خطبة بليغة عبر فيها عن موقفه الشجاع الرافض للذل أو التنازل، وكان مما جاء في تلك الخطبة: "ألا وإنّ الدعي بن الدعي –يقصد والي الكوفة عُبيد الله بن زياد- قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وطهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر".
صارت عبارة "هيهات منا الذلة"، التي وردت على لسان الحسين قبيل مقتله، شعاراً من شعارات الشيعة فيما بعد، إذ رفعها العديد من قادة البيت العلوي في ثوراتهم، تعبيراً عن رفضهم للخضوع للسلطة الأموية والعباسية
تلك الجملة تحديداً، "هيهات منا الذلة"، صارت شعاراً هاماً من شعارات الشيعة فيما بعد، إذ رفعها العديد من قادة البيت العلوي في ثوراتهم، تعبيراً عن رفضهم للخضوع للسلطة الأموية والعباسية.
"ألا من ناصر ينصرني؟"
وقف الحسين بن علي مع مجموعة قليلة العدد من أهل بيته وأنصاره، أمام جيش قوي، عظيم العدد والعدة، واستعد الطرفان لبدء قتال غير متكافئ.
الملاحم والمراثي البكائية الحسينية، صورت الحسين في هذا الوقت وقد علا صوته بين الناس مردداً: "ألا من ناصر ينصرني؟"، وكأنه قد أراد أن يقيم الحجة على من شهد تلك المأساة الدامية، حتى يميز من يقف في صف الحق والعدل، عمن رضي بالظلم والجور.
بحسب ما يذكره ابن كثير، في كتابه "البداية والنهاية"، فإن الحسين رخص لأتباعه القلائل في تركه والانصراف عنه، وأعفاهم من مؤنة الوقوف معه في هذا المشهد الصعب، ولكنهم رفضوا ذلك، وقاموا للقتال بين يدي الحسين، حتى قُتل منهم ثلاثة وعشرين رجلاً.
المصادر الشيعية تحدثت عن البطولات العظيمة التي قام بها هؤلاء الرجال قُبيل استشهادهم، فها هو العباس بن علي، أخو الحسين، يقاتل في سبيل الحصول على الماء لسقاية الحسين، قبيل أن تُقطع يداه ويُقتل. وها هو زهير بن القين، يدافع عن الحسين حتى يقع في ساحة المعركة مضرجاً بدمائه. أما الحر بن يزيد الرياحي، والذي كان أحد قادة الجيش الأموي، فإنه يستجيب لنداء الحسين، فيتحول من معسكر الأعداء إلى معسكر حفيد الرسول، ويقاتل بين يديه حتى يقضي نحبه. وفي السياق نفسه، يستجيب وهب النصراني لدعوة الحسين، فيترك عروسه وأمه، ويندفع إلى المعركة، مصدقاً الرؤيا المنامية التي بشرته بالشهادة، فيقاتل الأمويين حتى يسقط وقد نهشته السهام ونالت منه طعنات السيوف.
كل تلك المشاهد البطولية، التي اختلطت فيها الوقائع التاريخية بالقصص الأسطورية، تداخلت مع بعضها البعض لتنسج مادة ضخمة للملحمة الكربلائية الحسينية.
"يا سيوف خذيني"
وماذا بعد أن سقط الأبطال، واحداً تلو الأخر؟
هاهو البطل الرئيس في الملحمة يتحرك نحو نهايته الموعودة، بثبات وشجاعة معدومة النظير. هكذا تخيل الشاعر العراقي الشيعي محسن أبو الحب، المشهد الأخير للملحمة، فعبر عنه بقصيدة في غاية الروعة والتأثير، وقد قُدر لأحد أبياتها أن يرتبط بمشهد سقوط الحسين بشكل وثيق، وهو البيت الذي ورد فيه:
إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، فيا سيوفُ خـذيني
هذا البيت الذي ضربت شهرته الآفاق، والذي يعلن بوضوح عن البعد الديني الإصلاحي في ثورة حفيد الرسول، تمكن من اختراق حُجب التاريخ نفسه، حتى اعتقد الكثيرون أن الحسين قد نطق به فعلاً في لحظاته الأخيرة، رغم أنه لم يزد عن كونه إبداعاً من شاعر معاصر.
"يا لثارات الحسين"
استشهد الحسين، وثار الشيعة بعدها معلنين عن رغبتهم في القصاص والثأر لابن بنت رسول الله. الشعار الرئيس الذي رفعه الثوار كان "يالثارات الحسين"، هذا الشعار الذي رفعه التوابون قُبيل هزيمتهم في عين الوردة في عام 65هـ، ورفعه المختار الثقفي أثناء انتقامه من الأمويين في معركة الخازر في عام 66 للهجرة، سيتحول مع مرور الزمن إلى شعار مقدس يلهب خيال الشيعة في كل مكان.
و قيل إن أتباع المهدي المنتظر سوف يرددون هذا الشعار في ملاحم آخر الزمان، فبحسب ما يذكر محمد بن جعفر المشهدي، في كتابه "المزار"، فقد ورد في زيارة المهدي: "السلام على الإمام العالم، الغائب عن الأبصار، والحاضر في الأمصار، والغائب عن العيون، الحاضر في الأفكار، بقية الأخيار، الوارث ذا الفقار، الذي يظهر في بيت الله ذي الأستار، وينادي بشعار يا لثارات الحسين، أنا الطالب بالأوتار، أنا قاصم كل جبار، أنا حجة الله على كل كفور ختار، القائم المنتظر بن الحسن عليه وِآله أفضل السلام".
والجدير بالملاحظة، أن شعارات الحروب سوف تدخل بشكل أساسي في بنية الملاحم والحروب على مر القرون، وفي شتى حقب التاريخ الإسلامي بعد كربلاء، فمثلاً، سيرتبط فتح عمورية في 223هـ، باستغاثة إحدى المسلمات الأسيرات بالخليفة، في ندائها الشهير "وامعتصماه"، بينما سيأخذ الشعار شكلاً أكثر تديناً في أحيان أخرى، ومن ذلك ما وقع عند نداء السلطان المملوكي سيف الدين قطز، بكلمته الشهيرة "وا إسلاماه"، عندما اشتدت الحرب بين المماليك والمغول في معركة عين جالوت في 658هـ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 12 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت