يأتي هذا المقال عقب تغطية رصيف22 للملتقى الثقافي السادس والثلاثين الذي يديره الباحث الإماراتي، سلطان سعود القاسمي، عبر الإنترنت، من خلال مؤسسة بارجيل، المتخصصة بالشأن الثقافي والفني. يهدف المجلس الثقافي إلى الجمع بين الإبداع الفكري والفني في العالم العربي، والبحث الأكاديمي في الولايات المتحدة، عبر إقامة حوار شامل يربط الشعوب والأفكار والثقافات.
حمل الملتقى (6 أغسطس) عنوان "إعادة تعريف الدمج" Redefining Inclusivity، وحاور فيه القاسمي ثلاث ناشطات في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والعمل الاجتماعي في كل أنحاء العالم، وخاصة في مجال دعم مختلفي/مختلفات القدرات: سارة منقارة، ريا الجادر وريم الإفرنجي، بحضور عدد من الناشطين العالميين، إضافةً إلى العديد من متابعي نشاطات مؤسسة بارجيل.
الدمج الحقيقي
يعرّف "الدمج"، بحسب المركز العالمي لمكافحة الأوبئة CDC، على أنه إشراك الأشخاص مختلفي/مختلفات القدرات، في النشاطات اليومية وتشجيعهم/ـن على القيام بأدوار مماثلة للأقران، ولأن هذا ينطوي على أكثر من مجرد التحفيز المعنوي؛ فإن المركز يؤكد على سريان السياسات والممارسات المناسبة في مجتمع أو منظمة بشكل يؤدي إلى خلق حياة اجتماعية فاعلة للجميع، كالحياة الطلابية أو العمل أو الصداقة أو الزواج أو الشراكة على مختلف الصعد.
وهذا ما تناولته الناشطة سارة منقارة من بوسطن، وهي ناشطة لبنانية، أنشأت منظمةً تعنى بالدمج الحقيقي لمختلفي القدرات، وهي مؤسسة منظمة "التمكين من خلال الدمج"ETI) Empowerment Through Integration)، منظمة غير ربحية، تعنى بدمج المكفوفين وغير المكفوفين، وقد اختيرت من بين شخصيات فوربس الـ 30 في مجال العمل الاجتماعي.
لدى سارة مرض وراثي أدى إلى فقدان بصرها بشكل تدريجي، حتى اعتبرت في سن السابعة مكفوفة قانونياً. ولأنها تلقت الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية من منظمات خاصة وحكومية، وجهت مشروعها في لبنان لغرس الثقة لدى الأطفال المكفوفين وتعليمهم مهارات الحياة.
والدمج الحقيقي، بالنسبة لها، يتجاوز الجانب التقني الذي يعنى بالبنى التحتية للدمج (برغم ضرورتها)، غير أن تهيئة المرافق العامة وحدها ليس كافياً برأيها لتحقيق الدمج، إذا ما أردنا تحري حقيقة أنه في حال وجود هذه البنى التحتية، هل البيئة المجتمعية مضيافة وتشعرهم بالانتماء؟ وتضيف سارة: "الخطاب الذي يبطنه اختلاف هؤلاء هو شعورهم الدائم بأنهم يعانون من نقصٍ ما، وأنهم أقل من الأشخاص الطبيعيين، وقد يؤدي هذا إلى رفض ما هم عليه أو محاولة إخفائه، أو حتى عدم المطالبة ببنى تحتية ملائمة لتلافي شعور أنهم يشكلون عبئاً على مجتمعاتهم".
يتجاوز الدمج الحقيقي لمختلفي القدرات إعداد البنى التحتية والتجهيزات التقنية التي تسهل الحركة إلى خلق بيئة مضيافة تحترم قيمتهم كأفراد فاعلين وجوهريين في مجتمعاتهم
كل هذا برأي سارة يعيق ظهور إمكانيتهم الحقيقية ومساهماتهم القيمة في مجتمعاتهم، ما يؤدي إلى إقصائهم واستبعادهم كأفراد فاعلين. والدمج الحقيقي بالنسبة لها يعمل على صعيدين "أولاً تمكين مختلفي القدرات من تقبل أنفسهم وتحقيق التوازن النفسي من خلال إدراك الجمال والكمال في النواقص، ومن جهةٍ أخرى، خلق خطاب مختلف أساسه القوة التي يمتلكونها، عبر خلق مساحات تمكنهم من أن يكونوا ذواتهم الحقيقية بمعزل عن شكل اختلافهم".
في حديث خاص لرصيف22، يخبرنا الدكتور يوسف ابراهيم، أستاذ مشارك ومستشار بقضايا التدريب والتطوير و التنمية البشرية و البحث العلمي والدراسات السكانية في جامعة الأقصى، عن تجربة دمج الطلاب من مختلفي القدرات في المدارس موضحاً أن للدمج أساسيات منهجية وتوعوية ومادية لتهيئة المجتمع المدرسي، لا تتوافر في معظم الأماكن و الفصول الدراسية التي يدمج فيها مختلفو القدرات إلا أنه يمكن تفعيل هذه الأساسيات بخطوات ومراحل مدروسة لتحقيق دمج إيجابي وفعال ومفيد للجميع.
من أهم معيقات الدمج التي يوضحها ابراهيم هي عدم تهيئة الأماكن بالأجهزة والمعدات اللازمة لعمليات الدمج، غياب المناهج الخاصة المدموجة داخل المناهج العامة، فقدان لغة التخاطب المطلوبة لنجاح الدمج بين الطلاب مختلفي القدرات والمعلمين، غياب الكوادر المؤهلة المتخصصة باللغات الخاصة للتواصل مع الطلاب ومشكلات في السمع، ومشكلات نفسية وسلوكية، وبطء التعلم.
لنبدأ من الأسرة
بحسب اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة (2006)، فإن الأشخاص مختلفي القدرات سواء جسدياً أو عقلياً أو ذهنياً أو حسياً ( كالاختلاف طويل الأمد مثل السمع أو الرؤية) والتي قد تجعل مشاركتهم الكاملة والفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين مختلفة، يجب أن يتمتعوا بحماية وضمان حقوقهم في التمتع الكامل والمتساوي بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتعزيز احترام كرامتهم.
ولأن الاتفاقية تنص في المادة الأولى من فصل "رفع الوعي" على أن الوعي بحقوق هؤلاء ينطلق من المستوى الأسري باحتضان أفراد الأسرة واستيعابهم وفهمهم لاختلاف أطفالهم، تتحدث ريا الجادر من لندن، عن هذه النقطة.
ريا هي ناشطة عراقية وكاتبة مستقلة ومؤسسة مشاركة وكاتبة ومحررة في مجلة Disability Horizons، التي تعنى بمنشورات تدعم حق مختلفي القدرات بالحياة التي يختارونها. ريا أيضاً مؤسسة مدونة Careless التي تخصصها لكل من يمتلك "حباً للحياة، المساواة وحقوق الإنسان". وقد أعلنت كحاصلة على منحة زمالة روزالين كارتر، لصحافة الصحة العقلية للعام 2020-2021.
يبدأ دمج مختلفي القدرات من النطاق الضيق للأسرة، عبر تنمية عقلية متقبلة للاختلاف لدى الأطفال، وتنشئة جيل لا يلجأ إلى التصنيف والتعليب والتنميط
تقول ريا للملتقى: "إن الدمج يبدأ من المنزل، فإذا خبأتنا أسرنا عن الناس، سنعتقد أن هذا هو الوضع الطبيعي لحالتنا". وتضيف "لقد كنتُ محظوظة لأنني تربيت في منزل أشعرني دائماً بالانتماء والاندماج، لقد كنتُ أشعر أنني أفضل من أخي وأختي أحياناً". وبالنسبة لها، فإن تنمية هذه العقلية المتقبلة للاختلاف للأطفال في المدارس هو جوهري في تنشئتهم كأفراد لا يلجؤون للتصنيف والتوصيف، واعتبار احتياجاتهم المختلفة عن الأطفال من حولهم وصمة عار أو مذمة.
تعترض ريا على مصطلحات مثل "ذوي الهمم"، "الاحتياجات الخاصة" أو "ذوي التحديات"، مؤكدة: "ليس دوري أن أكون مصدر إلهام لأي أحد لا ينبع إلهامه من ذاته". وتذكر عن هذا مثالاً عندما يأتي إليها الأشخاص وهي تتناول طعامها في مطعم أو تقود كرسيها المتحرك: "يقولون: ما تفعلينه هو مصدر إلهام لنا، بينما كل ما أفعله هو استخدام الملعقة كما يفعلون جميعاً".
ترفض ريا الصورة النمطية لمختلفي القدرات كأبطال رياضيين وحملة للميداليات "برغم وضعهم"، فهم برأيها يمكن أن يدخلوا جميع المجالات التي يرغبون، كالتمثيل والكتابة والتمريض والتجارة وغيرها: "بقدر ما يشمل الدمج شتى مجالات الحياة، بقدر ما يعكس ذلك صورةً عن أنهم أصبحوا مقبولين ومنتمين للمجتمع".
كرتون يشبه أطفالنا
لعل إلغاء الصور النمطية والأحكام المسبقة والممارسات الخاطئة المتعلقة بمختلفي القدرات، في جميع مجالات الحياة وتعزيز الوعي بقدراتهم ومساهماتهم هو الخطوة الأهم في جعلهم يتقبلون اختلافهم ويتكيفون معه. ومن هنا جاءت فكرة ريم الإفرنجي، ناشطة من عمّان- الأردن، لإنتاج مسلسل كرتوني يقرّب هذا الاختلاف إلى أذهان الاطفال من مختلفي القدرات ويشجعهم على التعامل معه بشكل طبيعي.
ريم، أم لطفلين كلاهما لديه تأخر تطوري عام، وهما السبب الرئيسي الذي حفزها لتأسيس موقع "حبايبنا.نت" الذي تستخدمه لإيجاد الوسائل لتسهيل دمج الأطفال مختلفي القدرات في المجتمع. وقد شاركت في إعداد وإنتاج مسلسل كرتوني للأطفال بعنوان "كلنا أبطال"، عرض على شاشة MBC3، تظهر شخصيته الرئيسية وكأنها تشبه أبناءها تماماً، بالإضافة إلى شخصيات كرتونية أخرى لأطفال مختلفي القدرات يعيشون مع أقرانهم. هدفت من خلال هذا المسلسل لتوصيل رسالة للمجتمع أنه لن يصل إلى المساواة إلا عبر دمج الأطفال، بغض النظر عن قدراتهم.
تروي ريم للملتقى أن ما ألهمها لإنتاج هذا المسلسل هو رغبتها في تصحيح المعتقدات الخاطئة التي تسود حول الأطفال من مختلفي القدرات، والتي اختبرتها شخصياً في تجربتها مع طفليها: "عندما كنتُ بانتظار تشخيص حالة طفليّ، كان التوحد أحد الاحتمالات القائمة، فقامت إحدى القريبات بمواساتي بقولها: هذا جيد، أسمع أن أطفال التوحد عباقرة، هم يصبحون علماء، وبالمقابل انتشر إعلان محلي متلفز كان يفترض أن يكون توعوياً حول أطفال التوحد، لكنه كان سلبياً تماماً ولا يظهر إلا الجانب المظلم استخدمت فيه مؤثرات موسيقية حزينة، فخشيت إصابة أطفالي بالتوحد".
تقول ريم، أنها من هنا أدركت أهمية الميديا في نشر المفاهيم الخاطئة أو الصحيحة وتغيير آراء الناس ومواقفهم حول الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. وبعد وقت مع أطفالها أدركت أن إحدى عناصر الميديا المؤثرة في الشرائح العمرية الصغيرة هي مسلسلات الكرتون، التي لم تجد فيها شخصية تشبه أبناءها وتجعلهم يشعرون أنهم ينتمون إلى هذا العالم. وحين اقترحت الفكرة على إحدى شركات الإنتاج، كانت الإجابة: "ما المسلي في برنامج كرتون يعرض شخصيات كهذه؟".
وهكذا، بعد أن وجدت ريم من يرعى فكرتها، أُنتج المسلسل على شكل مغامرات اجتماعية "تظهر اختلافنا جميعاً وفرادتنا كأشخاص نكمّل بعضنا البعض، لنعلم الأطفال أننا كلنا نملك نقاط قوتنا ونقاط ضعفنا على حد سواء، وأن فئات المجتمع من الأقليات يجب إدماجها بشكل فاعل".
دمج الجميع هو قيمة للجميع
يذكر التقرير الصادر عن المنظمة العالمية للعمل ILO لعام 2016، أن العالم يحوي ما يقارب مليار امرأة ورجل من مختلفي/مختلفات القدرات، وإدماجهم في سوق العمل، وفي المجتمع بشكل عام، يتطلب كسر الحواجز القائمة كي "تتمتع الشركات بفرص أكبر للاستفادة من إمكانيات هؤلاء ليس فقط كزبائن وعملاء، ولكن أيضاً كموظفين ومديرين، فتضمينهم في مجالات العمل يعني ربحاً مضافاً لكل أفراد المجتمع".
برغم هذا ترى سارة أن الشركات لا زالت تنظر من منظور العمل الخيري والخشية من العبء لدى توظيفها مختلفي القدرات، بينما يتوجب أن يكون الدافع برأيها هو قيمة هؤلاء الأشخاص والفاعلية التي يمتلكونها في شتى المجالات: "على المؤسسات والشركات أن تبدأ بحساب ما ستخسره من مساهماتهم في حال أقصتهم عن المواقع الوظيفية فيها"، تضيف سارة.
من جهتها، تتحدث ريا عن الاستخفاف الذي ما يزال يتعامل المجتمع من خلاله مع مختلفي القدرات والذي تجسد بصورة واضحة خلال الجائحة العالمية: "عندما بدأت تداعيات فايروس كورونا بالانتشار آلمني ما تردد على الألسن: لا تقلقوا لن تصيب إلا المرضى ومختلفي القدرات، وكأن الأمر طبيعي". لكن عندما بدأت كل الأحداث الفنية والعروض تقام على الإنترنت تكشف الجانب الإيجابي للجائحة، "شعرتُ بالسعادة والغضب في آن معاً"، تقول ريا.
أثبتت أزمة فايروس كورونا أن المؤسسات قادرة على إتاحة النشاطات الفنية والاجتماعية عبر الإنترنت، وأن الشركات بمقدورها متابعة أعمالها من المنازل، في حين أنها لم تتخذ هذه الخطوات سابقاً لتذليل عقبات الاندماج أمام الأشخاص مختلفي القدرات
تتحدث ريا عن معاناتها في متابعة اهتماماتها الفنية في المسارح التي لا تخصص أماكن لمختلفي القدرات، وكذلك عن الرفض الذي كان عليها أن تواجهه في كل مرة تتقدم فيها لعمل وتطلب أن تعمل من المنزل، "وفجأة أصبح العمل من المنزل هو التريند، إذن كان بإمكان المجتمع أن يجعل كل هذا متاحاً قبل الفايروس، لكنه لم يتخذ خطوات فعلية"، بحسب ريا، وتضيف: "ما يختبره العالم اليوم من حجر منزلي هو حياتنا الاعتيادية، هذا ما أعتبره مساواة".
تعتقد الباحثة والمستشارة المهنية إلاينا لافين، أن خلق ثقافة الدمج لدى الباحثين من شأنه إنجاح آليات البحث في المجتمع العلمي ككل، خاصة في ما يتعلق بإتاحة المصادر العلمية لمختلفي القدرات، وبرأيها فإن "المكاسب العلمية لا تتحقق إلا من خلال حصول الجميع على ما يحتاجون إليه ليكونوا أكثر إبداعاً وإنتاجية".
ولعل شحّ الموارد المعرفية باللغة العربية المتاحة لمختلفي القدرات، وندرة الكتب الصوتية والإرشادية لأهالي الأطفال، هو ما يحول دون تطوير المهارات العلمية للقراء باللغة العربية من مختلفي القدرات. تشير سارة إلى أنه لا توجد مصادر كثيرة عدا القرآن وبعض الأنشطة الأخرى، هذا ما دفع ريم إلى إنتاج مسلسل الكرتون الناطق باللغة العربية، وريا إلى جعل مدونتها ناطقة باللغة العربية ومتحدثة عن شتى المجالات الفنية والاجتماعية.
نود التنويه إلى أن المتحدثات في الملتقى أكدن على استخدام اصطلاح "disability"، إلا أن الجدل لا يزال دائراً حول استخدام لغة صحيحة وإيجابية تؤمن بالتعددية. في هذا المقال قررنا استخدام "مختلفي/مختلفات القدرات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع