"للبيع علّاقة ثياب خشب نوعية ممتازة، ويفضّل تبديلها على جوزين من الكراسي في حال توافرهما. المكان دمشق". "جرة غاز في حمص بحالة جيدة، أود تبديلها على مروحة صغيرة". "للبيع كرة سلة بعشرة آلاف ليرة، في مدينة اللاذقية". "فرشة عدد 2، الطول 190 العرض 90 السماكة 12. للبيع أو التبديل على طقم صحون زجاجية". "مكيف صحراوي للبيع بأعلى سعر".
هذه المنشورات، وغيرها العشرات وربما المئات، صادفتُها خلال جولة افتراضية دامت حوالي ثلاث ساعات، تصفحتُ فيها عدداً من مجموعات فيسبوك المختصة بالبيع والشراء عبر الإنترنت، ولها أسماء متنوعة مثل "مستعمل وجديد في دمشق"، "كل شيء مستعمل في حمص"، "للبيع مستعمل وجديد في سوريا"، "قديم وجديد في السويداء" وغيرها الكثير.
كان لافتاً عدد المنشورات التي يبحث أصحابها عن بيع أغراض مستعملة، سواء شخصية أو منزلية، مقدمين وصفاً مفصلاً لها ولحالها، وعارضين صوراً تظهرها داخل منازلهم وبعضها يعلوه الغبار، لكنه ربما ليس بالأمر المستغرب في بلد دخل عامه العاشر من الحرب، وتقدر الأمم المتحدة عدد من يعيشون في الفقر داخله بـ 90%. ظروف لا شك بأنها ستدفع كثيرين نحو التفكير بطرق جديدة لتأمين معيشتهم، قد يكون بيع أغراضهم أو مبادلتها على أغراض أخرى، أحد هذه الطرق، وإن كان مجرد حل مؤقت.
حتى الأغراض الضرورية تُباع
في حديث مع رصيف22، يشير ملهم الملهم، وهو مدير مجموعة "كل شيء مستعمل بالشام"، والتي تضم حوالي 100 ألف عضو، إلى "زيادة كبيرة ولافتة في الأشهر الأخيرة للمنشورات التي تعرض بيع أغراض مستعملة أو تبديلها مع أغراض أخرى، في انعكاس ولو مصغّر عن واقع السوريين الحالي داخل البلاد".
هذه الأشهر شهدت رفع المصرف المركزي لسعر صرف الدولار الأمريكي من 700 إلى 1250 ليرة في حزيران الفائت، وارتفاع هذا السعر في السوق الموازية لأكثر من ألفي ليرة، وترافق ذلك مع زيادة غير مسبوقة في أسعار كافة المواد، في حين بقيت معظم الرواتب والأجور على حالها، وهي لا تتجاوز بالمتوسط مئة دولار.
ويلاحظ ملهم من خلال إدارته للمجموعة الإعلان عن أشياء "لم يكن يتخيل بأن أحداً يمكن أن يعرضها للبيع"، على حد تعبيره، ومنها على سبيل المثال الملابس والأحذية، حتى القديمة منها، أو قطع الزينة التي تشتهر معظم البيوت السورية باقتناء العشرات منها، ويطلق عليها اسم "الصمديات".
"الأمر تعدى الرغبة ببيع غرض ما إلى الحاجة الماسة لذلك، حتى تلك الأشياء التي لا يمكن لأي عائلة اليوم أن تستغني عنها"، يضيف الشاب الذي يعمل مهندساً، ويضرب مثالاً عن إعلان لبيع غسالة قديمة للغاية ذكر سعراً مرتفعاً، ما أثار استنكار أعضاء المجموعة، فكان رد صاحب الإعلان "نحن اليوم سنتخلى عن غسالتنا ونلجأ للغسيل اليدوي بمقابل أن نأكل أنا وعائلتي. لا يمكنني المساومة على السعر".
ومن جهة أخرى، يلجأ العديد من أعضاء هذه المجموعة إلى مبادلة أغراض يودون بيعها على أخرى ربما يحتاجونها أكثر، وهي عملية "تتم بين من يملكون هذه الأغراض. فيرى أحد الأعضاء شيئاً يحتاجه ويتواصل مع صاحبه ليعرض مقابله شيئاً آخر دون دفع أي مبلغ، أو ربما مع فارق مادي بسيط"، كما يشرح ملهم.
بلد دخل عامه العاشر من الحرب، وتقدر الأمم المتحدة عدد من يعيشون في الفقر داخله بـ 90%. لا شك أن هذه ظروف ستدفع كثيرين نحو التفكير بطرق جديدة لتأمين معيشتهم، قد يكون بيع أغراضهم أو مبادلتها على أغراض أخرى، أحد هذه الطرق، وإن كان مجرد حل مؤقت
أحمد بانون، مهندس أربعيني مقيم في دمشق، يدير مجموعة "بيع وشراء مستعمل وجديد في دمشق"، وفيها أكثر من مئتي ألف عضو. يتحدث أحمد لرصيف22 عن "زيادة نسبية منذ حوالي العام للمنشورات التي يعرض أصحابها بيع أغراضهم المنزلية".
وتتعدد دوافع ذلك كما يقول أحمد، فمنهم من يريد السفر، والبعض يتعامل مع الأمر كعمل يحقق منه دخلاً معيناً، وهناك بكل تأكيد من يعاني أوضاعاً مادية سيئة تدفعه لبيع كل ما لا يحتاجه من أغراض منزله، وهو أمر يُشار إليه في بعض الأحيان عند كتابة المنشور.
"يمكننا أيضاً الحديث عن ازدياد نسبة المقايضة وتبادل الأغراض في الأشهر الأخيرة، وذلك ناتج عن عدم الرغبة بالاستمرار باقتناء ما هو غير ضروري، في ظل أوضاع اقتصادية آخذة بالتدهور. وفي الوقت ذاته ألاحظ توجه معظم الناس لشراء المستعمل، خاصة ما هو بحالة جيدة، لتجنب دفع مبالغ طائلة ثمن الجديد الذي بات خارج متناول شريحة كبيرة من السوريين، ونتحدث هنا بشكل خاص عن المفروشات ومستلزمات المنزل"، يقول أحمد.
تساعد المجموعات الفيسبوكية مستخدميها من السوريين اليوم بالوصول لحاجتهم دون وسيط... "فهنا التعامل مباشر بين البائع والشاري، بعيداً عن استغلال تجار المستعمل، والذين يعرضون بضائعهم للبيع بأسعار مبالغ بها في بعض الأحيان"
حل جزئي لكن عملي
تساعد هذه المجموعات الافتراضية دون شك السوريين اليوم بالوصول لحاجتهم دون وسيط، وفق رأي ملهم الملهم، "فهنا التعامل مباشر بين البائع والشاري، بعيداً عن استغلال تجار المستعمل، والذين يعرضون بضائعهم للبيع بأسعار مبالغ بها في بعض الأحيان". ويضيف أحمد بانون بأن هذه العملية توفر أيضاً تكاليف التنقل، التي باتت بدورها مرتفعة للغاية: "ونحن جالسون في منزلنا يمكننا تصفح ما هو متوفر، والاختيار ومن ثم المعاينة وبعدها الشراء أو المبادلة".
تؤيد هذه الفكرة ريم درويش، والتي تشترك عبر حسابها على فيسبوك بأكثر من خمس مجموعات متخصصة ببيع الأغراض القديمة والمستعملة في مدينة اللاذقية حيث تسكن: "هذه المجموعات باتت وسليتي للحصول على ما يلزمني بأسعار مقبولة نوعاً ما"، تقول الشابة الثلاثينية لرصيف22.
وتلجأ ريم لتصفح المنشورات بشكل أسبوعي تقريباً، حيث يمكنها "التقاط عروض جيدة لبعض الأمور الضرورية، خاصة الأغراض المنزلية التي بات شراء الجديد منها حلماً صعب المنال"، تضيف الفتاة التي تعمل في أحد محال بيع الملابس، وتحصل على دخل شهري يقارب التسعين ألف ليرة.
ومنذ شهرين، بدأت ريم بالتفكير بموضوع "المقايضة" كما تقول، حيث لاحظت وجود بعض الأغراض التي لم تعد بحاجتها في المنزل، "فلمَ الاحتفاظ بها في حين يمكنني الحصول عوضاً عنها على أشياء أكثر فائدة؟".
أتمّت ريم أول عملية مبادلة "ناجحة" كما تصفها، من خلال إحدى هذه المجموعات قبل أسبوعين، حيث حصلت على منشر للغسيل، شبه جديد، مقابل طاولة خشبية لا تستخدمها: "الفكرة مفيدة وعملية، وهي ملائمة لمجتمعنا اليوم، حيث نعاني من ضعف القدرة الشرائية، لكننا نرغب في الوقت نفسه باقتناء ما نرغب به أو ما يمكن أن يسهل لنا حياتنا"، تضيف.
من جهتها، وبعيداً عن مواقع التواصل الاجتماعي، تلجأ نورا معوّض إلى حلول المقايضة منذ أكثر من عامين، حيث لم يعد راتبها وراتب زوجها، وهما موظفان حكوميان، يكفيان حاجة الأسرة على الإطلاق، وهما لا يتجاوزان بمجموعهما مئة ألف ليرة.
"ما الضير في ذلك؟ كلما عثرت على غرض لا يلزمني في المنزل أبحث عن شخص يحتاجه من أقربائي وأصدقائي، وأطلب منه في المقابل أن يعطيني غرضاً من منزله يلزمني أكثر. الأمر نجح في كثير من الأحيان، وفشل لبضعة مرات، وهو من أكثر الخطوات التي اتخذتها في حياتي توفيراً للنقود"، تشرح السيدة الأربعينية المقيمة في دمشق، أثناء حديثها مع رصيف22.
لا ترى نورا أي حلول في الأفق لما تعانيه العائلات السورية اليوم من أوضاع اقتصادية صعبة، ومعظمها عاجز عن زيادة دخله مع التضخم الاقتصادي وندرة فرص العمل: "بذلك تشكل المقايضة حلاً وإن كان جزئياً، فهي لا تتطلب وجود المال، وتجعلنا قادرين على مساعدة بعضنا البعض بالموارد القليلة المتاحة بين أيدينا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...