عندما كتب فيودور ديستويفسكي روايته العظيمة "مذلون ومهانون" في العام 1861، كان قد فقد كل أمل له في البشرية، من بين العديد من الأفكار العظيمة والمشاعر المتدفقة التي تمتلئ بها الرواية، يقف ديستويفسكي، وهي رواية أشبه بسيرة ذاتية، أمام وضاعة الجنس البشري، وما يمكن أن يصل إليه المرء تحت وطأة الذل والفاقة والشعور بالعجز.
لحسن الحظ، ثمة نساء في فلسطين يمتلكن من الشرف والنخوة ما لم تستطع أن تحوزه أمة بأكملها من "ذكور الضاد"
هو نفس الشعور الذي انتابني عندما قرأت منشوراً على فيسبوك يتحدث عن أمر لم أستطع تصديقه، رغم أني أظن أن الجنس البشري في كل مكان، يمكن أن ينحدر إلى مستوى لا نهائي من الفظاعة والقدرة على الاحتقار وارتكاب الجرائم، لكن أظن أن الوضع في هذه القصة سجّل رقماً قياسياً جديداً للوضاعة الذكورية في العالم العربي.
القصة ببساطة: امرأة فلسطينية من غزة، كتبت منشوراً على صفحة فلسطينية تدعى "سوق فلسطين الأول للبيع والشراء" في فيسبوك، تطلب فيها عملاً في تنظيف المنازل لأنها تعيل أطفالاً، وتتوقع أن يتنمّر عليها مجموعة من الأوغاد الذين يقومون بهذا عادة، فتطلب منهم بلطف أن يكفّوا عنها، لأن الوضع لم يعد يطاق.
ما إن نشرت كلامها هذا حتى بدأ سيل من الإهانات والرسائل الساخرة والتعليقات اللاإنسانية تنهال رداً على طلبها، أغلبها من رجال، كل هذا متوقع ومعهود، من مجموعة من "المذلين المهانين" الذين يتفاجؤون بمدى قدرتهم كل مرة على تجاوز "السكور" السابق في جرائم الشرف وإذلال النساء وإهانة المستضعفات منهن، لتسجيل رقم جديد في كل مرة يجدون ضحية.
المذلون المهانون الذين تفاقم إحساسهم بالذل والإهانة من قبل محتلهم ومن قبل سلطتهم الفاسدة وحكومتهم الأشدّ فساداً، فلم يجدوا إلا نساء فقيرات ليفرّغوا بهن طاقة الخنوع والإذلال التي طفحت من أفواههم.
المذلون المهانون الذين تفاقم إحساسهم بالذل والإهانة من قبل محتلهم ومن قبل سلطتهم الفاسدة وحكومتهم الأشدّ فساداً، فلم يجدوا إلا نساء فقيرات ليفرّغوا بهن طاقة الخنوع والإذلال التي طفحت من أفواههم
كل هذا معتاد، أصلاً لا أحد يتوقع أفضل من ذلك، أكثر من نصف التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تحوي عنصراً أو أكثر من التحرّش، التنمر والعنصرية، لكن بلغت الوقاحة بأحدهم حد أن يتلاعب بحاجة تلك المرأة وفقرها، وذلك بأن يرسل رسائل يدعي فيها رغبته بمساعدتها ويطلب منها حذف المنشور، وعندما استبشرت المرأة خيراً، وبدأ لسانها وقلبها الطيبان يكيلان له الدعوات، بادرها بكل وقاحة وبرودة قلب ليقول: "لتكوني صدقتي يابنت الشـ...، من وين لوين لأبعتلك ياشحادة ياصرماية..."، هكذا بكل بساطة.
لم يكتف بتجاهل المنشور كما فعل أغلب أبناء جلدته، ولم يُرض ذكورته المجروحة وضع تعليق ساخر فحسب، بل رغب، إمعاناً في الانتقام من رجولته المطعونة أصلاً، أن "يعلمها درساً في الشرف".
لا أكتب هذا وأنا أعتقد بأي نوع من العدالات، لا الإلهية ولا الأرضية، أكتب من غضبي فقط، أكتب خجلي من أن أتشارك أنا وهذا الشخص نفس الكروموسومات، نفس اللغة أيضاً ونفس الكوكب، أخجل لأني أتشارك وإياه نفس الهواء وربما نسمع نفس الأغاني وأيضاً، ولسخرية الأقدار، أعادي أعداءه.
منطقياً، عدوّ عدوي صديق، لكن الأمر لم ولن يكون كذلك، لا يمكن أن أتشارك أنا وهذا الكائن المشوّه حتى نفس الأعداء، فما بالك بالأصدقاء.
كنت أظن أني أقف بجانب مأساته وجرحه القديمين، وأن قضيته هي قضيتي ومصير أطفالي يتعلق بمصير أطفاله، لكني أجده الآن يقف في صفّ أعدائي، يمارس عليّ احتلالاً ليس أقل من الاحتلال الذي تعانيه فلسطين، يحتلّ اسمي، يزيّف مشاعري ويسرق نبلي، يدّعي أنه أنا ليغتصب امرأتي وأطفالي. هو ذكر (كما يقول DNAـآه) وأنا كذلك، هو عربي وأنا كذلك، هو مظلوم وأنا كذلك، لكنه من طينة أخرى، من أولئك "المذلين المهانين" الذين لا يجدون خلاصاً من فجوة تفاهتهم الهائلة إلا باضطهاد نساء أرهقتهن الحياة.
هذا الشخص هو نفسه الذي يمرّ بـ"جريمة شرف" على الطريقة العربية ويقول للأب أو الأخ القاتل: "تسلم إيدك... غسلت عارك"، نفس الشخص الذي يسمع صرخات فتاة نصف مذبوحة تركض في الشارع مستجيرة بحجارتها وبإسفلت طرقاتها، فيرفع صوت القرآن كيلا يسمع رحمة الرب من أرض الرب
هذا الشخص هو نفسه الذي يمرّ بـ"جريمة شرف" على الطريقة العربية ويقول للأب أو الأخ القاتل: "تسلم إيدك... غسلت عارك"، نفس الشخص الذي يسمع صرخات فتاة نصف مذبوحة تركض في الشارع مستجيرة بحجارتها وبإسفلت طرقاتها، فيرفع صوت القرآن كيلا يسمع رحمة الرب من أرض الرب، نفس الشخص الذي تستجير به امرأة فيغتصبها أو يفاوضها "الجنس مقابل الغذاء"، نفس الشخص الذي ضاعت على يديه الأراضي العربية في سوريا والأردن وفلسطين ولبنان والعراق ومصر، هو نفسه، أنيابه ومخالبه القذرة التي يشنق بها النساء، البقعة السوداء على جبينه التي تدلّ أنه يداوم على الصلاة ولسانه الذي يقطر سمّاً وفساداً، هو نفسه من يسمم الحياة أكثر مما تفعل النفايات النووية وأصناف الطغاة والمستبدين.
هو نفسه، المسعور المتحرّش في مصر، المجرم السارق لقوت الناس في سوريا وغاسل العار الهش في فلسطين والأردن، هو نفسه المحتلّ لكل أرض ومن يعيث فساداً في كل مطرح.
لحسن الحظ، ثمة نساء في فلسطين يمتلكن من الشرف والنخوة ما لم تستطع أن تحوزه أمة بأكملها من "ذكور الضاد"، ساعدن المرأة لتتجاوز محنتها، الجملة المعتادة هنا أن نقول: "امرأة أخت رجال"، لكن لا أظن أن امرأة عاقلة تستطيع أن تفخر بهذا اللقب في "بلاد العرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...