نُكب لبنان منذ سنوات بانقطاعات الكهرباء. ويرى كثيرون من اللبنانيين أن عجز الدولة عن توفير الكهرباء بشكل يمكن الاعتماد عليه أصبح رمزاً لأوجه الفشل الأخرى في البلاد. وأصبحت عبارة "الكهربا راحت" من بين أوائل العبارات التي ينطقها الأطفال هنا.
كل يوم ينقطع التيار فتنطفئ الأنوار وتتعطل البرادات (الثلاجات) وأجهزة الغسيل لساعات عندما يتوقف التيار الوارد من شركة كهرباء لبنان المملوكة للدولة.
ورغم كل ذلك تُمنَى الشركة بخسائر تصل إلى ملياري دولار سنوياً تمثل نحو ثلث العجز في الموازنة اللبنانية.
وظهرت أزمة الكهرباء بشكل فاقع بعد انفجار بيروت، مع صور عمليات الإغاثة التي تجري في العتمة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
ومشاكل شركة كهرباء لبنان متجذّرة، ومنها عجز في الإنتاج يبلغ 1500 ميغاوات على الأقل، وسوء شبكة التوزيع التي تتسبب في هدر كبير، وسرقة التيار الكهربائي والتلاعب في العدادات ومشاكل التحصيل.
ويضطر اللبنانيون، بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، إلى الاعتماد على اشتراكات خاصة من مولّدات خاصة، على مستوى الأحياء، بثمن باهظ.
ويقدّر اقتصاديون أن اللبنانيين يدفعون حوالي 1.5 مليار دولار أو أكثر لهؤلاء المزودين الذين يوزعون الكهرباء على الأحياء من خلال مولدات صغيرة وشبكة من الكابلات تتدلى في كثير من الأحيان من أعمدة الإضاءة على نحو محفوف بالخطر.
ومنذ مؤتمر المانحين الذي انعقد في باريس عام 2018، أبدى البنك الدولي ودول غربية وعربية استعداداً لضخ مليارات الدولارات لمساعدة لبنان على ترتيب أوضاعه المالية والبنية التحتية بدءاً بالكهرباء، وذلك بشرط واحد هو أن تطبِّق بيروت إصلاحات من بينها إقامة هيئة تنظيمية للقطاع وتحديث الشبكة وزيادة الأسعار في نهاية المطاف إذ أنها لم تتغيّر منذ تسعينيات القرن الماضي.
أسباب طائفية للفشل
على مدار العامين الأخيرين ظل المانحون يراقبون الوضع محبَطين بينما انهار الاقتصاد اللبناني ولم تطبَّق أي إصلاحات وتجادل الساسة حول موقع بناء محطة كهرباء جديدة.
وكان السبب الرئيسي وراء كل ذلك هو الخلفية الطائفية والفئوية للنظام السياسي في البلاد التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة موزعين على مذاهب عدّة إسلامية ومسيحية.
ويريد أكبر حزب مسيحي في الحكومة، وهو التيار الوطني الحر، بناء محطة الكهرباء في منطقة مسيحية شمالية على شريط صخري يطل على ساحل البحر المتوسط بالقرب من قرية اسمها سلعاتا.
ويقول الحزب إن المحطة ضرورية لأمن الطاقة في لبنان. غير أن أحزاباً سياسية أخرى والمانحين الدوليين أثاروا مخاوف من هذه الفكرة لأسباب ليس أقلها أن سلعاتا ليست متصلة بشبكة الكهرباء.
وتكشف وثائق اطلعت عليها وكالة "رويترز" ومقابلات أجرتها مع أكثر من عشرة مسؤولين على دراية بالأمر كيف رفض التيار الوطني الحر تقديم أي تنازلات رغم تنامي علامات الاستفهام حول إمكانية نجاح مشروع سلعاتا وبعد أن أصبح جلياً أن المانحين لن يموّلوا المشروع في إطار الخطوات الفورية لإصلاح قطاع الكهرباء.
ومن بين المسؤولين الذين حاورتهم "رويترز" مصادر دولية مطلعة على أفكار المانحين وساسة لبنانيون كبار من مختلف الاتجاهات وناشطين في المجتمع المدني. وطلبت المصادر الدولية عدم نشر أسمائها لحساسية الأمر.
وقال مصدر دولي مطلع إن مجموعة البنك الدولي أثارت مخاوف بخصوص سلعاتا كموقع لمحطة كهرباء في 2018.
وقال المصدر إن التكلفة تتضمن استحواذ الدولة على أراض وردم مناطق من مياه البحر وهو ما يعني أن الاستثمار ليس مجدياً.
ولم يعلّق البنك الدولي عندما استفسرت منه "رويترز" عما إذا كان قد أطلع السلطات على هذه المخاوف.
"ليش السنّي بده يعمل معمل بدير عمار مثلاً والشيعي بالزهراني؟ ليش ما بده يكون في واحدة بمنطقة مسيحية؟ لسوء الحظ، هيدا البلد هو هيك"
وحددت خطة طوارئ أعدّها البنك الدولي لقطاع الكهرباء أولويات الحكومة المستقيلة في أول 100 يوم من الحكم. ودعت إلى بدء عملية شراء لبنان محطة كهرباء في الزهراني وهي منطقة يغلب عليها الشيعة في الجنوب وتُعتبر على نطاق واسع موقعاً مناسباً لأنها بالفعل مقر لمحطة كهرباء. ومن شأن ذلك أن يسهم في خفض التكاليف.
ونصح البنك الدولي بعدم السير في الخطط الخاصة بسلعاتا إلا بعد أن تستكمل الحكومة دراسة لتقييم الآثار البيئية والاجتماعية.
وفي إطار الجهود المبذولة لتوجيه لبنان، كلّف البنك الدولي شركة كهرباء فرنسا بوضع خطة لأقل الخيارات كلفة لتوليد الكهرباء في العقد المقبل. وتوضح مسودة لدراسة الشركة الفرنسية بتاريخ نيسان/ أبريل اطلعت عليها "رويترز" تفاصيل خارطة طريق لتلبية احتياجات لبنان، وقد حذف السيناريو الأساسي توليد الكهرباء في سلعاتا.
وتأخذ الخطة بعين الاعتبار إيجاد قدرات توليد جديدة في الزهراني وفي دير عمار وهي قرية سنّية في الشمال بالإضافة إلى مشروعات في مجال الطاقة المتجددة.
وقالت المصادر الدولية إنه تم استبعاد سلعاتا لأنها ليست مقنعة من الناحية التقنية.
وامتنع متحدث باسم شركة كهرباء فرنسا عن التعليق على التقرير وقال إن عمل الشركة كان أولياً بشكل كبير. وأضاف أن الشركة وقّعت اتفاقاً لتقديم استشارات مع البنك الدولي لوضع خطة أساسية لأفضل مزيج من الطاقة في لبنان وإن القرارات النهائية ستتخذها الحكومة.
وقال البنك الدولي لـ"رويترز" في رد مكتوب إنه أوصى حكومة لبنان بأن "أي محطة كهرباء يجب أن تمر بتحليل وافٍ للآثار البيئية والاجتماعية" ويجب اختيارها على أساس أقلها تكلفة.
وأضاف أن"من غير الواضح ما إذا كانت هذه التوصية نُفّذت بالكامل" وما هي الاستنتاجات التي خلص إليها التحليل.
في 14 أيار/ مايو بدا في نهاية الأمر أن الحكومة المستقيلة تمضي قدماً في خطة لزيادة الكهرباء المولدة. وذكر قرار لمجلس الوزراء صراحة موقع محطة الكهرباء الأولى الجديدة فقال إنها يجب أن تقام في الزهراني في الجنوب الشيعي. وقالت مصادر سياسية إن أغلب أعضاء مجلس الوزراء كانوا يؤيدون القرار رغبة في إحراز تقدم.
وقال دبلوماسي أوروبي وأربعة مصادر دولية أخرى مطلعة على تفكير الجهات المانحة إن المانحين رأوا في ذلك خطوة في الطريق الصحيح. وقال الدبلوماسي: "كانت خطوة ممكنة وعملية للأمام".
غير أن القرار سرعان ما اصطدم بعقبة سياسية أخرى. فقد قالت المصادر السياسية إن التيار الوطني الحر اعتبر الخطة محاولة لتنحية سلعاتا جانباً. وطالب الرئيس اللبناني ميشال عون بإعادة النظر في القرار مشيراً إلى أن الخطة الأصلية للحكومة لإصلاح القطاع اشتملت على ثلاث محطات إحداها في سلعاتا.
سألت "رويترز" رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عما إذا كان حزبه يدعو لإقامة محطة كهرباء في سلعاتا لأسباب طائفية فرد قائلاً: "طب ليه ما بتقول هيك عن اللي بده معمل الزهراني؟ ليه ما بتقول عن اللي بده معمل دير عمار؟ بس على معمل سلعاتا؟"
وفي جلسة عقدها مجلس الوزراء برئاسة عون في القصر الجمهوري بعد ذلك بأسبوعين أكدت الحكومة التزامها بالخطة الأصلية الموضوعة عام 2019.
وفي الوقت نفسه تقريباً، في أيار/ مايو، استخدم وزير الطاقة في الحكومة المستقيلة ريمون غجر عرضاً توضيحياً بالشرائح في اجتماع في مقر الحكومة لتذكير المانحين بأن سلعاتا لا تزال تمثّل أولوية.
واعتبر العرض الذي أعدّته وزارة الطاقة والمياه بتاريخ 18 أيار/ مايو واطلعت عليه "رويترز" أن الزهراني أنسب موقع لكنه خصص قسماً للحديث بالتفصيل عن موقع في سلعاتا لإقامة محطة كهرباء أخرى. واعتبر العرض سلعاتا ثاني أنسب موقع.
وقالت المصادر الدولية وآخرون حضروا العرض إن ذلك لم يلقَ قبولاً لدى المانحين.
"معمل مسيحي"
يسلّم المانحون بحق لبنان في اختيار مواقع إقامة محطات الكهرباء لكن لبنان يحتاج لأموال المانحين الذين أصابهم جمود الوضع بالإحباط.
وقال أحد المصادر الدولية المطلعة على الأمر: "تمويل محطتين للكهرباء سيكون صعباً وهم يريدون منّا تمويل ثالثة دون أي تفسير منطقي... الكل قال لهم لا بالنسبة لسلعاتا".
ويقول الناشط في التيار الوطني الحر في سلعاتا إلياس طالب إنه من المهم أن توجد محطة في المنطقة المسيحية، وهو ما يعكس التفكير الطائفي القائم في لبنان الذي انقسم إلى مقاطعات طائفية خلال الحرب الأهلية.
وقال طالب: "ما بتعرف شو معقول يصير بالبلد... حدا بيقدر يطفي الديجونكتور (مفتاح الكهرباء)".
وأضاف: "ليش السنّي بده يعمل معمل بدير عمار مثلاً والشيعي بالزهراني؟ ليش ما بده يكون في واحدة بمنطقة مسيحية؟ لسوء الحظ، هيدا البلد هو هيك".
وسألت "رويترز" رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عما إذا كان حزبه يدعو لإقامة محطة كهرباء في سلعاتا لأسباب طائفية فرد قائلاً: "لما بده ينحكى بلبنان إنماء متوازن وتوزيع مشاريع، هيدا الكلام ما بعود بصح على فريق وما بصح على فريق ثاني. طب ليه ما بتقول هيك عن اللي بده معمل الزهراني؟ ليه ما بتقول عن اللي بده معمل دير عمار؟ بس على معمل سلعاتا؟".
*بتصرّف عن تقرير نشرته وكالة رويترز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون