شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"ارفع البلاء عن أرض حاطي"... هكذا تولّى ملوك الحثيين محاربة الأوبئة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 25 أغسطس 202006:05 م

"يا إله العواصف في ‘حاطي‘، يا إلهي! ماذا أنت فاعل، يا مولاي؟ تسمح للبلاء بأن يحتل أراضي "حاطي" ويثقل عليها! منذ عهد أبي والناس يقضون، وحتى في عهدي أنا الملك ‘مورشيلي‘، كاهن الآلهة وخادمها، يستمر الموت. إنها السنة العشرون والموت لم يرفع يده عن أرض ‘حاطي‘. العذاب في قلبي أكبر من الاحتمال، والألم في داخلي أكبر من أي سلوى".

صلاة الملك الحثي مورشيلي- أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد (1620- 1590 ق.م)

هذه الصلاة هي إحدى الطقوس الدينية التي  عمد إليها قوم دعوا أنفسهم بالنسيين أو الحثيين، بحسب الاسم التوراتي لهم، حين تفشى وباء قاتل في أرضهم. لقد وجد الملك أن من مسؤوليته كراعٍ لقومه أن يقوم بهذا الطقس بنفسه. فما هي التدابير التي اتخذها ملوك الحثيين لمقاومة الأمراض والأوبئة؟ وما الفرق بين تدابير تلك الشعوب في الوقاية من الوباء والتدابير التي نتخذها اليوم في وقتنا الحاضر؟ وهل فعلاً سادت حرب بيولوجية بينهم وبين خصومهم؟

يجيب عن هذه الأسئلة تيو فان دينوت، بروفيسور اللغات الأناضولية والحثية في "المعهد الشرقي" بجامعة شيكاغو Oriental Institute، في بودكاست للمعهد حمل عنوان "الصلوات الحثية عند الوباء" حاوره فيه المحرر ستيف تاونسند.

أسباب البلاء عند الحثيين

يذكر البروفيسور دينوت أن انتشار الحثيين كان في الفترة الممتدة ما بين 1650- 1200 قبل الميلاد، وأن مملكتهم احتلت أجزاءً من الشرق الأوسط تشمل ما يعرف في وقتنا الحالي بالجمهورية التركية (الأناضول) وجزءاً من أراضي ما يدعى بالهلال الخصيب (إيران والعراق وسوريا ومصر). تلك المناطق كانت القوى الرئيسية في ذلك الوقت خلال النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد أو أواخر العصر البرونزي.

تولى ملوك الحثيين التصدي لأي بلاء يحل ببلادهم، لأنه بمثابة عدو خفي لا يستطيعون رؤيته، ولكنهم يحسون بآثاره المخيفة على شعبهم، ويعلمون أنه انتقام الآلهة لمعصية ارتكبوها هم أو أسلافهم، لذا كان التكفير عن هذه المعصية من واجباتهم الملكية

اعتبرت تلك الشعوب القديمة أن أي بلاء يحدق ببلادهم هو بمثابة عدو خفي لا يستطيعون رؤيته ولا يعرفون كيفية التصدي له، ولكنهم يحسون بهجماته وآثارها المخيفة على الجميع. ويشير دينوت إلى مصدرين رئيسين لتوثيق أمثلة عن هذه الكوارث والإجراءات التي اتخذوها لدى وقوعها: مصادر عامة لصلوات نقشت على معابدهم لرفع البلاء كالمرض أو الكوارث الطبيعية، ومصادر تحوي على نصوص تختص بأحداث معينة، تذكر تبعاتها بالتفصيل.

صلاة الملك الحثي مورشيلي عند الوباء

تسجل الأدلة الأثرية أن المصادر العامة هي نصوص وجدت للطقوس التي عمدت لها هذه الأقوام كلما انتشر وباء أو حلت كارثة طبيعية. حيث يدل وجود عدد ليس بقليل من هذه النصوص أن الحثيين والشعوب القديمة بشكل عام تعرضت لهذه الظواهر، ولذلك أوجدت طرقها للتعامل معها. أما الأدلة الأخرى فهي حول حادثةٍ بعينها تعرضت لها المملكة الحثية، وعموم منطقة الشرق الأوسط، بدأت مظاهرها بوضوح حوالي العام 1420 قبل الميلاد وهو تفشي وباء استمر في حصد الأرواح لأكثر من عشرين عاماً. تحتوي تلك المصادر على صلوات أداها الملك بنفسه للتشفع لدى الآلهة لرفع البلاء عن بلاده، وتذكر حتمالات لأسباب الوباء جعل على عاتقه التحري عنها بنفسه عبر النبش في أخطائه السالفة.

ويرجح دينوت من دراسته للنصوص الأثرية الحثية أن تلك الشعوب كانت تعزو أي ظاهرةٍ خارجة عن المألوف كالوباء والزلازل والفيضانات إلى غضب الآلهة وعقابها، حيث يقول: "من وجهة نظر الحثيين، فإن أي بلاء يعم البلاد يعني عقاباً مباشراً من الإله، لكن الإله لا يخبرك عن السبب، بل مهمة الفرد هي أن يعرف أي إله أغضب وما الذي تسبب بغضبه من خلال الطقس الديني المخصص لمثل هذه الأحداث".

وهذا، بحسب دينوت، قد يعني تقصي عدداً من الآلهة يقارب ألف إله، فالحثيون كانوا يفضلون إضافة الآلهة الأجنبية لمعابدهم. ومهمة الفرد هي خوض رحلة وجدانية روحانية يبحث من خلالها في ماضيه عن فعل صدر عنه أو عن أسلافه أو أحد أفراد أسرته تسبب في غضب إله أو إلهة، ويحاول بعدها تخفيف الغضب ونيل رضى الآلهة ليستعيد السلام والتوازن في حياته ويرفع العقاب عنه.

وباء من إله العواصف

تشير سلسلة من الصلوات التي يتلوها الملك الحثي مورشيلي إلى الوباء الذي تفشى واستمر في عهده، وفي مقدمة صلاته يذكر أنه انتشر في بلاده عهد أبيه ولا زال مستمراً: "منذ عهد أبي والناس يقضون... إنها السنة العشرون والموت لم يرفع يده عن أرض ‘حاطي‘"، وحاطي هو الاسم الذي أطلقه الحثيون على أراضيهم الرئيسية. وبحسب دينوت فإن النص يتابع على شكل ملامةٍ وعتب يائس للإله يوجهه الملك بعد أن لجأ لكل الآلهة وقدم كافة أشكال القرابين لتصفح عنه.

في كتابه "الأوبئة في مصر" (2005)، يقارن الكاتب سيرو تريفينساناتو بين ما تذكره الأدلة المصرية الفرعونية والحثية والتوراتية عن هذا الوباء الذي انتشر في شرق حوض المتوسط في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وبحسب ما وجده الكاتب في الأرشيف الملكي المصري، فإن الوباء في البداية انتشر في منطقة تمتد من قبرص إلى العراق ومن فلسطين إلى سوريا، ولم يصل مصر والأناضول بسبب نوع من الحجر الصحي فرضه العزل السياسي للحدود. وبعد قيام الحروب في وسط الأناضول، تفشى الوباء عبر الجنود الذين قاتلوا في غرب الأناضول وعادوا إلى ديارهم لينقلوا العدوى.

رجح الملك الحثي مورشيلي أن سبب الوباء في أرض حاطي يعود لخطيئة ارتكبت في عهد أبيه، وأخذ على عاتقه مكافحته عبر تقديم القرابين للآلهة وأداء الصلوات وطلب الغفران والرحمة لشعبه

يتفق هذا مع ما يذكره دينوت عن أن الملك مورشيلي في تقصيه لأسباب غضب الآلهة، توصل إلى ثلاث احتمالات لمعاصي ارتكبت جميعها في عهد أبيه وامتدت عواقبها إلى عهده، أولها هي أن أباه الملك توقف عن إيفاء النذور إلى إله نهر الفرات الواقع على الحدود الشرقية للملكة، فغضب وابتلى شعبه. والثاني، هو تورط أبيه بمقتل الملك الذي سبقه بعد أن عاهده الناس على الولاء مقسمين بالآلهة؛ والاحتمال الثالث هو النزاع الحدودي بين الحثيين والمصريين الذي انتهى بخرق الحثيين لمعاهدة السلام واحتلالهم للأراضي السورية الخاضعة لسيطرة المصريين.

الاتفاقية الحثية-المصرية

وسبب ترجيح الملك لاحتمال أن الحرب هي سبب الوباء يعود إلى أن المعاهدات في ذلك الوقت تضمنت على صيغتين صيغة "المباركة" وصيغة "اللعنة". في المباركة يقسم طرفا المعاهدة بعدد من الآلهة يسجلان أسماءها على أن تحل البركة والنعمة والسعادة الأبدية على الشعبين في حال التزامهما بالاتفاق. أما في صيغة اللعنة، فيقسم طرفا المعاهدة بنفس الآلهة على أن من يخرق البنود سيحل الدمار بشعبه وبلاده. ولهذا اعتقد مورشيلي أنه يتحمل انتقام الآلهة بسبب خرق أبيه للمعاهدة.

تجدر الملاحظة هنا، أنه برغم إلقاء الملك لأخطاء ارتكبت في عهد أبيه، إلا أنه تحمل المسؤولية كاملةً عن التحري عن هذه الأخطاء ومحاولة التكفير عنها. كما يظهر دور الحاكم الرئيسي في مكافحة الوباء، حتى في الطقوس التي تتولى ممارستها بنفسه كالصلاة وطرد الوباء، كما سنرى.

توتر العلاقات الحثية- المصرية

لقد حرص الحثيون على إنشاء اتفاقيات دفاع مشترك مع الممالك الأخرى، وكان المصريون من بين هؤلاء، فما الذي أدى إلى خرق بنود تلك المعاهدة بين الحثيين والمصريين؟

لدى تواصلنا مع المعهد المشرقي بجامعة شيكاغو، قدم ماثيو ويلتون، المدير المساعد لبرنامج المعهد، لرصيف22 حصرية الاطلاع على الجزء الثاني من بودكاست "الصلوات الحثية عند الوباء"، والذي لن ينشر حتى شهر سبتمبر من هذا العام. يروي البروفيسور دينوت في هذا الفيديو الوقائع التي أدت إلى خرق الاتفاقية، وبالتالي نقل الوباء الذي جلب الويلات على المملكة الحثية.

تبدأ القصة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد مع تأسيس الفرعون أخناتون لأول ديانة توحيدية سجلها التاريخ، والتي تتخذ إله الشمس وحده. وبعد وفاته، بدأت تظهر معارضة لهذه الديانة في البلاط الملكي نفسه في عهد خلفه الفرعون توت عنخ آمون، لتشهد المملكة ردةً إلى عبادة الآلهة المتعددة. سبّب هذا موت توت عنخ آمون في ظروف غامضة وفي سن مبكر. ولأن أرملته عنخ أسن آمون، التي كانت صغيرة السن وضعيفةً وقتها وبلا أبناء ذكور يرثون العرش، وجدت نفسها في مواجهة هذه المعارضة وحدها.

قدم المعهد المشرقي بجامعة شيكاغو اطلاعاً حصرياً لرصيف22 على الجزء الثاني من محاضرة البروفيسور دينوت، يروي من خلاله وقائع توتر العلاقات بين الحثيين والمصريين، وأسباب تفشي الوباء القاتل في المملكة الحثية

أرسلت الأرملة مبعوثيها إلى الملك الحثي شوبيليوليوما (والد الملك مورشيلي) طلباً في أن يزوجها من أحد أبنائه الخمسة لينصب فرعوناً لمصر. لم يأمن الملك الحثي جانب المصريين، خاصةً وأنه كان قد أرسل بجنوده ليحاصروا مناطق سيطرتهم على سوريا، فأرسل وفداً ملكياً يتحرى صحة مزاعم عنخ أسن آمون بنفسه. وبرغم موافقة شوبيليوليوما على إرسال أحد أبنائه، استغرقت رحلته فصل الشتاء بأكمله لصعوبة السفر بسبب قسوة المناخ من وسط الأناضول (تركيا) في مثل هذا الوقت من السنة.

الملك الحثي شوبيليوليوما (والد الملك مورشيلي)

ومن المرجح أن معارضي الملكة، استغلوا هذه الفترة لتقوية نفوذهم فما كان منهم إلا أن قتلوا ابن الملك الحثي حال وصوله إلى مصر وزوجوا الملكة من وزير توت عنخ آمون. شكل هذا إعلاناً للحرب بين الحثيين والمصريين، أدى إلى إرسال الملك الحثي لجيش كبير بقيادة أحد أبنائه، أحدث الدمار في الأراضي السورية التابعة لنفوذ المصريين وعاد بالغنائم وأسرى الحرب.

بقدوم هؤلاء الأسرى مع الجيش الحثي، انتشر الوباء في المملكة الحثية عن طريق هؤلاء العائدين من غرب الأناضول التي كان قد تفشى فيها الوباء كما أشرنا. ومن وجهة نظر مورشيلي، فإن عقاب الآلهة على نكث العهود مع المصريين تجسد بإصابة شوبيليوليوما وولده الذي قاد الجيش، ليكونا أول ضحيتين للوباء، ويبدأ بعدها عهد مورشيلي الذي توجب عليه أن يتحمل عواقب الوباء بنفسه.

التدابير الوقائية عند الحثيين

يرى الباحثون أن إرسال الحيوانات والأسرى إلى أرض الأعداء كي يرتدّ الوباء عليهم لم يكن طقساً دينياً بقدر ما هو حرب بيولوجية تهدف إلى إرسال المصابين لنشر العدوى بين الخصوم

يشير تريفينساناتو في كتابه إلى أن السجلات الحثية تصف أعراض الوباء بوهن في الركبتين وحمى وأوجاع في المعدة وبأنه شديد العدوى بين البشر والحيوانات على حد سواء. ولهذا يذكر دينوت أن الإجراءات الوقائية في ذلك الزمن لم تختلف كثيراً عن وقتنا الحالي، فقد تجلت بالحجر الصحي والعزل الاجتماعي وتغطية الوجه في الأماكن العامة لتجنب الإصابة.

يكمن الاختلاف الوحيد، في أن الحثيين لم يعتمدوا كثيراً على نجاعة العلم والطب في الشفاء بقدر ما اقتنعوا بطقوسهم الخاصة وبحثهم عن أسباب غضب الآلهة وسبل إرضائها. ومن هذه الطقوس الوصفة التي وجدت في أحد النصوص، بحسب دينوت، عن أنهم إذا اعتقدوا أن آلهة الأعداء هي التي أرسلت الوباء إليهم، قاموا بإحضار كبش مخصي للملك وإلباسه قبعةً على رأسه يحيكونها من الصوف الملون بالأحمر والأصفر والأبيض والأخضر والأزرق ليرسله الملك بنفسه إلى الأعداء آملاً بذلك في أنه يسوق اللعنة إلى خارج بلاده لترتد على أصحابها ويعود السلام إلى شعبه.

وفي وصفة أخرى يتبعونها عند غضب آلهة أعدائهم، يأخذون أسيراً وأسيرةً من الأعداء ليمثلا أمام الملك ويقوم بخلع كل ما يرتديه من ملابس لوضعها على الأسيرين، بعد ذلك يتوجه الملك إلى الآلهة بالقول: "فلتقبلوهما مني بأبهى حلة، ولترسلوا البلاء معهما من حيث قدما". غير أن النص الأثري يختتم بالقول "ولأن هذا الطقس لا يليق بالملك، ينوب عنه شخص آخر لأدائه".

يرجح تريفينساناتو أن هذه الطقوس لم تكن دينيةً بقدر ما هي أشبه بحرب بيولوجية تقوم على تبادل الحيوانات والناس المصابين بين الأقوام المتحاربة لنشر العدوى: " يمكننا القول إن الأطراف المتحاربة شاركت في تبادل الحيوانات المصابة بغرض إصابة الخصم. وبما أنه لم يتم توثيق هذا التبادل في النصوص السابقة، تعد حرب الأناضول 1320-1318 قبل الميلاد أول سجل معروف لما يعرف بالحرب البيولوجية. وهذا لا يعني أن هذه الحرب تم اختراعها في الأناضول وأنها لم توجد سابقاً، لكنها تعني أنها إما لم تكن موثقةً قبل ذلك، أو أن الوثائق قد فقدت".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image