في علم السياسة، إن قيمة أي استحقاق دستوري يتحدّد بالمهام المنوطة به، فأهمية الانتخابات الرئاسية أنها تفرز من يقود البلاد، وأيضاً المجالس النيابية لأنها تأتي بمن يشرّع قوانين تسري على الملايين من البشر.
لكن هذا يحدث "في أوروبا والدول المتقدمة"، أما في مصر، فقيمة الاستحقاقات الدستورية تتحدد بمدى اهتمام النظام السياسي بها، وحاجته أو قلقه في بعض الأحيان منها، ومن ثم تأخذ زخمها وأهميتها!
لذلك لم يكن لدي أدنى شك أن انتخابات مجلس الشيوخ المصري ليس لها أي قيمة، هذا لا علاقة له بصلاحياته التي لا تتعدى كونه سلطة استشارية لا تشريعية، ولكن لأن الدولة لم تمنحه أي أهمية، فالقصة بدأت مع دستور 2014 الذي تم إقراره بعد تولي الرئيس السيسي الرئاسة، ثم تلته انتخابات مجلس النواب التي تعد أول التجارب للسيطرة على كافة الأمور.
وفي رأيي، بدا وقتها النظام السياسي قلقاً، رغم أن كل من ترشّح خضع للنظرة الأمنية واشتراطات التأييد المطلق للنظام، لكن ذلك لم يمنع القلق من المفاجآت أو من عدم قدرة الأحزاب الجديدة على السيطرة على الوضع السياسي، كما كان يفعل الحزب الوطني في عهد حسني مبارك.
لم يكن لدي أدنى شك أن انتخابات مجلس الشيوخ المصري ليس لها أي قيمة، هذا لا علاقة له بصلاحياته التي لا تتعدى كونه سلطة استشارية لا تشريعية، ولكن لأن الدولة لم تمنحه أي أهمية
أثبت مجلس النواب جدارته خلال خمس سنوات، مرر كافة القوانين المطلوبة، لم يعترض على أي شيء واطمأن النظام، لذلك ترك لتلك الأحزاب مهمة مجلس الشيوخ بكل ما تحويه الكلمة من معنى، واكتفى الرئيس بتعيين 100 نائب بحسب حقه الدستوري، لكن في النهاية لن تحدث مفاجآت مهما كان المرشح، طالما أن "السيطرة الأمنية" تمت على كافة المستويات، وأثبتت الأحزاب الوليدة قدرتها على تمرير ما يريد الحاكم.
تلك النظرة تأكدت لديّ أثناء جولة صحفية على بعض لجان انتخابات مجلس الشيوخ المصري خلال اليومين الماضيين، ولعل أول المشاهد التي توقفت أمامها كثيراً، هي تعامل أفراد الأمن أنفسهم، سواء مع الناخبين أو مندوبي المرشحين، والتي التزمت "بحيادية" أثارت فضولي!
فعلى مدار 10 سنوات، كنت شاهداً فيها على معظم الاستحقاقات الدستورية في مصر، كان لرجال الأمن دوماً دور حاسم خارج اللجان الانتخابية، وتحديداً مع أي فرد يقوم بدعاية لمرشحين أو أحزاب على خلاف مع السلطة، ففي دستور 2014 تم التضييق على كل من يحاول إقناع الناس بالتصويت بـ"لا"، وشخصياً شهدت احتجاز أحد الأفراد وقتها والتحقيق معه في عربة شرطة بسبب ذلك!
أما انتخابات مجلس النواب الأخيرة، فشهدت السماح لمندوبي مرشحين بعينهم بالدعاية ومنع آخرون لتوجههم المختلف سياسياً مع النظام، وخلال اليومين الماضيين لم يكن هناك أي تضييق أو تدخل، سمحت قوات الأمن لجميع المرشحين ومندوبيهم بالدعاية خارج اللجان ومخالفة القانون، ولم تعمل لصالح أي طرف، وذلك حسب رأيي، لأن جميع الأطراف هذه المرة مؤيدون للنظام، وليس فيهم من يثير الشكوك أو القلق.
أما المشهد الثاني الذي توقفت أمامه، فهو قواعد التباعد الاجتماعي الذي شددت اللجنة العليا للانتخابات على اتباعها بسبب فيروس كورونا. وفي اللجان التي تفقدتها، لم يكن هناك أي التزام بتلك القواعد، التي تشمل ترك مسافات بين الناخبين وارتداء الكمامات والتعقيم، وبعيداً عن أن القلة التي حضرت لم تلتزم، لكنني متفائل، لأن اللجان كانت شبه خاوية وبالتالي ليس هناك زحام من الأساس.
وفراغ اللجان الانتخابية من الناخبين كانت الظاهرة الأبرز خلال مجلس الشيوخ، وهو ما توقعه كثيرون، خاصة في ظل عدم اكتراث الدولة التي رفضت أن تكون أيام التصويت إجازة رسمية للموظفين كنوع من التشجيع، أو حتى إعلان أخبار عن غرامات لمن يتخلف عن التصويت كما هي العادة.
وفي اللجان التي شهدتها لم يكن هناك أكثر من 10 أو 15 شخصاً، رغم أن المسموح لهم بالتصويت في تلك اللجان يفوق الألفين، كانوا معظمهم من أقارب المرشحين أو مندوبيهم، حسبما سمعت البعض ينادي: "يا ولاد عم المرشح يا أخواته...". وقد أخبرني أحد قضاة اللجان أن نسبة الحضور في اليوم الأول لم تتخط الـ 3%.
أما الرشاوي الانتخابية وشراء الأصوات، فلن أبالغ في القول إن "مزاداً" كان هناك لشراء الأصوات، وللإنصاف، لم يكن هذا الأمر حكراً على قائمة بعينها، فالجميع انخرط في ذلك الأمر.
الانتخابات التي لم يحضر فيها أحد لن تكون البداية، وهي لا تتعلق بمجلس شيوخ ليس له صلاحيات، لكنها النموذج المقبل لكافة الاستحقاقات المقبلة: ستعلن أرقام رسمية لا تمت للحقيقة بصلة
وفي اللجان التي تفقدتها شاهدت تلك الرشاوي، فحزب "مستقبل وطن"، صاحب النصيب الأكبر من المرشحين لمجلس الشيوخ، منح بطاقة شراء مستلزمات غذائية بقيمة 100 جنيه لكل من يدلي بصوته لصالحهم، فيما عرض عليّ مندوب أحد المرشحين 50 جنيهاً مقابل التصويت لمرشحه، شرط تصوير بطاقة الاقتراع بالهاتف للتأكد من صحة الترشيح والحصول على الأموال.
أما تأجير أشخاص لتأدية أدوار خارج اللجان، مثل الرقص ووجود عربات تحمل أطقم صوت وتبث أغاني وطنية، وما إلى ذلك من مظاهر باتت أساسية في أي استحقاق دستوري خلال السنوات الخمس الماضية، تواجدت أيضاً أمام اللجان.
باعتقادي، إن تلك الانتخابات التي لم يحضر فيها أحد لن تكون البداية، وأنها لا تتعلق بمجلس شيوخ ليس له صلاحيات، لكنها النموذج المقبل لكافة الاستحقاقات المقبلة: ستعلن أرقام رسمية لا تمت للحقيقة بصلة، وسيصل من يريد النظام أن يصل، ولن يكون مطلوباً من المواطن الذهاب للجان، وسنظهر أمام العالم كأن لدينا مؤسسات ديمقراطية!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...