لو أنني تمكنت من الجلوس مع المخرج الإسباني Galder Gaztelu-Urrutia إلى طاولة في إحدى مقاهي اللاذقية لنتبادل الكلام حول فيلمه الأخير "the platform"، لسألته: لو كان الجوع هوايةً مثل الرقص، وكان الرقص غريزةً، هل كنت ستجعل "غورينغ" يقتل شريكه في الغرفة لأنه متفوّق عليه بالرقص مثلاً؟ ترى كيف ستخرج فيلمك هذا لو كانت الغرائز هوايات؟
هذا الفيلم يُعدّ صورة مصغرة عن العالم الواقعي، إذ يضع النفس الإنسانية تحت عدسة مكبّرة تفضح وحشية الإنسان في حالة الجوع، وقابليته للتأقلم مع العنف عندما تفرغ معدته، كما تشهد الصور المحفوظة في الذاكرة الجمعية للبشر على ذلك. فمنذ أن سُمعت أول قرقرة لمعدة إنسان والبشر يتسابقون لتأمين لقمة عيشهم، تدور عجلات الاقتصاد بسرعة هائلة، ترتفع البورصات وتنخفض، المليارات من العملات تُكسب أو تُفقد بين ليلة وضحاها، أرقام ومعدلات دخل وإفلاس، إحصائيات لأغنى الدول ولتلك التي ترزح تحت خط الفقر، عدادات الموت اليومي بسبب الجوع وسوء التغذية تتصاعد بسرعة هائلة، كل ذلك لأن البشر محكومون بالغريزة، محكومون بالمخاوف، ومن بينها الجوع الذي يهدد البقاء.
في المطابخ الإيطالية الفاخرة يتسابق أمهر الطهاة لتحضير أشهى أطباق البيتزا والباستا، وفي مطاعم اليابان تُعد المئات من أطباق السوشي على مدار الساعة، تضاف التوابل اللاذعة بكميات مدروسة في بيوت الشرق الميسورة الحال، في حين تضمر بطون ملايين الجائعين في تلك البلاد نفسها، وعندما يقضون نحبهم لا يسد اللحم الذي يستر عظامهم رمق ديدان الأرض.
بسبب الجوع، أُبيدت قبائل ومُحيت شعوب عن بكرة أبيها، ومن أجل الأمن الغذائي شُنّت حروب أقامت الدنيا ولم تقعدها، مجاعات تكتسح الأرض وتتسبب بموت الملايين من البشر، فخلال مجاعة إيرلندا الكبرى (مجاعة البطاطس الأيرلندية)، انخفض عدد السكان بنسبة 25%، حيث قضى مليون بشري بسبب الجوع، أما في مجاعة روسيا التي حدثت عام 1921، فقتل الجوع حوالي خمسة مليون إنسان، والمجاعة الصينية الكبرى راح ضحيتها حوالي ثلاثة وأربعين مليون صيني، وفي أفريقيا يهدد الجوع حياة أكثر من عشرين مليون إنسان، رغم المساعدات الإنسانية المزعومة.
الغريزة هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن تعميمها فيما يتعلق بالجنس البشري، فغريزة البقاء هي المحرك الأساسي لكافة أفعالنا على مستوى الوعي واللاوعي. ولكن، ماذا سيحدث لو كانت الغرائز، مثل الجوع والعطش والجنس وغيرها، هوايات يمكن لأي شخص أن يمارسها لو أحب؟!
الغريزة هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن تعميمها فيما يتعلق بالجنس البشري، فغريزة البقاء هي المحرك الأساسي لكافة أفعالنا على مستوى الوعي واللاوعي. ولكن... ماذا سيحدث لو كانت الغرائز، مثل الجوع والعطش والجنس وغيرها، هوايات يمكن لأي شخص أن يمارسها لو أحب؟!
فمثلاً يتفنن بطريقة الأكل وإعداد الأطباق الشهية ويخترع أساليب متنوعة لأكلها، وإذا لم يأكل فإن ذلك لن يتسبب بإنهاء حياته في أي حال من الأحوال، بينما يكون العزف والرقص والقراءة وغيرها غرائز أساسية للبقاء على قيد الحياة. يُستبدل الطعام بالعزف، فيصبح من المستحيل العيش بدون العزف على آلة ما ثلاث مرات يومياً، لبضع دقائق أو لساعات، حسب الحاجة الجسدية، بغض النظر إن كان العزف عظيماً أم مجرد نشاز.
أما بالنسبة لشرب المياه فستعتبر واحدة من الهوايات الاستكشافية والتي تحمل في طياتها الكثير من المغامرة والترحال، حيث يبحث من يمارس هذه الهواية عن المياه العذبة في أعالي الجبال أو في الصحراء، أو يخزّن مياه الأمطار في أوانٍ فخارية ويعرّضها للشمس صيفاً كاملاً، أو يجمع قطرات الندى كل صباح في كأس صغير ليشربه مرةً في الأسبوع باعتباره مشروباً نادراً، ويمكن أن يقدم رشفة منه لصديق أو لحبيب... من جهة أخرى يكون تحريك الجسد بالرياضة والرقص غريزة ضرورية لعلاج الكثير من الأمراض الجسدية وبعض الأمراض الخطيرة، كالسرطان والزهايمر والحالات النفسية متوسطة الشدة، بحيث يجب على الإنسان البالغ أن يرقص عشرات المرات يومياً كيفما يشاء، بينما بالنسبة للأطفال فيكفي أن يقوموا ببعض الحركات الجسدية البسيطة طوال اليوم ليبقوا على قيد الحياة.
أما الجنس فسيكون هوايةً يمكن ممارستها بشكل فصليّ أو سنويّ لمن يرغب، وليس بهدف الوصول إلى النشوة أو إنجاب الأطفال، لأن ذلك يتم من خلال القراءة بشكل يومي، فعندما يرغب زوجان أو حبيبان بالإنجاب يقرآن معاً في سرير واحد ليبدأ الجنين بالتشكل داخل رحم المرأة
أما الجنس فسيكون هوايةً يمكن ممارستها بشكل فصليّ أو سنويّ لمن يرغب، وليس بهدف الوصول إلى النشوة أو إنجاب الأطفال، لأن ذلك يتم من خلال القراءة بشكل يومي، فعندما يرغب زوجان أو حبيبان بالإنجاب يقرآن معاً في سرير واحد ليبدأ الجنين بالتشكل داخل رحم المرأة، فإذا أرادا إنجاب فتاة يجب أن يقرآ خلال شهر واحد مسرحيتين؛ واحدة لسعدالله ونوس والثانية لبيراندللو، وديوان شعر لبورخيس وآخر لرياض الصالح الحسين، وروايتين لكتاب أمريكا اللاتينية، أما إذا أرادا إنجاب ذكر فيمكنهما أن يقرآ أي كتاب، حتى لو كان من إصدارات شعراء وروائيي اتحاد الكتاب العرب!
وعلى هذا المنوال يمكن أن تتبدل كل الغرائز إلى هوايات، وبناءً عليه، سيتغير الكوكب أخلاقياً واجتماعياً ونفسياً، وربما لن تكون هناك حاجة للبشر لأن يبتكروا أسلحة أو ينشئوا مصانع أو مختبرات سرية لتطوير الأسلحة البيولوجية، ربما سيتغير كل شي، ولكن هل فعلاً ستختفي الحروب؟ أم أنها ستبقى لتثبت أن البشر يستمتعون بالقتل؟ ستبقى لتثبت أن القتل لا يكون دائماً بدافع غريزة البقاء، أنه ليس محض غريزة، بل غريزة وهواية معاً، يمكنهما تحقيق متعة الانتصار وإثبات الذات والملكية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون