"أتعرفين ما هو الوطن ياصفية؟ الوطن هو ألا يحدث هذا كله".
عائد إلى حيفا... أتذكر جيداً كيف كانت مشاعري ترتجف كعصفور مذبوح وأنا أقرأ لأول مرة ملحمة غسان كنفاني التي جعلت الحرب قريبة إلى هذا الحد، بل ربما جعلتها رفيقة سكني، أتناول معها الفطور صباحاً وتمازحني مساء بأن تقتل أحبتي.
كنتُ حينها في المرحلة الثانوية، وكانت هذه الرواية مرشحة من قبل معلمة اللغة العربية، ربا حرارة، التي تنتمي الى أصول فلسطينية، لم تكن فكرة الحرب بعيدة عني تماماً، فقد مرّت حربان منذ ولادتي حتى بداية استيعابي أزمات الحياة، مرّت حربان بين ألعابي ودُمْاي. أتذكر كيف كنت أكره عادة والدي بمتابعة الأخبار طوال الوقت: ما يحدث في فلسطين، ثم بعد سنوات ما يحدث في العراق، ثم ليبيا، سوريا وبعدها اليمن، كنت محاطة بحروب لا تنتهي، حروب تتناسل من رحم شيطاني، حروب لا تدعني أكبر كما أريد، لا أرسل رسائل حب ولا أستمتع بتلقيها.
أيضاً كنت صغيرة جداً يوم جلست بقرب الجدة سارة، جارتنا الفلسطينية العجوز التي هاجرت من فلسطين مع زوجها منذ زمن طويل، تاركة خلفها عائلة وأقارب وذكريات، كانت تقصّ علينا في ليالي الشتاء الباردة نفس الأحاديث، في كل مرة نزورها ونلتف بجوارها حول موقد النار وفي حوزتنا كثيراً من المكسرات الفلسطينية المملحة والحلوى الرديئة التي لا يخلو بيتها منها، نستمع لحكايتها بشغف حين كانت صغيرة في الضفة، قبل أن يتهدم بيتها وتتشرد كغزال جريح. نتخيل بشكل طفولي الطائرات والصواريخ والدبابات وهي تطيح بحياتها، نتخيلها كأنها ألعاب كومبيوتر، تأتي الدبابة وتسير بهدوء على حياة مخضرّة ومورقة، على أعمار ممدودة كالسجّاد في الصالون.
كانت عيناها تلمعان دائماً وشيء من الحنين يكسو صوتها، كنت أظن أن الحرب مسألة تخصّ الرجال فقط، ويتضرر منها الرجال فقط، أما النساء فينشغلن بالحزن ودفن الأبناء والصلاة بتمتمات غامضة على القبور الرطبة.
في قصص الحروب اكتشفتُ أن الحرب ليس مسألةً تخص الرجال وحدهم، بل تستهدف أرحام النساء كجزء من استراتيجيات الإبادة. في تلك القصص عرفت أن للحرب انتهاكاتها المخيفة للإلفة، الحب، الحمل والولادة
في القصص الأخرى التي قرأتها عن الحروب، اكتشفت أنها تستهدف بطون وأرحام النساء، كجزء من استراتيجيات الإبادة، لأن ذلك يضمن موات الانبعاث العفوي للحياة، لأن في الحرب تلك الانتهاكات المخيفة للإلفة، الحب، الحمل والولادة.
الحرب خيالات نظام أبوي مقيت، قاتل متسلسل يستمتع باغتصاب جثث ضحاياه.
الحرب رفيقنا اليومي
التقيت في عام الحرب الأول على سوريا، بـ"نجود" في إحدى أزقة منطقة تسمى القيثارية، في مدينة أسيوط الواقعة جنوب مصر، منذ أن وقعت عيني على نجود أدركت أنها سورية، فملامحها الشامية الساحرة، جلبابها الرمادي البسيط، حجاب رأسها المكون من قطعتين بسيطتين ينتمي لنوع اسمه حجاب الأميرة، كل هذا أعادني إلى صديقاتي السوريات اللواتي رافقتهن طوال سنوات إقامتي في الاردن.
أصبحتُ صديقة نجود المقربة وربما الوحيدة هنا، كانت تشعر بالقرب مني، بالأخص أنني أدرك أبعاد ثقافتها كلها، فكان هذا يشعرها بشيء من الراحة. تسعة عشر عاماً هو عمر نجود، تربت في بيت عمها مع ولده وبناته الاثنتين لأنها يتيمة الأب والأم منذ صغرها، كانت في مرحلة البكالوريا حين حدث ما حدث، سقط حي "الحجر الأبيض" في حلب، وسقطت معه أحلام نجود الصغيرة. توفيت زوجة عمها إثر نوبة قلبية من توابع الحزن والخراب الذي أصاب البلاد. طلب عمها من ولده الذي استطاع أن يهاجر الى مصر في بداية الأزمة مع زوجته، أن يساعده على الانتقال إليها، مع ابنة عمه اليتيمة نجود وأختيه اللتين فقدتا زوجيهما مرة واحدة في هذه الأحداث. بعد وصول الجميع الى مصر، استقروا في بيت ابن عمها وزوجته وابنه الصغير. أمر عمها ولده بالزواج منها، بالأخص بعد تدهور صحته وشعوره بدنوّ أجله، وغير مبرر في الدين أو العادات وجود بنت عمه معه في بيت واحد دون وجود عمها أو زوجته أو عقد زواج، وكانت هذه الخيبة رقم ألف التي تصيب هذه العائلة المنكوبة إثر الحرب الفاجرة.
هناك قصص حية عن دمار الحروب الفاجرة مثل قصة نجود السورية مع حرب تشبه بجبروتها الآباء المتسلطين: كلاهما ضد الحب، وغالباً ضد النساء
تزوجت نجود من إحسان ابن عمها، تزوجته على زوجته التي كانت صديقتها الحميمة فأصبحت "ضرّتها". توفي عمها ودفن في مدافن الصدقات في أسيوط، وأصبح لديها ولد من ابن عمها، لكنه هجرها وأصبحت زوجته على الورق فقط بعد وفاة والده.
أصبحت نجود وحيدة، مرفوضة، مكروهة هي وولدها من زوجة زوجها التي كانت صديقتها، من زوجها ومن أختي زوجها اللتين حمّلتاها كل أزمات البيت، حتى أزماتهما الشخصية التي لا دخل لها بها. أصبحت تعمل في خدمة المنازل، فحلم الدراسة أصبح مستحيلاً لأنها هاجرت بشكل مفاجئ دون أوراق تعليمها، تعمل في مسح الأرضيات ومسح البضائع من الغبار ونقلها. تتحمل قلة النقود وكثرة المضايقات، بالأخص أنها تمتلك قدراً كبيراً من الجمال، من الاختلاف ومن الفقر أيضاً. تعمل في المنازل لتعود بما يسد حاجة ولدها الذي يكرهه ويكرهها كل من يسكن معهم، ولتساعد في طلبات البيت الذي يسكنه سبعة أشخاص، البيت الذي لا تمتلك منه إلا بضعة سنتيمترات فهو لا يتعدى الـ 70 متراً، ولا يعمل فيه سواها وابن عمها الذي يعمل في مطعم صغير.
قالت نجود: "عم يحترق قلبي كل يوم يا هدير"، وهي تجهّز "المتة" لنشربها سوية، لتقصّ مرارتها الجديدة ولكن بنكهة المتة وطعم القلب المحروق.
كان لنجود خطيب يعمل في السويد، تحبه ويحبها. قبل أن يتقدم لخطبتها استغرق ثلاث سنوات ونصف محاولاً إكمال بناء البيت الذي سوف يتزوجا فيه، حتى وقت خطبتهم لم يكن البيت قد جهز، فأكمل ما تبقى منه فيما بعد، من خلال قرض وديون ليتم الزواج في الوقت المتفق عليه، فضُرب البيت قبل أن تزف إليه نجود بأسبوع، ضُرب لتضاف الى أنقاض "الحجر الأبيض" في حلب كومة جديدة.
الحرب مثل الآباء المتسلطين، ضد الحب، وغالباً ضد النساء.
عين حورس
"صرخت عليه قولتله بالله بدكاش تطلع لفوق.. وضربته بالشوبك والسطل"، كان هذا جواب السيدة حاكمة سمور، حين سألتها بشيء من الفضول عن عينها المفقودة، حاكمة من جيل والدتي وصديقتها من غزة، تسكن حالياً منطقة الرصيفة في مدينة الزرقاء، الأردن، صرحت أمام فضولي أنها ربة منزل وأمٍ لست بنات، يغيب والدهم بالأيام لأجل لقمة العيش. وفي أحد أيام غياب والدهم هجم جندي إسرائيلي على منزلها لمضايقتها، كانت وقتها تنشر الغسيل على سطح بيتها، تاركة البنات الست الصغيرات في الأسفل. شعرت بالخوف عليهن حين جاءتها فكرة أنه يمكن أن يصيب أي واحدة منهم بأذى، بالأخص أنهم في الغرفة المجاورة له، فطلت عليه من شرفة السطح، لتشغله عن وجود الصغيرات وسألته: بدكاش تطلع لفوق.. وحين طلع سطح بيتها ضربته بالشوبك وبالسطل، فسقط أرضاً، بعدها حمل عود من أرض السطح وغرسه في عينها اليسرى.
تنظر حاكمة الآن بعين واحدة إلى فلسطين، وبعين قلبها تكمل رسم الخارطة.
تعالي بنيتي كعدي هنا أسولفلك
بجوار أم كرار العراقية جلست أستمع لمائة سبب تجعل النساء تكره الحرب أكثر من الرجال، موضحة بأنها تؤمن بفكرة أن الحرب نفسها تكره النساء أكثر من الرجال، من شدة كره النساء لها، أي أنها تبادلها نفس الشعور البغيض.
إن الحروب هي التجربة الأكثر جذرية في الانفصال بين الرجال والنساء، الرجال يموتون بصخب والنساء يبدأن بزيارة القبور وتهيئة الشاي للفطور، يمتن بصمت، وربما الكلمة الأصدق هي "النسيس"، يحترقن بهدوء وبطء، وهنّ يتابعن العمل على المطرزات وأغطية الطاولات
حدثتني أم كرار عن بنات عائلتها وكيف فقدن أزواجهن، كيف تترمل الصغيرة ويلاحقها عار الموت، وكيف تترمل الكبيرة وتعول أطفالاً كثيرين، كيف يختفي الآباء فجأة، وكيف تقلق الأمهات مع كل خطوة يبتعد فيها أزواجهن عن منازلهم، وكيف يصبح خبر الموت رحمة من القلق في قلوب الكثيرات أثناء اعتقال أولادهم، وكيف تقلب الحرب الموازين وتخرب الفرائض، تحول كل ذرة في الحياة الى عبث، وكيف تغتصب النساء أمام أطفالهن وأحياناً أزواجهن، وكيف تموّت الحسرة الرغبة بالحياة، وكيف تجهض الأحلام البسيطة، وكيف تصبح الحياة رمادية الى الأبد.
إن الحروب هي التجربة الأكثر جذرية في الانفصال بين الرجال والنساء، الرجال يموتون بصخب والنساء يبدأن بزيارة القبور وتهيئة الشاي للفطور، يمتن بصمت، بل ربما الكلمة الأشدّ تعبيراً هي "النسيس"، يحترقن بهدوء وبطء، ويتابعن العمل على المطرزات وأغطية الطاولات ويكتبن عليها بضعة أحرف قد تعني أنهن يتألمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...