استوقفني كلام صديقة لي قرأته في مقال لها، عن السبب الذي من أجله بقينا في هذه البلاد، عن حالنا اليوم بعد مرور عدد كبير من السنين على ذلك التاريخ.
"ذلك التاريخ"... يفضل أن يكون هذا المصطلح هو المنتشر كـ "ذلك المرض" أو "ذلك المكان"، والتي غالباً ما يُستخدم لتجنب الدخول في دوامة المفاهيم والتسميات التي خلقت ودائماً ما تخلق الخلاف.
اليوم، نحن في خضم الدخول بالسنة العاشرة من "ذلك التاريخ"...
لم يكن أحد في هذه البلاد ليتوقع أن نصل لهذا الرقم، أو هذه السنة، في هذا الحال.
لم ينفع انتهاء تساقط قذائف الهاون على دمشق بعدم استمرارها بقسوتها، ولم يكن مخولاً لصفحة دمشق 2020 والتي أنشئت وقدمت تخيلات مستقبلية عن دمشق في 2020 الذي نعيشه اليوم، في وضع أسوء مما كان عليه أثناء تساقط القذائف.
لم يكلل مجيء "عزيز مرقة"، "حفلات صيف دمشق" أو حتى أي نشاط تحت مسمى سوريا ما بعد الحرب، بالنجاح.
لم ينفع أيضاً تمسكنا بالفرح ولحظاته القليلة التي كنا نفرح بسرقتها عنوة من السنوات السوداء، لنرفع كأس حبيبة أو نخب نجاح ما.
تعاقبت العديد من المراحل وحصلت الكثير من الأحداث التي كانت، بشكل أو بآخر، تنذر بخطر ما هو قادم. لكن بالنسبة لنا، لم نشكك ولو لمرة واحدة بقدرة هذا المكان على النهوض. لعل كثرة الصور المرتبطة بطائر الفينيق، وعدم الاستسلام والمرونة التي تتصف بها بلادنا، ما كانت إلا خيال كتّاب تاريخ وجدوا في نشر هذه الصور ضالتهم، أو بالفعل كنا نحاول ألا نرى أي شيء يؤثر ولو بشكل بسيط على تخيلاتنا، أو لعل كثرة التماثيل المنتشرة المرتبطة بالانتصارات جعلت منا صيداً سهلاً لهذا الاعتقاد السائد.
من الممكن أننا كنا بحاجة لوالد "داي الشجاع" يحارب ابنه دائماً ليصبح أقوى، وعند كل هزيمة يعود بنسخة أكثر طموحاً. لسنا بحاجة ذكريات أجمل ما فيها لا يتعدى كونه الفرح بهدف للكابتن ماجد
بعد كثرة الخيبات التي استطاعت حجارة المكان إيقاظك منها عدة مرات، وتجارب المغتربين الذين يرون في شوارع الداخل ما لم يجدوه في أي من شوارع أوروبا.
أو لعل قول صديقتي المغتربة، بعد ليلٍ واحد في أحد الأماكن في باب شرقي، عن ضرورة وجود مثل هذا المكان في أوروبا، أعطاني الثقة بما يملكه هذا المكان من أساليب للاستمرار.
لعل هذه اللحظات جعلت منا شخصيات تهوى البقاء وتمجده ولو على حساب كل الكرامات والأحلام.
لم نكف يوماً عن الإيمان الذي وجدناه طوق نجاة آخر، لكنه أثبت يوماً بعد يوم أنه طوق يضيق بنا وعلينا.
حاولنا العودة بالزمن لحاجتنا لأي مصدر سعادة يعيد ثقتنا بما قررنا وبمن وثقنا.
لكن ما حصل كان مرتبطاً بشارة مسلسل عنوانه "أحلام كبيرة"، تبدأ كلماتها بـ " كل شيء ضاق... ضاق حتى ضاع".
بالفعل لم تجد أي محاولة لنا للتمسك بها من أجل البقاء، لم نكتفِ من ذكريات طفولتنا ولا من كلمات أهلنا، مدارسنا، بيئتنا، لم نكن نعي أن طارق العربي طرقان ورشا رزق، قد ملآ طفولتنا حباً وجمالاً وهم خارج بلادهم. كنا نرى المشاعر محصورة بمكان واحد وشوارع واحدة، لم ينفع معها عهد الأصدقاء ولا الأمل في "وتهدينا الحياة أضواءً في آخر النفق، تدعونا كي ننسى ألماً عشناه".
كان يلزمنا أي شيء قادر أن يزيل تلك الذكريات التي غرقنا بها، خلل ما من "أبطال الديجتال" يصيب ذاكرتنا، يجعلنا في رؤيةٍ حقيقية لما نحن عليه بعيداً عن كل ما عشناه وكل ما حلمنا به.
كنا بحاجة لأن ترتبط عشوائيات دمشق لدينا بشخص آخر غير "عبود" بطل مسلسل "الانتظار"، بشخصٍ يجعلنا غير مرتبطين بأسوء ما أفرزت هذه البلاد من فقر. كنا بحاجة لذاكرة تتجدد كل سنة، لا تُراكم أي شيء، لعل هذا كان ينفع في التخلي عن آمال بقاء أخرى.
من الممكن أننا كنا بحاجة لوالد "داي الشجاع" يحارب ابنه دائماً ليصبح أقوى، وعند كل هزيمة يعود بنسخة أكثر طموحاً. لسنا بحاجة ذكريات أجمل ما فيها لا يتعدى كونه الفرح بهدف للكابتن ماجد.
كان يقال: "نيال يلي إلو مربط خيل بالشام"، نحن الآن لنا في دمشق كل شيء، ولكن لا نملك في دمشق شيئاً.
تعلمنا أن "لكل فعل رد فعل".
من هذا المبدأ قدمنا كل ما نملك لهذه البلاد لكي تستمر. لم نخف من قذائف الهاون، ولم يقف في طريقنا قرار سيئ أو أسعار خيالية، لا تقنين كهرباء ولا اختفاء مادة ما: لقد بذلنا كل ما بوسعنا من أجل هذه البلاد.
ردة الفعل التي انتظرناها لم تأت بنفس القيمة ولا بعكس الاتجاه... لقد جاءت بصيف ملتهب وشتاء بارد وأشخاص يفترشون الشوارع، ولم تعد تنفع حنية المكان في شيء.
تلك البلاد لم تستوعب حجم إيماننا بها.
احتوت علاقاتها السامة ورفضتنا، رفضتنا بكل ما أوتيت من قسوة، وقدمت لنا الموت والبؤس والمرض والفقر والجوع.
كان يقال: "نيال يلي إلو مربط خيل بالشام"، نحن الآن لنا في دمشق كل شيء، ولكن لا نملك في دمشق شيئاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين